الدفاع عن حقوق ألإنسان و ألإجراءات الجنائية

الدفاع عن حقوق ألإنسان و ألإجراءات الجنائية
د. ماجد احمد الزاملي
هدف السياسة الجنائية لا يقتصر على الحصول على أفضل صياغة لقواعد قانون العقوبات وإنما يمتد إلى إرشاد القاضي الذي يضطلع بتطبيق هذه الأخيرة وإلى الإدارة العقابية المكلفة بتطبيق ما قد يحكم به القاضي. وهذا الشق الأخير للسياسة الجنائية – والمسمى بالسياسة العقابية. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن نجاح سياسة المكافحة للظاهرة الإجرامية على مستوى التنفيذ العقابي يتوقف في نهاية الأمر على أساليب وطرق المعاملة العقابية المتبعة داخل وخارج المؤسسة العقابية وقدرتها على إعادة تأهيل المجرم وتحقيق كلاً من الردع العام والخاص والحد من معدلات الجريمة في المجتمع . ووراء هذا الجهد الجماعي كان هناك هاجس الفكر النقدي وهاجس التأكيد على التعددية في التصور الذهني للعالم كشرط لبقاء حقوق الإنسان خارج الإيديولوجيا وخارج الانغلاق الدوغمائي. رغبة الجمع بين تراكمات المعرفة والتناول النقدي للمعارف، وأخيرا فرصة تعايش في مشروع واحد في مرحلة تاريخية صعبة ورديئة يعيش فيها المجتمع البشري ليومه وبأحسن الأحوال، لاجترار تصورات الأمس، في شبه غياب للمشروع والمستقبل الاختلاف وساحرية فكرة الدور التاريخي. حقوق الدفاع هي الحقوق المعترف بها للفرد الذي عليه ان يدافع عن نفسه,اي مقاومة العدوان . لكن في إطار القضية الجنائية ,فإن العدوان عملية شرعية وعادلة .والرد على العدوان ,أو على العمل القانوني ,سيكون نوعا من الدفاع ليس أقل شرعية,ذلك ان القانون يحدد بكل دقة القواعد التي تحكم وتحرك المجتمع إثر وقوع مخالفة ورد فعل الشخص المتهم بسبب تلك المخالفة .فالحقوق ألإجرائية لهذا الشخص هي إذن حقوق الدفاع والتي لايمكن تجاهلها لعدم وجود تعريف أكيد لها نظرا للإختلاف في تعريفها . ان حق الدفاع عن حقوق ألإنسان تشمل مختلف الوسائل المعترف بها لمن يريد المحافظة على مصالحه في إطار القضية الجنائية. وبصيغة اخرى فإن حقوق الدفاع مشتركة بين كل الاطراف من المتهم والمجنى عليه. ونتيجة التطور الذي ابتدأ منذ اكثر من قرنين فإن حقوق الدفاع اصبحت بدون مبالغة تسمى حقوق ألإنسان في المحاكمة الجنائية.فالمحاكمة التي لايعترف فيها بحقوق الدفاع تصبح محاكمة غير عادلة تمس هيبة العدالة. فإخلاقيات الإجراءات الجنائية تنبع من حقوق الدفاع ويكفي للاقتناع بذلك ان ننظر في تواريخ الاعلانات المهمة لحقوق الانسان فبداية في سنة 1789 مع إعلان حقوق ألإنسان والمواطن الفرنسي ,حيث المادة السابعة منه تنص على مبدأ شرعية الحرمان من الحرية وكذلك المادة التاسعة تعلن مبدأ غلبة البراءة وكذلك مبدأ النسبية بإجراءات الإكراه ,وفي سنة 1950,وهي تاريخ الاتفاقية الاوروبية للمحافظة على حقوق الإنسان والحريات الاساسية والتي لم تعتمدها فرنسا إلا في سنة 1974 ويؤكد هذا النص المدعوم لاحقا بعدة بروتوكولات إضافة إلى عدة حقوق إجرائية وخاصة في مادته السادسة حيث ان حقوق الدفاع تنبع من وجوب العدالة وهي ضرورة ملحة لدرجة أن الصلاحيات المذكورة في المادة السادسة والتي تنص بالمحاكمة العادلة,لاتضع حدودا واضحة لذلك . وهذا هو السبب في أهمية وتنوع قانون المحكمة الاوروبية لحقوق ألإنسان ومقره في ستراسبورغ وبفضل هذه الاتفاقية وكذلك الاتفاقيات الاخرى مثل المعاهدة الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966(المادة14),فقد ازدادت حقوق الدفاع قوة سنة بعد اخرى. قانون الإجراءات الجنائية يتضمن القواعد التي يجب أن تتبع للمحافظة على الحريات الفردية أثناء التحقيق والمحاكمة لاسيما مايتعلق منها بالتوقيف المؤقت ,وحقوق الدفاع,فحقوق الانسان في الدعوى الجنائية مصانة بالأحكام القانونية التي نص عليها قانون الإجراءات الجنائية المكرس بدوره للنصوص الدستورية الحامية لحرية الانسان وحقوقه,فقانون الإجراءات الجنائية يقوم بدور مكمل لقانون العقوبات ,واضعا الإجراءات الواجب إتباعها لتحقيق العدالة الجنائية موفرا الضمانات الكافية لكي لايحكم على بريء بجرم لم يرتكبه .ولكي لا يطال العقاب إلا فاعل الجرم أو من حرّض عليه أو اشترك فيه . ويعتبر حق الدفاع في المواد الجزائية من الحقوق التي تحظى باهتمام فائق ودائم لتطويره وحمايته نظرا لخطورة القضايا المتعلقة به والنتائج المترتبة عليها,كما يشكل ركيزة جوهرية للمحاكمة المنصفة,التي يشكل نظامها المتكامل,بما يتضمن من قواعد وضوابط لحماية حقوق المتقاضين,المعيار الأساسي لدولة القانون. لذلك وعلى اعتبار أن حق الدفاع يعتبر دعامة أساسية لعدالة مجريات المحاكمة الجنائية ويحتل قمة الضمانات بغير نزاع.
أنبل الغايات الانسانية هي اقامة العدل والدفاع عن حقوق الانسان,حيث تعد موضوعات حقوق الانسان من اهم الموضوعات المثارة حاليا على كافة المستويات الدولية والإقليمية والوطنية. وللسياسة الجنائية – السياسة الجنائية العلم الذي يهدف إلى استقصاء حقائق الظاهرة الإجرامية للوصول إلى أفضل السبل إلى مكافحتها – مراتب تبدأ بالمستوى القاعدي المتعلق بشق التجريم من القاعدة الجنائية ، فتبحث في مدى تلائم التجريم المقرر من قبل المشرع الداخلي مع قيم وعادات المجتمع ، ومدى الحاجة إلى هذا التجريم في الفترة المقرر فيها ، حيث تتباين المجتمعات في هذا بحسب مستواها من التطور الاجتماعى والخلقى والروحي. وكذلك تبحث في طبيعة الوقائع المجرّمة لتحديد أى الوقائع يجب أن تبقى مجرّمة ، وأيها يجب إباحته ، وأيها يجب أن يصبغ عليها وصف التجريم. وتنتقل السياسة الجنائية إلى الشق الجزائي من القاعدة الجنائية ، كي تقيم العقوبات المقررة وحالات التخفيف والتشديد والإعفاء وسبل التفريد التشريعي المقررة في مدونة العقوبات . ثم تنتهي السياسة الجنائية إلى مرتبتها الثالثة المتعلقة بتحديد أساليب المعاملة العقابية حال التنفيذ الفعلي للجزاء الجنائي داخل المؤسسات العقابية ، خاصة ما يتعلق بالتفريد التنفيذي للعقوبة والتدابير الجنائية ، وكفالة إتباع أسلوب علمي في تنفيذ الجزاء على المجرم بما يضمن تأهيله وإصلاحه وتهذيبه وإعادة اندماجه في المجتمع مرة أخرى. أن المشرع يضع الخطوات والإجراءات التي تباشرها السلطات المختصة فـي الدولة – منها قاضي التحقيق – من أجل تقصي الحقيقة وملاحقة مرتكب الفعل المخالف للقانون وإيقاع العقاب اللازم متى توافرت أسبابه، وهو في وضعه هذه القواعد يحدد متطلبات عدم المساس بالحريـة الفردية، فالقانون وحده هو المصدر الوحيد الذي يرسم ويحدد تلك القواعد الإجرائيـة منـذ تحريـك الدعوى الجزائية حتى انتهائها بحكم بات، ويعرف هذا الانفراد في تنظيم الإجراءات الجزائيـة بمبـدأ قانونية الإجراءات الجزائية . و من ذلك يتضح أن مبدأ الشرعية الإجرائية يقتضي احترام الحرية الفردية المقـررة بالقـانون أثناء الدعوى الجزائية، وتكفل قوانين الدولة تحديد ما يتمتع به الفرد قبل الدولة من حقوق يتعين عـدم التفريط فيها أثناء سير الدعوى الجزائية، كما تحرص دساتير بعض الدول على توفير أهم الضمانات التي يجب احترامها وخاصة ما يتعلق بالحريات العامة وحقوق الدفاع، وترسـم هـذه الدساتير الخطوط العريضة للمشرع وتحدد له الإطار الذي يستطيع بداخله تنظيم إجـراءات الـدعوى الجزائية(1).
في تقييمه لأفكار حقوق الإنسان التي سبقته وعاصرته، يقول كارل ماركس: ” إن ما يسمى حقوق الإنسان ليست سوى حقوق الإنسان الأناني، المفصول عن غيره من البشر وعن الجماعة”. الحركة السريالية صدرت عدد مجلتها الأول بالمطالبة في العشرينات من القرن العشرين بإعلان جديد لحقوق الإنسان. عاد الفكر الاشتراكي النقدي في القرن العشرين إلى ضرورة إشباع فكرة حقوق الإنسان بحقوق اقتصادية واجتماعية أساسية وضرورة إغناء الفكر الاشتراكي بثقافة ديمقراطية تعددية. وقد كان لمختلف الاتجاهات الليبرالية حصتها الكبرى في إغناء ثقافة فصل السلطات، وبالتالي، كسر مبدأ السلطة المطلقة والتعسفية. إلا أنه وخارج هذا الاهتمام النقدي أو المتبني أو المتتبع من دو مابلي إلى هابرماس(2)، لم يتكون منزل متماسك الجدران لفكر وثقافة حقوق إنسانيين جديرين بالتسمية. فقد اعتبر رواد الفكر والسياسة هذه الحقوق جزءا من مشروع سياسي أو حضاري أو ديني أكبر يأخذ بعين الاعتبار هذه الحقوق أو قراءته الخاصة لها.
وإن كان من السذاجة التصور أن حقوق الإنسان يمكن أن تنتزع عن السياسة تاجها بسهولة – السياسة بمعنى السيادة والتمثيل، الهيمنة والانقياد الطوعي، الغاية التي تبرر الوسيلة- ، فإن السياسة بالمعنى النبيل للكلمة -كمشاركة عامة في الشأن العام، كتقاسم واسع للمسؤوليات والواجبات- ، تترجم الحاجة الملحة أكثر فأكثر إلى ضوابط ونظم حقوق إنسانية وأخلاقية ترفضها الطبقة السياسية بدرجة أو بأخرى ولكن تؤكد عليها ضرورة البقاء البشري وضرورة تحجيم بربرية أصبحت متغلغلة في كل خلية من خلايا الوجود المادي والمعنوي للبشر.
دخول ثقافة حقوق الإنسان بيوت الناس وليس فحسب مكتبة النخبة وأرشيف المحامين يعتبر شرطا أساسيا للخروج من حالة الاستعصاء الفكرية والسياسية التي تهيمن على حقبتنا. هذا الاستعصاء المتسم بالاغتيال السياسي وانهيار الإيديولوجيات والتغييب المريع للحلم فيما يسمح بتسرب أشكال غير حصرية للتعصب والانغلاق الشوفيني والطائفي مع بروز متسارع للوجه القبيح للعولمة: صيرورة رأس المال السلطة المطلقة التي تسخر الدول والمجتمعات، تجديد أشكال استعمار البشر للبشر، الانشطار غير المتكافئ للعالم، تلوث البيئة، انتشار أسلحة الدمار الشامل والمخدرات والسلع الغذائية السامة . إن تأصل الغنى الفاحش والفقر الكافر، حروب الفقراء بسلاح الأغنياء وانتصار المرض على جميع مشاريع التنمية في الجنوب كلها تشكل همّا بنيويا للعاملين من أجل حقوق الإنسان. إلا أن حقوق الإنسان تتطلب توفير الحد الأدنى من الوعي للدفاع عنها. ونظرا لمحدودية دور حق التضامن بين الجماعات البشرية وبين المدافعين عن الكرامة الإنسانية، فإن توسيع جبهة حقوق الإنسان على الصعيد العالمي يشكل الوسيلة الأهم لتكوين سلطة مضادة قادرة على الفعل في موازين القوى العالمية الجديدة. ولا يمكن لجبهة كهذه أن تتحول إلى قوة فعلية دون تبنيها من أوسع الشرائح المجتمعية ذات المصلحة في فكر وثقافة حقوق إنسانية. وإذا كانت الدولة القانونية هي تلك التي يحكمها مبدأ سيادة القانون و تقبل أن تعمل بواسطة القانون ، وأن يحكمها القانون الذى يوفر للأفراد حقوقهم ويضمن حرياتهم ، وان يكون خضوع الدولة للقانون مكفولا برقابة قضائية يباشرها قضاء مستقل محايد.
وإذا كان مبدأ الفصل بين السلطات، والذي يتحقق بتواصل وتعاون السلطات الثلاث – السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية- في الدولة، وتعادلها فى المركز القانوني، وعدم طغيان أحدها علي الاخرى ، فان إهدار ذلك المبدأ لابد وان يعصف بأي زعم ديمقراطي لا يجد له في الواقع أي وجود. ولما كانت الحريات العامة ، وفق النصوص الواردة بأغلب دساتير الدول المعاصرة ، من المقدسات الهامة التي حرصت علي تأكيدها تلك الدساتير، وذلك بأن جعلت السلطة القضائية ضمانة أساسية ضد تعسف السلطة التنفيذية أو جورها علي تلك الحريات ،فإن عدم احترام أحكام القضاء يجسد – بحق – إعلانا صريحا عن امتهان السلطة التنفيذية لتلك الحريات ، وتأكيدا قويا علي عدم ديمقراطية ذلك النظام. ولما كانت الحريات العامة ، وفق النصوص الواردة بأغلب دساتير الدول المعاصرة ، من المقدسات الهامة التي حرصت علي تأكيدها تلك الدساتير، وذلك بأن جعلت السلطة القضائية ضمانة أساسية ضد تعسف السلطة التنفيذية أو جورها علي تلك الحريات ،فإن عدم احترام أحكام القضاء يجسد – بحق – إعلانا صريحا عن امتهان السلطة التنفيذية لتلك الحريات ، وتأكيدا قويا علي عدم ديمقراطية ذلك النظام.
في الحروب عندما يهان الخصم ويذل تصبح هذه الحروب ممقوتة ومكروهة لذا يتعين على العدالة ان تتجنب مامن شأنه أن يشوه ألإجراءات القضائية.لكن عنصر التوازن مفقود مابين المتهم من جهة ومن جهة اخرى كل المجتمع الذي يتحرك بواسطة الشرطة والنيابة العامة ,لذلك وضع المشرع عدة انواع من الحماية للمتهم وللخصم .فالمتهم بريء حتى تثبت ادانته وهذا المبدأ لاغنى عنه لحقوق الدفاع . والاتفاقية الاوروبية للدفاع عن حقوق ألإنسان في مادتها 6-2 نصت على (يعتبر كل شخص متهم بريئا حتى تثبت إدانته). فمبدأ البراءة هو قبل كل شيء قاعدة من قواعد الحجج : فالجهة التي تتهم هي الجهة الملزمة بإثبات إدانة الشخص المتهم والشك في مصلحته إذن.
فاذا اعتبرنا المشتبه به او المتهم بريء فلا يدخل ذلك في المساس بشرفه او كرامته.لكن موضوع الكرامة يتخذ عدة أشكال.فكرامة الدفاع تدعو باديء ذي بديء الى الاخلاص في البحث عن الحجج .فالمحكمة العادلة لاتقبل الوسائل التي تستخدم العنف والحيلة ,فالقانون الاوروبي لايقبل بالحجج التي اخذت بواسطة الابتزاز البوليسي.ويرفض ىالقانون الداخلي الفرنسي كذلك الحجج التي يحصل عليها بواسطة الغش والمكر سواء تعلق الامر بقاضي التحقيق أو الشرطة. لكن الحجج التي يحصل عليها بطرق غير مشروعة عن طريق الأشخاص العاديين ترفض ويتعين على القضاة القبول بها او لا بما تمليه عليهم ضمائرهم.
————————————————
1 .نسرين عبد الحميد نبيه، مبدأ الشرعية و الجوانب الإجرائية، الطبعة الأولى، الناشر مكتبـة الوفـاء القانونيـة، 2008
2-هابر ماس: فيلسوف وعالم اجتماع معاصر . تدور نصوص هابرماس حول إشكال مركزي، إشكال الحداثة وعلاقة الذات بالآخر، وقد تبلور هذا الإشكال عند هابرماس إبان حقبة الحكم النازي في ألمانيا الذي تأسس على مبدأ تفوق الذات الألمانية والعرق الآري، مرتكبا -والحديث هنا عن الحكم النازي- فظاعات بحق الأجناس والأعراق الأخرى المختلفة عنه، وقد تحدث هابرماس عن هذا قائلاً “أنتسب إلى جيل المثقفين الألمان الذين كبروا خلال المرحلة النازية، ونضجوا ثقافيا عند نهاية الحرب العالمية الثانية، وعاشوا في إطار جمهورية ألمانيا الفدرالية، وأصبحوا أساتذة لما بدأ طلبة فترة الستينيات يتمرّدون ويثورون”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here