تعشوا كتبا ! : قصة قصيرة

تعشوا كتبا ! : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

كانت أمه قد نهضت مبكرا لتخبز أرغفة خبز ساخنة معروفة بنكتها الطيبة في ” تنور البيت ” التي تدغدغ أنوفا من بعيد ،و كذلك أن تدبرّ طعاما بشكل من الأشكال ، بعدما قال لها باقتضاب غامض :
ـــ سيأتينا ضيوف ..
وفعلا جاء الضيوف وكانوا عبارة عن مجموعة شباب يقاربون سن أبنها إلى حدما ، يبدو عليهم هيجان التحمس وفوران الشباب إلى جانب هواجس قلق و خوف مجهول ، يحملون كتبا وجرائد ومجلات .. وما أن دخلوا غرفة الضيوف حتى سدوا الباب خلفهم بحركة طقسية ، توحي بسرية و خفاء ، كأنما هم على وشك قيام بعمل جلل وعظيم أو مؤامرة خطيرة !، سيقومون بتنفيذها عاجلا أم آجلا .. ثم أخذت تسمع أثناء تحضيرها لهم الأكل و الشاي نقاشاتهم ومجادلتهم التي أحيانا كانت تأتي مرتفعة و بنبرة عصبية ، فكانت تقلق هي الأخرى خوفا من أن يسمعهم الجيران ، ففكرت بعدم ارتياح اعتقادا منها إنهم يتناقشون ويتجادلون في السياسة و التي بسببها كاد أبنها إن يُعدم ذات مرة ، بعد اعتقال طويل وتعذيب مريع .. جلبت لهم كل أرغفة الخبز مع ما تيسر من طعام يسير ، مصحوبا بشاي ذي نكهة نعناع الذي لا غنى عنه أحيانا في البيت العراقي .
كان الوقت قد تجاوز منتصف النهار عندما غادر ” الضيوف ” ، ولكن كأنما بتوقيت عجيب جاءت دفعة ثانية من” ضيوف ” آخرين تقريبا بنفس المواصفات يحملون كتبا ومجلات وجرائد ويتهامسون فيما بينهم بنقاش يبدو جديا ،و لكن بوجوه كأنما مثقلة بكل هموم العالم!.. فشمرت الأم على ساعدها و أخذت تخبز من جديد بعدما نفدت الوجبة الأولى ، وهي تقول مرحبة دون أن نعلم بفرحة أو سخرية :
ـأهلا بضيوف أبني الأعزاء الجدد ! ..
فقامت تخبز ما تبقى من طحين ،ثم واصلت تزوّدهم بالماء والخبز و الخضروات والتمر و اللبن الخاثر ، فضلا عن الشاي ، وكانت تقحّ بين فترة و أخرى ، كلما ولجت غرفة الضيوف حاملة طعاما أو ماء أو شايا ، حيث كانت الغرفة تعج و تضج بأصوات عصبية و متشنجة و متقاطعة بعضها بعضا ، مختلطة مع سحابات دخان كثيفة من شدة تدخين متواصل ..
فتنفست الصعداء عندما خرجت الدفعة الثانية من ” الضيوف ” ما بعد الظهر المتأخر ، وأحسّت في نفس الوقت بافتخار من كونها قد تمكنت من تدبّر غداء لدفعتين من” ضيوف “طارئين ، رغم الفقر المدقع المعشش بشكل مزمن بين أركان البيت ،إلا إن شعورها بالارتياح ذاك ، لم يدم طويلا ، فها هي الدفعة الثالثة من ” ضيوف ” قد جاءوا ودخلوا غرفة الضيوف تقريبا بنفس مواصفات وحالات الدفعتين السابقتين ،فشعرت كأنها تلقت رفسة مباغتة على معدتها ، إذ لم يبق في البيت ما ستقدمه للضيوف الجدد ، فاستاءت من تصرف ابنها لعدم انتباهه لمثل هذه الأمور المهمة والحسّاسة بالنسبة لها ، مسببا لها إحراجا كبيرا في الوقت نفسه ، لذا فعندما سمعت أبنها ينادي عليها مطالبا إياها بتقديم طعام ” للضيوف الجدد” من الدفعة الثالثة ، تناولت” جدرية ” كبيرة من المطبخ ” و ملأته بكتب أبنها من روايات ومجموعات شعرية و كتب نظرية و فلسفية و قدمتها لأبنها قائلة بسخرية وامتعاض :
ــ خذ يا ولدي ليس لدي غيرها لأقدمها لكم ..فتعشوا هذه الكتب ..مع شهية طيبة ..وبالعافية مقدما !..
ثم خرجت تاركة إياهم وسط صمت محرج وذهول صاعق وخجل ماحق !..
ـ

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here