محاسن التسامح الديني !

محاسن التسامح الديني ! * د. رضا العطار

من احسن الكتب التي وضعت في اللغة العربية في بدأ القرن الماضي كتاب ابن رشد وفلسفته . من تاليف فرح انطون . فهو اول كتاب ظهر في العربية يدافع عن حرية الفكر والتسامح الديني . يستعرض المناقشة التي جرت بين المؤلف والشيخ محمد عبده , بشأن التسامح بين الاسلام والنصرانية . ولكننا وجدنا للشيخ دفاعا عن الاسلام يحسن بنا ان نثبته هنا حتى يذكره القارئ وهو يقرأ بعض الكتب التاريخية بشأن اضطهاد بعض الخلفاء لغير المسلمين من النصارى واليهود .

يقول المؤرخ المستر دريبر :

( ان المسلمين الاولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة اهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على مجرد الاحترام . بل فوضوا اليهم كثيرا من الاعمال الجسام . ورقوهم الى مناصب الدولة . حتى ان هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت اشراف حنا بن ماسويه ) وقال في موضع آخر : ( كانت ادارة المدارس مفوضة مع نبل الرأي وسعة الفكر من الخلفاء الى المسيحيين تارة والى اليهود تارة اخرى . ولم يكن ينظر الى البلد الذي عاش فيه العالم ولا الى الدين الذي ولد فيه بل لم يكن ينظر الاّ الى مكانته من العلم والمعرفة ) .

قال الخليفة العباسي المأمون : ( ان الحكماء هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده لانهم صرفوا عنايتهم الى نيل فضائل النفس الناطقة وارتقوا بقواهم عن دنس الطبيعة . هم ضياء العالم وهم واضعوا قوانينه, ولولاهم لسقط العالم في الجهل والبربرية ) وقال في موضع آخر ( ان العرب زحفوا بجيش من اطبائهم اليهود ومؤدبي اولادهم من النسطوريين ففتحوا من مملكة العلم والفلسفة ما اتوا على حدود باسرع مما اتوا على حدود مملكة الرومان )

نذكر ممن اشتهر من الاطباء بالحظوة عند الخلفاء جورجيس بن يختيشوع . طبيب المنصور . كانت له زوجة عجوز , فأكرمه المنصور بثلاث جوار حسان لكنه رفضهن قائلا بأن دينه لا يسمح له بأن يتزوج غير زوجته, فأعلى الخليفة مكانته حتى على وزرائه. وعندما اوشك على الموت, عرض عليه الخليفة الاسلام دينا ليدخل ( الجنة ) . فقال : ( رضيت ان اكون مع ابائي في جنة او نار ) فضحك المنصور وامر اذا مات ان ينقل الى مدافن آبائه وجهزه بعشرة الاف دينار وهو المعروف بكزازة اليد .

وممن حظى بالمكانة العليا عند الخليفة المهدي تيوفيل بن توما . النصراني المنجم وكان على مذهب الموارنة من سكان لبنان . وله كتب في التاريخ جليلة نقل كتاب اميروس الى السريانية بافصح عبارة.

وممن ارتفع شأنه عند الرشيد الفيلسوف بختيشوع والاداري جبريل الذي عينه الخليفة مديرا عاما لجميع مدارس بغداد . وكذلك يوحنا البطريق , اقامه المأمون امينا عاما لترجمة الكتب من كل علوم الطب والفلسفة. وارتفع ايضا سهل بن سابور النصراني, حيث عين مديرا لمستشفى جنديسابور . وكانم سلمويه النصراني طبيبا خاصا عند المعتصم ولما مات شيعه الخليفة وامر له بالشموع والبخور على طريقة دينه.

وفي ايام المتوكل اشتهر حنين بن اسحاق المسيحي , وهو من ابرز المترجمين لكتب ارسطو وغيره . وكان كذلك متي بن يونس المنطقي النسطوري زمن الخليفة الراضي الذي اشتهر في جمع العلوم العقلية الذي اخذ عنه الفارابي فيما بعد .

وممن كانت له المكانة الرفيعة عند الخلفاء الصابئ ثابت بن قرة الحراني , الفلكي المشهور . وله مؤلفات كثيرة في الرياضيات .

في معظم حوادث الاضطهاد الديني نجد ان رجل السلطة يتعلل بالدين وغايته في الحقيقة هي السياسة. ولولا المصلحة السياسية لبقى الدين معتكفا في جامعه . فقد تسمع ان

رتشارد قلب الاسد في انكلترا كان يصادر اموال اليهود ويتنفع بها في حروبه الصليبية ضد المسلمين , متعللا في ذلك بأنهم كفار . ولذلك نجد ان النظر الديني لليهود والنصارى يختلف باختلاف الزمان والمكان . فقد قضت سياسة الخلافة بأن يمحو عمر بن الخطاب النصرانية واليهودية من جزيرة العرب فمحاهما . وقضت السياسة ايضا على مسلمي الاندلس ان يتسامحوا مع اليهود و النصارى وان يمنحوهم الحق في ممارسة طقوسهم الدينية حتى انهم شاركوا المسيحيين في عطلة يوم الاحد , فعاشوا حياة رغيدة مستقرة ظهر منهم اطباء ومهندسون وتجار بارزون , وكان لبعضهم مناصب في ادارة الدولة وفي الجيش . ولم يكن تزاوجهم مع المسلمين نادرا , فأم الخليفة عبد الرحمن الثالث كانت نصرانية . فقد كان النصارى مسرورين لسياسة الاعتدال التي اتبعها المسلمون حيالهم حتى انهم عقدوا مؤتمرهم عام 782 م في العاصمة قرطبة , وان احد القساوسة الذي تخرج من جامعة قرطبة الاسلامية قد وصل الى عرش البابوية .

لقد عاش المسيحيون في البلاد الاسلامية مقدرين وقاسموا المسلمين مرّالحياة وحلوها وظهر من بينهم علماء ومفكرون وكتاب وشعراء في كل الميادين . واذا كان قد نزل اذى من الحكام , فقد نزل بالمسلمين مثل ذلك . فقد كانت العصور المظلمة عصور ؟لم ومتاعب للجميع . ومن يقرأ النصوص التاريخية طوال تلك الحقبة من الزمن يجد ان المسيحين كانوا في وئام تام مع المسلمين . يتمتعون بعلاقات مودة وتعاون ظهرت بوادرها في اوساط اهل العلم والادب بأحلى صورها , تجلّت في تأليف الكتب وفي الابحاث الطبية . اما ما كان من الصداقة بين الشعراء واهل الادب بين الاديان , فأقرأ ما جاء في – شعراء النصرانية – للأب لويس شيخو اليسوعي .

وامتّد التسامح الاسلامي ليشمل اليهود ايضا . حيث برز الكثير منهم على الساحة العربية وحصلوا على مناصب حكومية مهمة مثل حسداي بن سيرون وزير الخليفة في قرطبة . وصموئيل وزيره في غرناطة . والفيلسوف سليمان بن جابير . واللاهوتي يهودا هلفي . ومن الشعراء مرسي بن ميمون . هكذا يشهد التاريخ ان العصر الذهبي لليهود في اسبانيا العربية كان قد حظي على فرصة التلاحم مع حضارة المسلمين بدرجة انها كانت تفرز انضج الثمار واحلاها .

كان اشنعهم في معاملة اهل الذمة هو الخليفة الفاطمي الحاكم بامر الله الذي قتل في القاهرة عام 1021 م . من حيث ان التاريخ يصفه بالهوس والسخف , تقلد منصب الخلافة وعمره لا يزيد عن احد عشر سنة . اضطهد المسيحين الاقباط وامرهم بلبس ثياب الغيار وشد الزنار وتعليق صليب بطول ذراع وبوزن خمسة ارطال ومنعهم من شراء العبيد واجبرهم على الاسلام . كما اجبر اليهود على ان يعلقوا في اعناقهم قرامى الخشب بنفس الوزن والا يركبوا حمارا .

ومما زاد في الطين بلّة انه امر بهدم الكنائس والمعابد اليهودية . حتى وصل اذاه الى كنيسة القيامة في القدس . فكانت هذه الجريمة سببا في اشعال نار الحروب الصليبية .

ويخبرنا التاريخ انه هو نفسه كفر بالاسلام وحاول اقامة دين جديد . وهو مؤسس دار الحكمة في القاهرة التي كانت تنشر عقيدة الالحاد الى جانب الكفر والزندقة . فلما اشتد اضطهاده للأقباط اسلم معظمهم . و عندما ارتد الخليفة هو نفسه عن الاسلام سمح لهم في الارتداد , فأرتدّوا !

* مقتبس من كتاب ( حرية الفكر , سلامه موسى , القاهرة 1993 )

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here