ذكريات عبرت وفي الذاكرة بصمت

ذكريات عبرت وفي الذاكرة بصمت
فضيلة مرتضى
وأنا طفلة صغيرة كنت أرى أمي شاحبة اللون تفترش الأرض ليلآ لتنام ونحن بناتها الأربعة أجساد نتمدد بجانبها تحت لحاف واحد كبير ولكنه لايكفي لخمسة أنفار والتي حصتها النوم في أحد أطراف اللحاف تكون عرضة لقرص برد الشتاء, وأما أبي وأخي الوحيد ينامون على الأسرة وفي فراش دافئ ومريح والحال نفسه في فصل الصيف فوق سطح المنزل حيث أعتادت العوائل العراقية النوم فوق أسطح المنازل هربآ من الحر لعدم وجود مبردات ومكيفات هوائية تشتغل على الطاقة الكهربائية في تلك الحقبة الزمنية . كنت لاأسألها لماذا الأناث ينامون على الأرض والرجال فوق الأسرة … كانت تفهم لغة عيوني وعلامات الأستفهام فيهما , كانت تردد دائمآ: الرجال يعملون طوال النهارخارج المنزل لتوفير لقمة العيش لنا ولابد أن يستريحوا في الليل وكنت لاأقتنع لأنني أراها في النهار منذ ولادة الفجر الى نهاية عمر النهار تعمل دون توقف . صنع الخبز فجرآ وبعد الفطور جلي الصحون ويتبعها أعمال منزلية كثيرة ولا تتوقف عن العمل إلا وقت النوم ليلآ.
كنت أنا آخر العنقود ومدللة العائلة وفكرة دخول الإناث الى المدارس كانت مرفوضة في ذلك الزمن من قبل عموم العوائل العراقية وخصوصأ في الأرياف وإنما تعلم القراءة ممكن في الكتاب على يد رجل دين في الحارة أو القرية ولذلك قادتني أمي الى الكتاب وأنا طفلة صغيرة وهناك لم نتعلم سوى حفظ سور من القرآن الكريم شفهيآ يتلوها على مسامعنا الشيخ ونحن نردد بعده . كانت غرفة التعليم صغيرة ومبنية من الطين وأرضيتها مفروشة بحصيرة وفي سقف الغرفة تتدلى قطعة كارتونية كبيرة معلقة بواسطة حبل ومشدودة بحبل آخرمن الوسط لكي يتسنى للذي يأخذ مبادرة سحبه الى الأمام وتركه يذهب ثم سحبه ثانيآ لكي يتحرك هواء الغرفة عوضآ عن المروحة الهوائية وكنا نحن الأطفال نتناب على هذه المهمة وينتعش الشيخ لأنه يأخذ النصيب الأكبر من الهواء المتحرك لجلوسه أمام المروحة الكارتونية البائسة . كان معظم الوقت يكلفنا بأنجاز أعماله المنزلية ويعاقبنا بالضرب بالعصا لو أخطئنا في نطق المفردات أو تأخرنا في الحضور, وعند عودتنا الى البيت أجسادنا الصغيرة مثقلة بالتعب وأراحنا مثقلة أكثر بالضجر . كانت فترة كنت اتمنى شطبها من تاريخ حياتي.
شاءت الأقدار أن تتدخل أمي وتصر على تعليمي في المدرسة دون علم أبي وبمساعدة أختي الأكبر سنآ مني بستة سنوات وبألحاح مني لدخول المدرسة ورغبة في التعلم وكانت عندي أمنيات كبيرة لنيل شهادة عليا رغم صغر سني وما جعلني أصر على ذلك مراقبتي لأمي وهي تناضل منذ الفجر الى مابعد وجبة العشاء دون نيل قسط من الراحة تبدأ بتحضير الخبز وتحضير الطعام وجلي الصحون والكنس وغسل الملابس والذهاب الى السوق يوميآ لشراء متطلبات الطبخ ووضع الطعام أمامنآ وأخر من تضع اللقمة في فمها هي أمي. وعند أقتراب ساعة النوم تكون هي منهكة شاحبة اللون وتتفقدنا طوال الليل وتنام تحت أحد أطراف اللحاف كنت أتألم لوضعها.
بعد مرور أشهر من دراستي أكتشف أبي ذلك الأمر والغريب أنه كان هادئ وغير معترض بشرط أن أدرس الى مرحلة السادس الأبتدائي فقط تعلم القراءة والكتابة وسارت الأمور حسب ماكنت أتمنى منذ الصغر.كنت محظوظة حينها وأمتلك أمكانية أقناع المعارض وآمالي وطموحي كان أبعد من تصورات أبي . أول حق فكرت بأخذه حق النوم فوق سرير خاص لي وحدي لأن نوم أمي على الأرض كان يؤرقني إإ كنت أتألم لعدم نيل المرأة أبسط حقوقها ولم أود أن أكون نسخة لأمرأة مسلوبة الإرادة وتنام نهاية اليوم على الأرض وطلبي كان مجاب وحصلت على سرير أنام عليه لاأعرف كيف ولكنه حصل وكنت سعيدة كانت حينها أختي الكبيرة متزوجة وتبعتها أخت أخرى وبذلك تقلصت عدد أفراد العائلة . وهنا بدأت أفكر أكثر بوضع المرأة وكمية الثقل الواقع عليها وصرت أجاهد لكي أصل الى الهدف الذي أنشده عن طريق التفوق في الد راسة شعرت بالتميز في سن الحادية عشر وظهرت مواهبي الفنية والأدبيه كان أخي يمتلك مكتبة زاخرة بكتب الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ حيث كانت ميوله أدبية وبهذا وجدت منهلآ في مكتبته أشرب منه العلم والأدب . كان لي أخ عظيم ذات فكر راقي ..مثقف ومتسلح بالثقافة وغالبآ كان يشتري لي من مصروفه الخاص مجلات الأطفال حين كنت صغيرة ويدرسني اللغة الأنكليزية كنا أنا وهو راكبين قطار العلم والثقافة ,أصبح الجميع يتوقع لي مستقبل جميل ويرونني بمنظار التميز في العائلة .
وأنا صغيرة كنت أفكر بعالم جميل لايسألوني عن جنسي وهويتي ولا حتى من أي طائفة أنا فقط يسألوني ماذا يدور في رأسي من مشاريع للناس المحتاجة الى المعرفة ويحترموني كأنسانة وأكسب حقوقي المشروعىة ولايعتبروني غبية لاأفهم لأنني طفلة وكنت أتمنى أن أرى النساء بوجوه ناضرة وليس ضامرة محروقة بالشمس وبلهيب التنور ولاتعيش في إقصاء وحرمان من أبسط حقوقها .
تعلمت القراءة والكتابة قبل دخولي الى المدرسة بأجتهادي وبدفع أحن حضن وأطيب قلب أمي الحبيبةالصابرة المجاهدة القليلة الكلام والكثيرة الأفعال كانت أمرأة لم تتلقى التعليم ولكنها تدرك مدى أهميته ولذلك كانت تدفعني بقوة لذلك.حين كنت منهمكة في الدراسة كانت تسهر معي وتحضر لي الشاي والحلويات لكي تعطيني طاقة ايجابية وكنت أرى في عينيها الذابلتين كلام كأن تقول لي لاتكوني مثلي أمشي وراء أحلامك وتسابقي معها ياأبنتي وحققي طموحاتك كانت المدارس فقط للذكور وعدد قليل جدآ من العوائل تسمح لبناتها بدخول دور العلم ولكن أمي رغم ذلك أمسكت بيدي وقادتني الى المدرسة دون علم أبي وهنا كان التحدي الأكبر .
واصلت التعليم بهمه وشغف وعائلتي كانت فخورة لأنني ذكية ومجتهدة وأبي بدأ يتغير ويؤمن بما أقوم به ويدعمني ماديآ لحين إكمال دراستي الجامعية.أكملت دراستي وسافرت كثيرآ بين عوالم الكتب وأختلط عندي رواح الأدب والعلم وكل ماكنت أفكر به بناء شخصيتي بالتحدي والخروج من الظل الى النور لتقتدي بي إناث أخريات ونستنشق معآ هواء فضاء كريم والذي كان يسعدني رؤيتي لبنات جنسي ومن سني يدخلن الجامعات ويتلقين التعليم ويعملن في شركات ومعامل ومدارس ومستشفيات فأشم راحة أمي في تلك الأمكان لأنها كانت نهر العطاء لولاها لما وصلت الى ماوصلت اليه وأحصل على وظيفة في أكبر شركة في بغداد وأشتغل في مجال الهندسة . كثيرة هي العقبات لكن هناك نوافذ وابواب كثيرة أيضآ ننطلق منها الى الفضاء ونسكن مدن الحرية والمساواة .
كنت ولازلت أركب موج التحدي وأرسم جدران بيتي ولوحات حياتي بالشكل الذي أريده وأراه مناسبآ دون النظر الى الوراء.
02/12/2021
للكتابة بقية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here