قانون النَّذالة

قانون النَّذالة

*فارس حامد عبد الكريم

لكل طبيعة بشرية وصفة قوانينها الخاصة التي تسري على كل من يتصف بها بغض النظر عن المكان والزمان، ومنالطبائع والصفات الشخصية التي عانت منها البشرية عبر الأجيال ودخلت في قواميس لغاتهم وآدابهم وفنونهم عبرالشعر والحكايات وغيرهما هي صفة النذالة.

والنَّذالة في قواميس اللغة هي الخسة والحقارة ويقال نَذُلَ الشّخص أي كَانَ خَسِيساً مُحْتَقَراً يستغل بؤسَ الآخرين.

ويقول حسان بن ثابت في قصيدة له؛

والفَقْرُ يُزْري بأقوَامٍ ذَوي حسَبٍ، ……………….. ويقتدى بلئامِ الأصلِ أنذال.

وحسب بعض فقهاء الشريعة الإسلامية عرفت النذالة بانها سلوك سلبي ذميم نهى عنهُ الإسلام الغرض منهُ إلحاق الأذىبالأخرين والإستمتاع بهذا الأذى.

ومن قوانين النذالة، المستمدة من التجربة البشرية والبحوث والدراسات النفسية والتربوية، نكران الجميل واستغلالالثقة الممنوحة والمهانة والوضاعة والتهور والتلذذ بعذاب الآخرين والتخطيط وابتكار الوسائل اللازمة لذلك والمتنكرللشقيق والصديق عند الامتحان ووقت الشدة، والمترخص الساعي بين الناس بالدس والوقيعة والنميمة والتأليب وإيغارالصدور•

نكران الجميل؛

ان اهم صفة يتمتع بها النذل وتلاحظها الناس دون حاجة الى بحث او دراسة هي نكران الجميل الذي قد يتطور فيبعض حالات النذالة العميقة الى ايذاء من أحسن اليه حتى قيل كتجربة بشرية راسخة (اتق شر من أحسنت إليه)!!

استغلال الثقة:

تاريخياً عاني الناس من هذه الصفة الخاصة بالأنذال عندما تتعرض للخيانة والغدر من شخص تثق به خاصة اذا كانمن الأقرباء او من الأصدقاء المقربين، والتاريخ والتراث الشعبي مليء بحكايات استغلال الثقة والغدر من جانب الانذال.

وآخر قصة سمعتها من هذا الباب ملخصها ان أحد الأشخاص بعث اموالاً، هي يقول المثل (تحويشة العمر)، على شكلدفعات الى اخته الساكنة في بلد اجنبي على أمل ان يصفي اعماله في بغداد وينتقل للعيش في ذلك البلد، توفت الاختفجأة فقلب اولادها ظهر المجن لخالهم وطردوه عندما طالبهم بأمواله المقيدة في حساب أمهم رغم وصيتها وتأكيدها لهمقبل وفاتها على حقوق أخيها المغدور بالنذالة…

استغلال بؤس الآخرين وحاجتهم؛

يروي احد الكُتاب حادثة واقعية ملخصها ان احد الاشخاص شديدي البخل كان يبني قصراً

فذهب الى مكان تجمع العمال الاجانب وعرض عليهم اجرة مقدارها 50 ريالاً سعودياً بدلاً من الأجرة السائدة وهي200 ريال فرفضوا جميعاً الا مجموعة صغيرة من كبار السن ومن لديهم مخالفات في الاقامة اضطراراً للعمل والحاجة فذهببهم بعجلته الخاصة الى مطعم وقدم لهم الطعام والشراب ثم الى اخذهم الى موقع العمل ثم دفع لهم 200 ليرة واعادهممساءاً الى منازلهم …

وفي اليوم التالي جاء بباص كبير وعرض على العمال مبلغ 50 ليرة فتدافع الجميع وركبوا الباص بعد ان سمعواحكايات زملائهم عن كرم هذا الرجل، فأخذهم الى موقع العمل مباشرة وكلفهم بأعمال ثقيلة حتى انهكهم وفي المساء دفعلكل منهم 50 ليرة فقط وعندما احتجوا قال لهم هذا هو الاتفاق و(بين البائع والشاري يفتح الله)!!!!

الذل والمهانة؛

ومن قوانينها ان صاحب هذه الشخصية يكون ذليل الكرامة مهين النفس أمام من هم أعلى منه رتبة.. متكبر متغطرسأمام من هم أقل منه رتبة، وهذه السلوكيات منتشرة بقوة في الادارات والوظائف العامة والخاصة، وليس من الصعوبة انتجد موظفاً او موظفين يشتكون من نذالة رؤسائهم في العمل.

ابتكار اسباب البؤس للآخرين؛

كما ان النذل يستغل بؤس الآخرين بشكل مباشر. وإن لم يكن بهم بؤس، يصنعه لهم ليستغله. ويجهد الى إحاطة منحوله بالأجواء السلبية فتراه يستمتع بالأذى وانتشار البغضاء بين من حوله..

النذالة في الأدب العالمي والشعبي؛

“حتى أنت، يا بروتس؟” وهي عبارة مشهورة وردت في مسرحية (يوليوس قيصر) لوليم شكسبير، حينما تفاجأ القائدالروماني يوليوس قيصر ان أحد قتلته ومن وجه اليه الطعنة القاتلة هو أقرب اصدقائه الى نفسه، فخاطبه قائلاً ( حتىانت يابروتس)و تستخدم العبارة غالبًا في الحياة العامة للدلالة على خيانة غير متوقعة من قبل صديق.

كما أهتم الشعراء والادباء بملاحظة سلوك الانذال وإدانته، بعد عانوا من سلوكهم الأمرين، واطلقوا عليهم العديد منالأوصاف التي تدل على قبح هذه الشخصية.

لأبي الفتح البستي بيتين عن النذالة قال فيهما••

إذا ما اصطحبتَ امرأً فليكنْ

شريفَ النجادِ ذكيَ النسبْ

فنذلُ الرجالِ كنذلِ النبات

فلا للثمارِ ولا للحطبْ.

وقيل في التراث الشعبي ان النذل هو الحرباء التي تغير لونها كل ساعة، ووصفه آخرون بأنه العقرب التي تلسع علىحين غرة، وقيل انه الذئب الذي يأكل لحم أخيه الجريح حتى قبل موته، وهو الخنزير الذي يفتقد الغيرة والثعلب الذييجيد فنون المكر.

وفي الامثال الشعبية قيل (الغدر لما حكم، صبح الأمان بقشيش.. والندل لما احتكم يقدر ولا يعفيش).

النذالة والسياسة؛

للأسف غالباً ما تكون السياسة مرتعاً خصباً للأنذال فتكون سلماً ملائماً لصعودهم وترقيهم في المناصب القيادية، وأولمايقوم به السياسي النذل عند توليه المسؤولية هو التخلص من اصدقائه وخصومه على مستوى واحد من القسوةوخاصة اولئك الذين لديهم فكرة عن تاريخه الشخصي.

ولاشك من الناحية العلمية فأن النذل مليء بالعقد النفسية والاضطرابات الداخلية.

وتؤكد هذه الدراسات أن النذل في حقيقته يخطط لنذالته ويبدع فيها.. هي ليست عشوائية أو وليدة وقتها.. بل علىالعكس.. يتم الإعداد المسبق لها لخدمة أهداف غير نبيلة. ويرى علماء التربية أنها سلوك يدل على (سوء تربية ووضاعةبيئة).

ولذا ترى سيد البلغاء الامام علي عليه السلام يقول (من صاحب الانذال حُقّر، ومن صاحب العلماء وُقّر).

وهنا يثار تساؤل هل النذالة تنتقل عبر الوراثة ام انها صفة مكتسبة؟

يرى العديد من الباحثين أن النذالة صفة مكتسبة يقابلها إستعدادات جينية للنذالة و الخسة خامدة لدى الشخص تظهرنشاطها عندما تجد الظروف المناسبة.

اللوحة المرفقة

لوحة للإيطالى فينتشنزو سنة 1805م تصور لحظة اغتيال القيصر يوليوس، حين أطلق صرخته الشهيرة: حتى أنتيابروتوس؟ حين رأى صديقة المقرب (بروتوس) يشارك الغدر به، ليقول حينها: إذاً فليمت القيصر!

فى اللوحة تظهر يد القيصر ممدودة لصديق العمر، رغم إحاطة الوجوه به وتكاثر النصال حوله، إلا أنه لا ينظر سوى فىعينى صديقه وكأنه لا توجد إلا سكينة.

—-

استاذ حامعي – النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الإتحادية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here