أسرة كارل ماركس، ومعاناة حياة التشرد !

أسرة كارل ماركس، ومعاناة حياة التشرد ! (*) د. رضا العطار

ولد كارل ماركس عام 1818 من أب يهودي يحترف مهنة المحاماة، وكان قد تنصّر سياسيا لا دينيا، لكي يقبل الزبائن على مكتبه. وكان اهله يعيشون في بلدة (تريف) الالمانية، وهذه البلدة كثيرا ما تناوبتها سيادة فرنسا بفعل الحروب، بسبب موقعها الحدودي. وكانت ام كارل يهودية مؤمنة، تميل الى الهدوء والجري على اوضاع العرف السائد، لكنها عاشت طول حياتها وهي في اشد حالات الحزن والأسى بسبب نزوع ولدها كارل الى الأفكار الثورية. تعرضه دوما الى مطاردة الحكومات له اينما حل.

بعد سقوط نابليون، انتقلت ادارة مدينة تريف من فرنسا الى المانيا. وكان يسكن بجوار منزل ماركس المستشار الالماني البارون وستفالين. وكان الوالد ماركس قد تعرف على هذا البارون وصارا صديقين يتزاوران. وتعرفت عائلة كل منهما الى عائلة الاخر. وكان للبارون ابنة جميلة تدعى برتا. وكانت تكبر كارل الأبن بأربع سنوات، ولكنه شب معها وقضيا عهد الصبا معا، فلما بلغا سن الشباب تعلق كارل بها وصار يلهج بذكرها ولا يطيق فراقها. وبحكم فارق السن كانت متأنية اكثر وكانت تجد في نفسها له مثل ما يجد هو بل اكثر، ولكنها كانت تداري وتطاول.

وعندما ارسل ماركس ابنه كارل الى مدينة بون للدراسة في جامعتها، لم يكن مجتهدا ولا مواظبا على دروسه، فقد كان باله منشغلا في محبوبته برتا. منصرفا عن دروسه التي تراكمت عليه، فلم يأت بنتائج مرضية، وعندما وصلت اخباره المخيبة للأمل الى والده، بعث اليه برسالة يؤنبه، لكن دون طائل واخيرا استدعاه اليه ومنعه من الذهاب الى بون.

فلما حضر، اخذ في حث برتا على الزواج منه، والح عليها في ذلك، واظهر لها من الحب والاخلاص ما جعلها تقبل به، وتعده بالزواج، لكن بعد تردد وممانعة طال امدها، فقد كانت الفتاة تخشى ان يكون تعلق كارل بها عن هوى زائل لا عن حب مقيم. وبقيت خطبتهما سرا مكتوما لا يدري بها ابواهما. وعاد كارل ماركس الى الدراسة لكن هذه المرة في جامعة برلين واخذ يدرس بنشاط فائق واستطاع بذكائه المعهود ان ينال شهادة الجامعة، لكن في هذه الاثناء، مات ابوه. فعزم على ان يحترف مهنة الصحافة.

وكان اهل الفتاة، قد علموا بعلاقة ابنتهم بكارل ماركس، وصاروا يمانعون في عقد هذا الزواج، لكن اصرار المحبين كان قد نسف موقف الوالدين، فقد كان الحب بينهما اصلد من ريبة العائلة و اقوى من شكوكها، خاصة بعد ما انكشف لهم و للرأي العام الاوربي موقف كارل ماركس السياسي المتطرف، هكذا تزوج العاشقان عام 1843 على الرغم من استياء اهل الفتاة.

وخرج كارل ماركس بعروسته الى باريس فرحا مبتهجا، وهناك تعرف على برودون و باكونين و سان سيمون، وكان هؤلاء الاقطاب الثلاثة من عمالقة علم الأقتصاد السياسي في اوربا ومن غلاة الحاملين على مبدأ الملكية الشخصية، فأشُرب ماركس آرائهم، واخذت هذه الاراء تتطور في نفسه، تتكثف وتنصقل وتتبلور، حتى انتهت في تفتح براعمها عن الأشتراكية الحديثة.

لكن بعد ان اعلن كارل ماركس بيانه الشيوعي (مانوفست) من بروكسل عام 1848، اوعز قيصر روسيا انذاك الى حكومة فرنسا ان تنفي كارل ماركس من اراضيها، فقامت الاخيرة ونفذت الطلب.

فمنذ هذا التاريخ بدأت معاناة اسرة كارل ماركس بحياة التشرد، تتخبط في ظروف اقتصادية خانقة، دائم التنقل من بلد الى بلد، لا ينزل كارل ماركس مكانا حتى يرى البوليس قد احاطه من كل جانب، وانتهى به المطاف اخيرا في انكلترا، التي اصبحت وطنه الثاني بعد المانيا.

لقد جاء في سجل الزائرين للمكتبة الوطنية العامة في لندن ان كارل ماركس كان الأول من يدخل مكتبتها وأخر من يغادرها طيلة ثلاثة عقود متوالية. وخلال عام 1849 اصدر كتابه الشهير (رأس المال).

ولم يكن يرفد حالته المعاشية يومذاك سوى جريدة التربيون الامريكية، اذ كانت تحوّل اليه جنيها واحدا كل اسبوع لقاء ما كان يوافيها ببعض المقالات. الى ان تعرف على فردريك انجلس صاحب معامل النسيج في مانجستر، الذي احتضنه ماديا ثم نصره عقائديا، فغدى صديقه الأمين.

يعلق كاتب السطورعلى العلاقات الودية التي ربطت هذين المحبين مع بعضهما فيقول : لقد اتسمت علاقة كارل ماركس بزوجته برتا بصفة الأخلاص في الحب، والتفاني في سبيله، ناهيك عن صدق النية وصفاء الوفاء، انه كان يحبها لحد العبادة وهي بالمقابل كانت تبادله بمشاعرها الفياضة، تجاوزت الحدود التقليدية المتعارف عليها يومذاك.

كانت محبوبته برتا نموذجا متميزا في التضحية من اجل هذا الحب الحراق، نادرا ما يتكرر — فقد كانت هذه المرأة تعلم مسبقا، ان هذا الشخص الذي تريد ان تعيش معه طوال عمرها، لم يكن بالانسان الأعتيادي ابدا، انه سيكون بسبب افكاره الثورية مضطهدا مطاردا ابد الدهر، كما انها كانت تعلم علم اليقين انه كان فردا فقيرا معدما لا يملك من حطام الدنيا شئ. وقد تبقى حياته كلها على هذه الوتيرة او دونها، سمتها العوز وطابعها الحرمان. انها كانت تعلم هذا كله. كما انها في الوقت نفسه كانت عارفة من ان شخصها منحدر من سلالة اسرة ارستقراطية عريقة، عاشت سنوات طفولتها وصباها في بحبوحة الترف ورغد العيش وهي الان تجد نفسها في مفترق الطريق، ولكن ما السبيل ؟ كما انها كانت تعلم كذلك ان هذا الرجل صاحب مبدأ راسخ العقيدة صلب العود، يسعى في سبيل تحقيق هدفه، فلا عجب ان جاء حبها له مضاعفا.

فأنها ولهذه الاسباب لم تباغت ابدا كلما طرق البوليس باب دارها اواقتحم منزلها، انها كانت تعلم ذلك جيدا وتتوقعه. لا بل كانت قد حسبت له حسابه واعطت له وزنه.

وحينما طُرد كارل ماركس من وطنه المانيا، لأن قومه وجدوا في كتاباته خطرا على استقرار حياتهم ! ، اراد اهل برتا ان يستبقوا بنتهم بينهم، كي يجنبوها المتاعب و الأخطار التي سيواجهها زوجها في مستقبله المبهم و مسلكه الشائك، لكن الأستجابة جائت عكس ذلك، حيث ان الزوجة ازدادت بزوجها تعلقا واصرارا، واظهرت عزمها على ان تخرج وتتشرد معه وتواجه نفس المصير الذي يواجهه هو، وذلك بدافع وعيها الصادق في ادراك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها والألتزام بقدسية الرابطة الزوجية فتبعته اينما رحل، كل هذه المضايقات والمكايدات و شظف العيش ومعاكسة الظروف لم تزعزع موقف الرجل يوما، مثلما لم تحرك هواجس الزوجة قيد شعرة.

وعندما توفيت برتا، ذهب الزوج المنكود متطوحا من ألم اللوعة برفقة اولاده الستة وهم يحملون نعش امهم على اكتافهم. يجرون انفسهم بأتجاه المقابر. الى ان وصلوا الى الموقع المحدد، فوضعوه ارضا وبدوا يحفرون القبر، وبعد ان انتهوا من عملهم وقبل ان ينزًلوا الجثة، دنى الأب المتصدع نحو القبر بغية الأستطلاع، فعثر ووقع في الحفرة، فاصيب من جراء ذلك برضوض شديدة في اجزاء مختلفة من جسمه، جعلته طريح الفراش، لايقوى على مغادرته. ومنذ ذلك الحين بقى يعاني من الآلام الجسمية و الروحية، تذكره بهذا باليوم المشؤوم الذي افقده، فقد كانت هذه الانسانة منبع سعادته ومصدر قوته ونشاطه، انها كانت تلهمه خصب الخيال وتمهد له الاجواء الملائمة للدرس والأنتاج، فكانت له خير معين، انها كانت المؤنس والأنيس.

وعلى اثر ذلك غدا الرجل كسير النفس متوجعا حزينا معانيا شيخوخة معذبة يقضي ايامه في عزلة موحشة، وكأنه اصبح خارج دائرة الحياة، بعد ان اشعل نار الثورات بين الطبقات المسحوقة في العالم، يحثهم للمطالبة بحقوقهم وتحسين اوضاعهم الاقتصادية. وقد انطفأت شمعة حياته عد رحيل برتا بعام ! .

* مقتبس من كتاب الحب في التاريخ لسلامة موسى مع اضافة لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here