المسؤولية والرؤية المستقبلية والكرسي الملتصق والحلم البنفسجي !!!

المسؤولية والرؤية المستقبلية والكرسي الملتصق والحلم البنفسجي !!!

د.جعفر القزويني

ربما يفترض البعض بأن مجرد الوصول الى كرسي المسؤولية والجلوس عليه وما يتمخض عنه، انما هو كاف ليحمل عنوان (مسؤول) بكل ما فيه من التزامات وضغوط ومشاغل ومشاكل واحراجات، وانه يعيش في ضميره ووجدانه لتحقيق كل احلامه الوردية في ارضاء الناس ونشر السعادة والرفاهية وزوال الفقر والحرمان وتحقيق الطمأنينة والامان واطلاق طاقات الشباب في الدراسة والالتحاق بالبعثات وبالوظائف التي تنتظرهم لخدمة المواطنين وتطوير البلد وتشغيل المعامل العاطلة واحياء الارض الجرداء ليجعلها بساطاً اخضر تجري من تحتها الانهار تدر الخير وتحول الاربعة عشر العجاف الى اربعة عشر خضر ويجعل من كل قطرة نفط ثروة للاجيال وكل ذرة تراب وكبريت وفوسفات اورقاً خضر لا تدخل الى جيوب احد بل تدخل في حسابات البنك المركزي العراقي، وتعود بالنخلة العراقية الى سابق عصرها الذهبي عندما كان العراق هو الاول في عدد نخيله وانواع تمره بعد ان لم يبق من النخلة سوى الجذع، وهذا هو البعض من طموحات الجزء الاول من احلامه الوردية التي ينام ويصحو وهي في خزانة ضميره ووجدانه لتحقيقها.. كما ان الجزء الثاني من احلامه الوردية تتجه لحقوقه الوظيفية التي يستحقها شرعاً وقانوناً لقاء المسؤولية التي تشكل قلادة ذهبية تطوق رقبته ومن حقه ان يتمتع بمزايا العصا السحرية التي (يهش بها على غنمه وله فيها مآرب اخرى) حين يفكر بالراتب المتواضع ومخصصات المنصب والمسؤولية والاختصاص حتى ولو لم يكن هناك اختصاص وبمخصصات الخطورة وحتى لو لم تكن هناك خطورة خطورة ومخصصات تحسين المعيشة ومخصصات السكن التي لا يليق بالسؤول ان يبقى ساكناً في احد الازقة القديمة، وبالايفادات المتتالية التي ينزعج من كثرتها واسطول السيارات الفارهة وكثرة الهدايا التي تبارك له المنصب من ماسحي الاكتاف، والمكتب الفخم الذي تفرضه تقاليد العمل واستبدال الاثاث من حين الى حين للحفاظ على وجاهة المنصب امام الزائرين والوفود والاعلام، والحاشية التي تحولت نحو عبادة الفرد،.

الا ان ما يؤلم هذا المسؤول هي المؤامرات التي تحاك ضده والاسقاط السياسي وعدم الشفافية وتداخل الاهداف وتجاذبات المحاصصة والحزبية والطائفية التي لا تجعله يتلمس طريقه في تحقيق اهداف الجزء الاول من الاحلام الوردية التي جاء بها الى كرسي المسؤولية، ويظهر في الفضائيات والصحافة والاجتماعات يشكو للناس خيبته في تحقيقها، ويروي قصص الفساد في الحكومة والدولة ويطلب الحلول من ابناء الشعب الذين يشفقون عليه ولسان حالهم يقول (هيا تعال معنا ننزل الى الشارع نصرخ سوية: اين حقي؟).

لكن قسم المسؤولية ومحبة الشعب والاخلاص للمصلحة العامة التي تعيش في ضميره ووجدانه تجعله يتمسك بالمنصب لتحقيق من الاحلام الوردية فقط على الاقل ارضاءً لثقة الحزب او الكتلة او القبيلة التي تفتخر بوجود احد اعضائها في المنصب وترتبط معه بالحبل السري الذي يغذيها بما تجود به الوظيفة من مقاولات وخمس وزكاة وعمولات.

عندما يترك المواطن ويُهمَل كليّاً من لدن المسؤولين ، سوف يشعر بالاجحاف والعبن ، وسيعاني كثيرا من الشعور بالاحباط ، وهذا بدوره يولّد لديه رد فعل عدائي ربما يتطور ليصبح تحريضيا، فالدولة هي ملك المواطنين وليس ملك الحكومة ، والتخريب سواء بالقرارات العشوائية الارتجالية يطال الدولة ، ولا يطال الحكومة ومن يتبع لها من مؤسسات ومسؤولين كبار يتربعون على المناصب الحساسة ، لذا فإن أي عمل ذي طابع غير مؤسسي لا يمكن أن يتم تبريره ، وتعميق الظواهر الافسادية التي تزيد الاوضاع سوءاً بدلا من معالجتها .

ان ثمة فاشلين مازالوا يديرون بعض مناحي حياتنا العامة قد يحولهم التساهل والتسامح الى تهديد امننا الاجتماعي ولا يقتصر ذلك على القطاعات الحكوميه في مؤسساتها المختلفة بل يطال العديد من المؤسسات الخاصة التي ترتبط باشخاص متنفعين ، فالتقاعس عن الأداء وسوء الإدارة هما كارثة وطنية بامتياز ، ونقول اليوم ان هذين العنصرين هما الثغرة التي تتسرب منهما سموم الفساد والتدمير ، ، فبعض المسؤولين الذين جاءوا الى مناصبهم على يد المتنفذين والنتفعين قادرون على احباط مساعي مئات الوطنيين والمخلصين ، فهم عاجزون عن اداء مهماتهم وفاشلون وضعيفو النفوس امام الفشل وغواياته وكفيلون بتحطيم مقدرات الوطن ..

لا يمكن ان نتسامح مع المتقاعسين عن القيام بمهامهم ، فاياً كانت حصة المسؤول من موقعة في التقصير فهو مسؤول بالدرجة الأولى ، والتقصير عنوان قاتل للأمل والحياة لا يمكن التعايش معه او التهاون في التصدي له ، فمن سيدفع ثمن التقصير ؟..

ثقافات تنقص ساستنا-حين قال برناردشو: “الموت والحياة سيان” رد عليه أحدهم: “لماذا لاتقتل نفسك إذن؟” فأجاب شو: “أنا لم أقل الموت أفضل من الحياة”.

رحم الله مولانا برناردشو، وكثر ألله أمثاله في عراقنا، لعل تكرار الأقوال يحدث تغييرا باتجاه ما، وقد قيل سابقا: “كثر الدگ يفك اللحيم”.

أسوق ديباجتي هذي عن الموت والحياة توطئة لعرض ردود أفعال قام بها سابقون إزاء ظرف مروا به، وقد انحسرت الخيارات أمامهم او انعدمت تماما، كما قال ابو فراس الحمداني:

وقال أصيحابي الفرار أو الردى

فقلت هما أمران أحلاهما مر

يطلعنا سفر التأريخ عن قصص وحكايات كثيرة، حول تصرفات رؤساء وقادة ومسؤولين أخفقوا في مهامهم المنوطة بهم لأسباب عديدة، وقطعا روى لنا التأريخ كيف كانت ردود أفعالهم إزاء إخفاقاتهم تلك، فمن تلك الردود برزت ثلاثة كانت الأكثر انتشارا هي؛ الاستقالة، الانسحاب، الانتحار. حتى باتت هذه المفردات -او إحداها- الحدث الأهم في صفحات سجل المسؤولين المهني في أوساط المجتمعات كافة، لاسيما من تبوأوا مناصب عليا فيها، وعلى وجه الدقة؛ قائد عسكري، وزير، رئيس وزراء وكذلك رئيس جمهورية.

فعن مفردة الاستقالة أذكرعلى سبيل المثال لاالحصر حدثا في روسيا، إذ قدم وزير الدفاع أناتولي سيرديوکوف استقالته والسبب هو صلة القربى الوثيقة بينه وبين رئيس الوزراء الجديد، حيث أن الأول صهر الثاني.

وفي اليابان استقال وزير النقل نارياكى ناكاياما بعد أربعة أيام فقط من تعيينه وزيرا للأراضي والبنية التحتية والنقل والسياحة، والسبب خطأ في التصريحات.

أما وزير تجارتها يوشيو هاتشيرو فقد قدم هو الآخر استقالته بعد اسبوع من تسنمه منصبه إثر مطالبات بتنحيه عنه، والسبب هو مزاحه مع مراسل وكالة أنباء حاوره بشأن التسرب الإشعاعي في محطة فوكوشيما النووية التي تعرضت لموجة تسونامي.

ويبقى حديثي في الشأن الياباني، فهذا سيجي ميهارا وزير الخارجية قدم استقالته بعد مضي ستة أشهر فقط على تسنمه مهام منصبه، لخرقه القانون الياباني بقبوله هبة مالية بقيمة 450 يورو كدعم سياسي من أجنبي.

أما عن مفردة الانسحاب، فالتاريخ يروي ان الانسحاب يشمل مناصب أخرى قد تكون أقل أهمية تصل الى حد التعامل البسيط بين أفراد المجتمع، فضلا عن انسحابات الجيوش في التحشدات والمعسكرات والحروب التي تدعى انسحابا تكتيكيا.

من هذا كله نستدل على ان الانسحاب والاستقالة عمل مشروع، ولا شائبة على من ينسحب من منصب او موقع او مشاركة، لطالما نيته في ذلك سليمة، لا يضمر خلفها دسيسة لمستقبل الأيام يحفر فيها حفرة لأخيه الإنسان. لكن الذي يحدث اليوم في عراقنا هو عدم تطبيق مفردة الاستقالة في موقعها الذي يتحتم على المسؤول القيام به، فيما نرى أن لمفردة الانسحاب أهمية كبرى وحضورا أكبر، ولمن يتابع جلسات مجلس نوابنا في دوراته الثلاث في مراحل سير العملية السياسية، يلمس حتما كثرة الانسحابات سواء على مستوى الأفراد أم الكتل! فهل يعلم ساستنا أن العملية السياسية ليست مقامرة في صالة روليت، ولارهانا في سباق خيول، كما أنها ليست مسابقة لرياضة المشي او الجري، كذلك هي ليست لعبة “ختيلان” او “توكي”. ففي هذه الفعاليات يصح الانسحاب في أية مرحلة من مراحلها، ولاجناح على المنسحب ولاإثم على المتنازل ولاهم يحزنون ولايفرحون.

أرى أن سياسة الانسحاب في مفهوم قادتنا وساستنا، محصورة في زاوية الخلاف على المآرب والغنائم الخاصة والفئوية، وما يؤكد ما أنا ذاهب فيه في رأيي هذا، هو كثرة إعلان بعض الكتل والشخصيات المشاركة في العملية السياسية انسحابها من جلسات مجالس الدولة بين الحين والآخر، ولو تمحصنا الأسباب الموضوعية وتفحصنا الذرائع والمسوغات لإعلانها الانسحاب، لتوصلنا الى يقين مؤكد أن الدافع الأول والأخير هو المصلحة الشخصية والفئوية لاغير، أما مصلحة البلاد والعباد فكما قال ابو فراس الحمداني؛ (إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر). كما أن الهدف من الانسحاب ليس (شريفا) إنما هو ادخال العملية برمتها في مطبات تعيق تحقيق الاستقرار في العراق.

بقي من ردود الأفعال الثلاثة -بعد الاستقالة والانسحاب- الانتحار، وهناك كثير من الشواهد والقصص عن قادة ومسؤولين أقدموا عليه، ولكن لا أظننا سنسمع يوما أن أحدا من ساستنا يقدم عليه بعد إخفاقه في أداء عمله، فيكفيه ماجناه من صفقات وأرباح خلال فترة تبوئه منصبه، ليعيش بها حياة رغيدة داخل العراق أو خارجه، أما الانتحار فهو على مابدا ومازال يبدو، من نصيب المواطن الذي يئس من عراقه وحكامه حد القنوط…….

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here