لماذا الركض والاقتتال والتسقيط والفضائح من اجل الكرسي والمنصب وبلا استحقاق ولا كفاءة

لماذا الركض والاقتتال والتسقيط والفضائح من اجل الكرسي والمنصب وبلا استحقاق ولا كفاءة

د. سمير ناجي الجنابي

كل العالم اليوم في حالة تطور متسارع بسبب سعي الدول الدائم لتحقيق طموحات مواطنيها التي لا تنتهي وتوفير حياة خالية من المشاكل، والتطور في أية دولة تقوده الحكومات ولكنه لا يحدث في ظل حكومة واحدة ولابد من تعاقب مستمر يحدث بصورة منتظمة حتى تسعى كل واحدة لتصحيح أخطاء التي قبلها وتحقيق إنجاز أكبر يحسب لها، وعليه فالدول التي تتغير فيها الحكومات بطريقة ديمقراطية هي الأكثر تقدماً من الدول التي تحكم فترة طويلة من قبل حكومة واحدة، ولسنا بحاجة إلى أن نضرب الأمثال فمحيطنا العربي والأفريقي مليء بتجارب الجمود التي تسببت فيها الحكومات التي ترفض تفسح المجال لغيرها والسودان خير مثال.

في عهد الاستعمار الانجليزي يحكى أن الحاكم سأل أحد أعيان القبائل عن من ولي عليهم فقال له لا عيب فيه سوى أنه (يلطش او يلتصق) وقد كان الرجل حكيماً اختصر كلاماً كثيراً في كلمة بسيطة، فالمسؤول عندما (يلطش او يلتصق) في المنصب يفٌسد ويُفسد، وواحدة من مشاكل العراق …..؟.

العمل في المناصب السياسية ليس ممتعاً بل مرهق نفسياً لمن يعرف العمل السياسي الواعي ولا يقبله الشخص ليستمتع به لنفسه بل من أجل الآخرين ولذلك حين يغادر فهو يفعل من أجل نفسه وإذا واجه أية صعوبة في تقبل تلك النقلة يجب أن يستعين بأخصائي نفسي يساعده في الخروج من هذه الأزمة النفسية. ولذلك في الدول المتقدمة عندما تنتهي فترة المنصب السياسي لا أحد يرفض المغادرة بل يقبل سعيداً لأنه يعلم أن التغيير فيه خير له وللدولة.

هنا في العراق كل من أهدته الصدفة منصباً سياسياً أول ما يفعله هو تثبيت نفسه ويكتشف من الحيل ما لا يصدق ولا يتردد في الاستعانة بالدجالين والمشعوذين كما نسمع عن بعض ساستنا هذه الأيام فينسون المسؤولية ويصبح همهم البحث عن طرق تخلدهم في المناصب ويبذلون من أجل ذلك الغالي والرخيص .

أغلب المسؤولين مصابون بمرض المناصب فكلما تقلد أحدهم منصباً لا يغادر وهو راضٍ ، بل بعضهم يدخل في مساومة مع الحكومة ليبقى أو ينتقل من منصب لمنصب، وانتقلت العدوى للكثيرين ولا شيء أدل على ذلك أكثر فكل يبحث من خلاله على منصب، والأسوأ من ذلك لا يوجد لدينا دواء لمرض المناصب هذا، فالدواء الوحيد هو الدستور والقوانين والأخلاق وفي العراق لا قانون ولا الدستور ولا أخلاق، وهذا هو السبب الذي جعل هذه الحكومة (تطوِّل كتير) في السلطة فعشاق المناصب هم من دعموها حتى من الأحزاب الأخرى والحركات المسلحة , واضيفت اليها المليشيات والمجاهدين والولائين والمعارضة !

مساكين هؤلاء المشتاقين للمناصب فلقد باتوا يتغزلون بالكراسي للحد الذي وصل حد الجنون ؛ بل الى حد الهوس ينامون فيحلمون بأنفسهم بأنهم قد جلسوا على الكرسي فاذا ما افاقوا من النوم ووجدوا أنفسهم يعيشوا كابوس محزن فتجدهم يتمنون أن تحل مصيبه وكارثة وفضحيه تطيح بالشخص الجالس على الكرسي لكي يحل محله ؛ فلقد أتقنوا فن الانتظار طويلا للوصول الى الغاية مهما عذبهم الملل فنجدهم تتغير وتتفتح مساماتهم أكثر كلما جاءت سيرة أو ريحة أي منصب ؛ فلقد تعلمنا في علوم الادارة عندما يكون الشخص أكبر من المنصب تجده إنسان متواضع وعادل ومنتج حقا ؛ وعندما يكون المنصب أكبر من الشخص تجده مغرور وظالم وأحمق

!!! فهل صدق هذا العلم في وصف حالنا اليوم وما توصل اليه حال الكرسي من عله تسمي بمرض حب الكرسي !!! وهل هذا المرض منتشر بكثرة في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية أم الديكتاتورية !!! وهل هذه العله منتشرة بكثرة في الدول العربية أم الاوروبية !!! فلماذا إذن التمسك بالكرسي إذا كان أساس وجوده لخدمة الناس ومعاونتهم !!! ولماذا السعي والموت من أجل البقاء في منصب زائل بحكم الزمن وبحكم التاريخ وبحكم سنة الحياة !!!!

إن مظاهر التشبث بالكرسي رأيناها في الكثير من المؤسسات بمختلف أنواعها وأطيافها ؛ وقد انتشرت تلك الظاهرة بكثرة في البلاد العربية وازدادت في الأنظمة الديكتاتورية ؛ وقلت في البلاد الديمقراطية حتى باتت توصف بالفايروس الذي يسيطر على السواد الأعظم من المجتمعات؛ حيث أشارت الاحصائيات الاخيرة الي انه يصل أقل معدلاته في الدنمارك والسويد؛ فالمناصب دوارة الا في بعض الدول العربية حيث اعتدنا أن نسمع عن تولي شخصا ما منصبا لكنه بالعفل قد أحتل المنصب وطبعا هنالك فارق كبير بين تولي منصب أو احتلاله !!! ولا يمكن خلعه من منصبه إلا بمعجزة!!!

للأسف فقد يكون إنسانا فاشلا وتافها وجاهلا ؛ ولكنه يستمد قيمته من منصبه؛ فما إن يحتل المنصب حتى يتحول لخبير ليس كمثله خبير؛ ومن المؤسف أن كل صاحب منصب يجذب نحوه من المنافقين يشبعون غروره ويتلون عليه ما يحب أن يسمعه فقط؛ وكلما تحدثوا اقتنع الرجل ويزداد غرورا وتمسكا

بالمنصب.. ويزداد توحدا معه , والتوحد كما نعلم مرض يصيب الأطفال ؛ ولم يتوصل الأطباء لغاية الان لعلاج مناسب له فما زالوا عاكفون على معرفة أسباب انتشاره الواسع ؛ وأما التوحد مع المنصب فالحمد لله علاجه معروف وجلي لمن أرد أن يقتصه ويعالجه ؛ فالديمقراطية جلية وتأثيرها مثل السحر في علاج تلك الظاهرة فقد تجعل من يعتلي المنصب مدرك مهامه ويعمل على تنفيذها وانه لو اخفق في بعض جوانبها سيترك المنصب لمن يقدر ويعمل على انجاح هذه التكليف لأنه مدرك تماما بان منصبه ليس تكريما ولا تشريفا ولكنه عباره عن مسؤوليات جسام سيحاسب عليها أمام الله .

فالمناصب لا تدوم وما يدوم هو فقط النجاح في العمل والتميز به والتألق والاصرار على الوصول الى تحقيق الطموحات المهنية في مجال عملك والبعد عن العادات والمعوقات والصورة الخاطئة بالتمسك بالمنصب دون الارتقاء فإذا لم يغيرك المنصب؛ فبالتأكيد أنت من النوادر، ومن الذين لا ترهقهم الحياة، ولا يعني لهم زخرفها شيئاً، فحاول أن تقدم ما يساعد على التسهيل على العباد، ويصرف عنهم العناء والشقاء ، وما يبقى لك بعد أن تترك المنصب، ويذكر ما قدمت فتحمد وتشكر، ويدعى لك في ظهر الغيب، وإذا حدث العكس فستندم كثيراً، فلا تكن من النادمين ؛ فالتمسك بكرسي العمل دون التحرر منه والنظر إلى الارتقاء الوظيفي ما هو إلا سجن مهني؛ فالكراسي يا ساده ما هي الا حلقة تدور بين تشريف وتكليف !!!

المخلوع العراقي يكابر ، يحاول التشبث بمنصبه على الرغم من تصويت البرلمان على اقالته ، يعلن امام وسائل الاعلام ، بانه مازال طبقا للدستور صاحب الحق الوحيد للاحتفاظ بمنصبه ، لن يتخلى عن لقب صاحب الفخامة ، مؤكدا لقواعده الشعبية استمرار حضوره في المشهد السياسي ، ليقتص ممن وقف وراء مؤامرة تجريده من موقعه ، هذا النموذج لطالما ابدى تمسكه بالمشروع الوطني ، ندد واستنكر تكريس المحاصصة في تقاسم المناصب والمواقع ، فانتحل صفة رجل الدولة ، في محاولة لتمرير كذبة تمنحه المزيد من الاصوات في الانتخابات المقبلة .

النموذج العراقي المخلوع من منصبه ينطبق عليه المثل الشعبي الشائع (يسرح بالكنافذ ) يقال لشخص اذا حضر لا يعد واذا غاب لا يفتقد ، احيانا يرفع صوته ليسمعه الاخرون ، يرتكب حماقات ليثير انتباه من كان سببا في منحه مهنة رعي القنافذ في صحراء واسعة ، لا يجني منها منفعة مادية او اعتبارية .

زعماء قوى سياسية مشاركة في الحكومات المتعاقبة بعد الغزو الاميركي للعراق سيكون مصيرهم رعي القنافذ ، في حال وقوفهم ضد حركة الاحتجاج الشعبية المطالبة بإصلاحات جذرية ، بعضهم توجه الى دول الجوار للحصول على دعم لتشكل تنظيم سياسي جديد ، وآخر استقر في عمان لأجراء مقابلات مع فضائيات عربية ، يستعرض فيها وجهة نظره بخصوص مستقبل العراق ، محذرا من تداعيات ابعاد رموز وطنية تاريخية تمتلك قاعدة شعبية واسعة من مناصبها ، كانت حتى وقت قريب صمام أمان، ابعد البلاد من شبح اندلاع حروب اهلية، بمعنى آخر فسر انضمامه الى منتدى المخلوعين بمؤامرة خطيرة استهدفت مستقبله السياسي ، لذلك يريد العودة الى المنصب لتحقيق الاستقرار الامني والسياسي .

لماذا كل هذا الاقتتال من أجل المناصب؟

ألف لماذا… تلف خيوطها لمن ينظر حوله بدون عناء تحديق حواليك هنا وهناك في الإطار القطري وخارجه أيضا..

لماذا لا يدرك هؤلاء أن الكرسي دوّار.. ولو كسر منه أصغر مسمار سينهار، وما أدراك ما الانهيار، فالكرسي لا يدوم لي أو لك، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك..

لا .. ليس من حقك، ولا ينبغي لك، أن تنزعج لأنك تركت الكرسي الذي تجلس عليه لسبب أو لآخر.. أو ستتركه..

لا.. ليست مراكزنا هي التي تحدد شخصيتنا، ولا مكاننا هو الذي يبلور مكانتنا.. وإلا قل لي من فضلك:

من ذا الذي يتصور ولو للحظة واحدة أنه خالد ودائم وثابت؟! بالتأكيد هو إنسان واهم أليس كذلك؟ أنا اليوم هنا وغدًا في مكان آخر، كلنا نكمل كلنا في سلسلة واحدة، كل عليه أمانة يؤديها، وله رسالة يوصلها، وهذه سنة من سنن الخلق والوجود، وناموس الخالق في المخلوق! لا ينبغي أن تسول لي نفسي أنني دائم أو مخلد أو.. أو.. هذا مستحيل، فدوام الحال من المحال، وكل شيء مؤقت، له أجل وله وعمر افتراضي.

لكن أكثرنا يريد أن يعمر إلى ما لا نهاية.. وهذا أيضًا مستحيل..!

ليس المهم هو الكرسي الذي تجلس عليه، فالأهم من يدير الأوراق فوق الطاولة.. ليس المهم هو الكرسي، فالأهم من يجلس على الكرسي، من ذا الذي يستطيع إدارته وإنارته ويحفظ توازنه من الاختلال والاحتلال والاختزال؟

ومع أن الكثير والكبير والعديد من الكراسي في العالم من حولنا، سواء كان عالمنا الصغير أم عالمنا الكبير، تتغير كل يوم.. وبعضها يتداعى.. وكثير منها يتهاوى.. إلا أننا لا نتعظ بالبصائر من المصائر، ولا نريد، وترى هؤلاء النوعية من الناس سكارى بالمؤقت والمبهر والخاطف للبصر والهالك.. وما هم بسكارى، ولكن عذاب الكرسي وعذوبته: رائع ومروع.. !

هل أنت قادر على استيعاب معنى الكرسي ومتطلباته وتداعياته؟ إنه ليس قطعة خشبية، إنه أخطر من ذلك، في المعنى والمبنى، إن الكرسي معنى عظيم لكن أكثر الناس لا يعلمون، فهل تعلم يا طالب الكرسي على ماذا تأمر وتنهي؟ إن ذلك يستتبع المعرفة المحيطة، وأن تكرس فكرك وعملك، فها أنت كذلك؟

كل شيء هالك نعم.. لكن ليس الهلاك بمعنى الموت، ولكن بمعنى جدل الأشياء، وتوليد الأشياء من بعضها البعض، وحين ندرك ذلك، تستقيم أمورنا إلى أن تصفر أوراقها وتساقط من شجرة الحياة.. وكل طاولة لها كرسي.. وكل كرسي له من يجلس عليه.. لكن إلى حين.

الباحثون عن الكراسي يظنون أنهم نجوم.. ولهم حرية التصور الذي يستدعي التصديق في المطابقة والمقاربة..

نعم نحن نحتاج نجوماً تضيء الظلام والإظلام بحق، وصولاً إلى حقيقة الرؤيا وحق الرؤية.. نريد نجوماً ورموزاً، لا تعرض علينا صوراً شاهدناها من قبل آلاف المرات، ولا تسير بنا في طريق تعبنا من السير فيه.. كل عصر يحتاج أبطاله، وقد يكون هؤلاء الأبطال من الأنبياء أو الكهنة، من الملوك أو المحاربين، من المستكشفين أو المحترفين، من الفلاسفة أو الشعراء، لكن كل عصر من العصور يحتاج إلى بعض الأفراد غير العاديين الذين يستطيع الناس جميعاً، رجالاً ونساء، أن يتطلعوا إليهم كمثال يحتذى أو حتى كظاهرة جديدة تجذب الاهتمام.

ومن وجهه اخرى هناك- ينتشر في أوساط بعض المثقفين وأصحاب الشهادات العليا مرضٌ خطيرٌ مُعْدٍ وفتاك، هو مرض تسوُّل المناصب، وتبدأ أعراض هذا المرض بأن يظلَّ المريض دائم التفكير في كيفية الوصول إلى المنصب الأكبر، ويسيطر عليه شعور مستمر بالظلم، مهما علا منصبه، وتتملكه دوماً رغبة عارمة بالحصول على منصب أعلى.

ويلاحَظ أن المريض يكثر من الشكوى والتذمر والغيبة والاتهام والتجريح لمن هم أعلى منه منصباً، ولا يَمَلُّ من الحديث عن ذاته وصفاته ومميزاته وفضائله ومناقبه وتاريخه، وتجده يكرر ما يقوله مراتٍ ومرات، ويتلذذ بقصصه ورواياته عن نفسه، دون أن يشعر أنه يكرر حديثه، أو يُمِلّ السامعين.

ثم يصبح دائم الغضب والنقد لأصحاب السلطة الذين لم يكتشفوا مواهبه، ولم ينزلوه منزلته، فيهاجمهم في مجالسه الخاصة، لكنه يمدحهم ويتقرب إليهم وينافقهم كلما لقيهم أو لقي المقربين منهم، وقد يمدحهم بخطب بليغة، وكلمات رنانة، وقصائد طويلة، لعلهم يشفقون عليه بالمنصب الذي يحلم به، وهو في سبيل المنصب يتبلد، ويرضى بإهانة نفسه أمام الناس، ولا يهتم بازدراء الآخرين له، وسخريتهم منه، وتصنيفهم له بأنه من شعراء البلاط المتملقين المداحين، ثم في سبيل المنصب يصير مستعداً للكذب والكيد والتآمر والتزوير وحلف الأيمان الكاذبة، ثم يبدأ في تسويق نفسه، وإرسال من يطالبون له بالمنصب المنشود.

ثمَّ يتطوَّر المرض، فيدلق المريض ماء وجهه، ويفقد الحياء، ويطلب المنصب بنفسه، ويرجو ويتوسل ويلح ويحرد، ولا يمنع المريض عن هذه الممارسات المهينة سِنٌّ أو علمٌ أو شهادةٌ رفيعة أو مكانة اجتماعية، ولا تثنيه سخريات وإهانات من يتوسل إليهم، وتجده يطير فرحاً إذا حصل على ما يريد، ويحزن ويكتئب ويمرض وربما يُنقل إلى المستشفى إن وُزِّعت المناصب دون أن ينال منها شيئاً.

ومخاطر هذا المرض تكمن في أنه يصيب الفئة المثقفة المتعلمة في المجتمع، فيشلّها، ويُقعدها ويُعطِّل دورها الدعوي والتربوي والتعبوي والعلمي والتعليمي والجهادي؛ لأن القيام بهذه المهمات العظيمة يتطلب ذهناً صافياً، ونفساً راضية، وهمة عالية، وقدوة صالحة، ولهجة صادقة، وحماساً شديداً، وجرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي صفات قتلها مرض تسول المناصب، ولم تعد متوفرة لدى كثير من المثقفين المتعلمين المصابين، ومن مخاطره أيضاً أنه يوصل كثيراً من المرضى وغير الأكفاء إلى مناصب مهمة، فيضرون الدولة أو المؤسسة، ويفشلونها، ولا يخدمون إلا مصالحهم الشخصية، إذ من المستحيل أن ينجحوا مَنْ ضحوا بكرامتهم وأخلاقهم ودينهم من أجل منصب دنيوي رخيص.

ومن المؤكد أنهم لن يُسَخِّروا تلك المناصب إلا في تحقيق مصالحهم، وقد بين النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الله تعالى قد تعهد بالتخلي عن إعانة من وصل إلى المنصب من خلال التسول، فقال:” لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إن أُوتِيتَهَا عن مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا من غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عليها”، ومن مخاطره أيضاً أنه مرضٌ مُعدٍ، لأنه يبدأ بالكبار الذين يُفترض أن يُقتدى بهم، ثم ينتقل إلى من هم دونهم سناً وعلماً وشهادة، ويظل المرض -إذا لم يُعالج بسرعة- يسري في المجتمع إلى أن يحوله إلى مجتمع متصارع لاهثٍ وراء الدنيا وشهواتها الرخيصة، ولا يُرجى منه بعد ذلك خير أو نصر.

وللقضاء على هذا المرض، وتخليص المجتمع من شره، لابد لأولي الأمر أن يتخذوا قراراً صارماً حازماً بألا يعطوا منصباً لمن سأله أو حرص عليه، متبعين أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – القائل:” إنّا والله لا نولي هذا العمل أحداً يسأله أو أحداً حرص عليه”، والقائل:” إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة”، عاملين برأي أهل العلم، الذين أفتوا بعدم جواز تولية من سأل الإمارة أو حرص عليها، ونصحوا بذلك، فقال سفيان الثوري: “إذا رأيت الرجل حريصاً على الإمامة فأخره”.

يخاف ولا يعرف مصدر خوفه، دائماً في حالة من الصراع والغضب على نفسه وعلى من هم حوله، زوجته وأولاده أول المعانين ويلاحظون عليه الكثير من التغيرات الانفعالية والمزاجية، علاقاته الاجتماعية الحميمة تبدأ في الانحسار، إذا كان مدخناً يزداد شراهة وتبدأ عليه ملامح الإرهاق والتعب ونادراً ما يخلو من أحد الأمراض المزمنة كالضغط والسكري أو القولون العصبي وبعض اضطرابات القلب، لقد كان إنساناً في حاله، في نفسه، ويستمتع بطعم الحياة ويسافر متى يشاء ويؤدي واجباته ولديه أهداف واضحة في الحياة إلى أن تولى “المنصب”! نسمع كثيراً عن أسطورة لعنة الفراعنة، وكما يبدو تلك الأسطورة ستنال من كل صاحب منصب في المملكة فحياته تنقلب رأساً على عقب عندما يعين في المنصب وتلاحقه لعنة المنصب في كل شؤون حياته، وعندما يعين تأتيه نشوة المنصب وتكثر التهاني والتبريكات ويلتم حوله أصحاب المصالح والمنتفعين والهتيفة والمرتزقة. ويتوقع أن المنصب تشريف وبعد وقت يفاجأ بأنه تكليف، ولأن التعين على المناصب القيادية والإدارية لا يخضع لقوانين ومعايير محددة في مجتمعنا فالناس الُمنصبون على المناصب يمكن أن تصنفهم إلى فئتين فئة تنصب بالواسطة والعلاقات الأسرية والحسب والنسب وتلعب المحسوبية والانطباعات الشخصية دورا كبيرا في تعيينهم نتيجة لمصالح معينة وعادة ما يفرضون على أي مؤسسة أو نظام على الرغم من ضعف كفاءتهم وقدراتهم وإمكانياتهم وما يتمتعون به من سمات شخصية لا تتناسب مع تلك المناصب والمؤسسات التي يتولون قيادتها، وهؤلاء في واد وغيرهم في واي آخر، وفئة أخرى من العصاميين المخضرمين المؤهلين بالعلم والخبرة والفكر الذين خدمتهم أفعالهم ووضوح أهدافهم وسيرهم الذاتية وإبداعهم ووضوح الرؤية لديهم وقلبهم على البلد، عندما يكرمهم ربهم ويتولون أحد المناصب ويفرح الواحد منهم أن هذه فرصة سيقدم من خلالها كل إمكانياته وخبراته ومؤهلاته ويفني نفسه في العمل وينسى نفسه وعياله ثم فجأة تتغير أحواله ويصبح دائم التوتر والغضب والمشكلات الصحية نتيجة الضغوط التي تنهال عليه، والتي ليست لها علاقة بعمله بل بشخصه، ويبدأ مقاومو التغيير وخفافيش المكاتب والغيورون من النجاح والحاسدون بإعداد سيناريوهاتهم المحترفة في بث الشائعات والهمز واللمز ورمى العقبات تلو العقبات والتفرج عليه وتقديم الأفكار التي في ظاهرها خدمة الناس وإنجاح العمل ولكن في باطنها عكس ذلك ليضعوه في مواقف محرجة أمام الناس والإعلام وما دام غير مسنود فالله يعينه، مما سينهال عليه من انتقادات ليس له فيها ناقة ولا جمل وإنما هي من فعل من يعملون لديه خلف الكواليس المعتمة وممن لا يريدون لهذا البلد الخروج من الظلام إلى النور والتطور والنمو وتبدأ عليه نتيجة تلك الضغوط عدم الشعور بالأمان والقلق على مستقبله ومستقبل البلد وعلى صحته وتنتابه مشاعر الحزن والألم والغضب فتشتت أهدافه وأفكاره ويحاول أن يقف موقف المدافع عن حقوقه وأفكاره إلى أن تستنزف قدراته ليطاح به وبمؤسسته. في الحقيقة إذا لم يكن هناك معادلة ومعايير واضحة تفرق بين التعيين والترشيح للتعيين فإن رأس الهرم الإداري في أغلب المؤسسات سينهار وستنهار قدراته وأداءه وإنتاجيته فكلا الفئتين السابقتين فئات خاسرة لأن كل فئة ستسعى إلى إرهاق الأخرى بأمور احترافية سلبية وإسقاطها من أجل أن تظهر على أكتافها وهذا الصراع يدور في حلقة نشطة من المؤشرات السلبية التي تؤثر وتتأثر ببعضها وتصبح هناك حالة من الإحباط والإزعاج والإهانة والتعدي تحرض الغضب غير الحميد عند الإنسان وتجعله عدواني أو منسحب لذا فإننا نحتاج إلى برنامج وطني تطعيمي ضد مؤثرات المناصب.

مرض التهافت على مناصب المسؤولية ؟؟؟ أشخاص كثيرون تراهم يتهافتون على طلب المناصب ويحرصون عل الفوز والظفر بها بكل الطرق والسبل …لأنهم يرون فيها الامتيازات والتشريف قبل المسؤوليات والتكليف !! وكثير من الناس يجهلون موقف الإسلام ممن يطلب المناصب ويحرص عليها، فطلب المناصب هو طلب المسؤولية وهو طلب حمل الأمانة التي قال عنها الله عز وجل في محكم كتابه : “إنا عرضنا الأمانة عل السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا “. فالدلالة اللغوية لكلمة أمانة هي ما فرضه الله عز وجل على العباد، وهي المسؤولية بالمعنى الشامل، وهي وديعة، وهي نقيض الخيانة، وكل هذه الدلالات تلتقي في المسؤولية. فهي وديعة فرض الله عز وجل على من يحملها أن يصونها ولا يخونها، ومعلوم في شرع الله عز وجل أن حمل الأمانة أو تحمل المسؤولية يقتضي الجزاء في حال الإحسان والعقاب في حال الإساءة ” ربط المسؤولية بالمحاسبة في القانون الوضعي..” لهذا أشفقت المخلوقات الجبارة من حمل هذه الأمانة وكانت أعقل من الإنسان وهو أصغر وأضعف مخلوق إذا ما قورن بالسماوات والأرض والجبال وذلك لجهله وظلمه المبالغ فيهما، لهذا جاءت صفتا الجهل والظلم فيه بصيغة المبالغة، فهو جهول في حق نفسه لأنه لا يعرف حقيقة ضعفه، وظلوم في حق نفسه لأنه يكلفها ما لا تطيق ويعرضها للعقاب من خلال عدم تقدير جسامة الأمانة والمسؤولية.

ومما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما :يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله أو أحدا حرص عليه ” والحديث متفق عليه. فهذا الحديث وقبله الآية الكريمة عبارة عن صفعة ترد الجهول الظلوم الذي يلهث وراء طلب المسؤولية إلى رشده. ففي ديننا الإسلامي الحنيف لا تعطى المسؤولية لمن يطلبها أو يحرص عليها لأن طلبه لها لا يخلو أن يكون أحد أمرين : إما مجرد طمع دون أهلية وكفاءة لتحمل المسؤولية، وإما أهلية وكفاءة وخوف على الصالح العام، وخوف من محاسبة الله في حال وجود أهلية وكفاءة مع عدم جعلها رهن إشارة الصالح العام، كما كان شأن نبي الله يوسف عليه السلام الذي كشف الله تعالى له حجب الغيب فرأى سنين القحط التي ضربت أرض مصر في زمانه، وأراه الله سبحانه وتعالى سبل تدارك آثار كارثة القحط فعرض خدمته على ملك مصر، ولم يطلب المسؤولية رغبة فيها بل عرض كفاءته وأهليته التي لم يكن أحد في مستواها، لهذا جاء في الذكر الحكيم : ” وقال الملك ايتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين امين، قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ” “سورة يوسف”. ومن خلال سياق الآية الكريمة، لم يعرض يوسف عليه السلام كفاءته وأهليته على الملك إلا بعد أن استأمنه ومكنه الملك، وقد عبر يوسف عليه السلام عن كفاءته وأهليته بقوله إني حفيظ عليم لتبرير طلب المسؤولية على خزائن الأرض، ولم يطلب المسؤولية رغبة في امتيازاتها كما طلبها الرجلان اللذان ورد ذكرهما في الحديث النبوي الشريف السالف الذكر أعلاه،فهذان الرجلان إنما فكرا في طلب المسؤولية رغبة فيما تدره من امتيازات، لهذا ردهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول حاسم مفاده أن المسؤولية لا تعطى لمن يطلبها ويحرص عليها لأنه يعبر ضمنيا عن طمعه في امتيازاتها ليس غير.

فالأصل في المسؤولية أو الأمانة أن تعرض فيشفق منها العقلاء الأكياس الذين يعرفون حقيقة كفاءتهم وأهليتهم من خلال مقارنتها بما لغيرهم من كفاءة وأهلية، فلا يتقدمون للمسؤولية مع وجود من تفوق كفاءته وأهليته كفاءتهم وأهليتهم. وأما أهل الجهل والظلم وهو وضع الأمور في غير ما وضعت له فيتهافتون على المسؤولية تهافت الفراش على النار، فيظلمون أنفسهم أولا بطلب ما ليسوا في مستواه من مسؤولية ثم يظلمون غيرهم بتعريض الصالح العام للضياع.

فأين نحن من هذه القاعدة الإسلامية المتبعة في تحمل المسؤولية ؟ أليس في بلادنا برلمانيون و وزراء ورؤساء المجالس البلدية وأمناء الأحزاب السياسية ورؤساء الهيئات النقابية قد نصبوا أنفسهم بطريقة أو بأخرى مدى حياتهم!!!، وفيهم من جدد مدد احتلال المنصب للمرة الخامسة وهو على وشك أن يتقدم للمرة السادسة، وسيتقدم للمرة العاشرة وحتى المائة إن طال به العمر كما تمسك بها من سبقه حتى بلغ أرذل العمر ولم يعد يعلم بعد علم شيئا ؟ وعلى غرار هؤلاء يسير من دونهم في المناصب والمراتب، فيتهافت المتهافتون على المناصب ويركبون كل مركب بما في ذلك ما حرم وما بطن من أجل أن يتقلدوا مناصب فوق طاقاتهم وفوق أقدارهم، وعوض أن يجدوا من يردهم إلى صوابهم كما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلين الراغبين في الإمارة والمسؤولية يجدون من يركبهم بدوره لأن في تقلدهم مسؤولية فوق ما يطيقون صيانة مصالحه الشخصية، ويلتقي طالب المسؤولية جهلا وظلما مع من يمكنه منها خيانة في خاصية الطمع في الامتيازات والمصالح الشخصية وكلاهما جهول ظلوم. وفات الجميع أن من طلب المسؤولية دون أهلية وكفاءة وجدارة غلبته وفضحه الله عز وجل، ومن قلد المسؤولية وهو لا يرغب فيها مع أنه أهل لها غلبه الله تعالى عليها وستر عليه كل تقصير.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here