درس موجز من تاريخ تشيلي المعاصر

جاسم الحلفي

لن تتوقف حركة التاريخ وإن اعترضتها فترة نكوص. لن تكف الحركة الاجتماعية عن الكفاح مهما اشتدت قبضة الاستبداد. لن يتوقف الصراع الاجتماعي من اجل الحريات والحقوق والعدالة مهما اوغل الطغيان في تعسفه. لن تبقى الأماني مجردة، بل سرعان ما تتحول الى أفعال تبشر بغد أفضل. لن تبقى الأفكار حبيسة الورق، بل تتحول الى خطوات تغير مجرى التاريخ. لا يبقى الحال على ما هو عليه، فالتقدم والتطور من سمات حركة التاريخ مهما وضع من العصي لعرقلة دوران عجلاته. المستحيل هي خلود الدكتاتوريات جاثمة على صدور الشعوب.

تصعب علينا بالطبع الإحاطة بهبات وانتفاضات الشعوب وثوراتها، ونعجز عن عرض التغيرات التي شهدتها الأنظمة السياسية في العالم لصالح قوى التقدم والخير والسلام. وعندما يتعذر علينا حصر أساليب الكفاح من اجل التغيير والإصلاح، ولا نتمكن من محو آثام الانقلابات الوحشية من الذاكرة الانسانية، والتي راح ضحيتها مناضلون من اجل كرامة الانسان في بلدانهم، تقفز الى الذاكرة احداث الانقلاب العسكري الدموي في تشيلي الذي نفذه الجنرال أوغستو بينوشيه، قائد الجيش الذي استولى على السلطة في 11 أيلول عام 1973، بعد محاصرته القصر الرئاسي واقتحامه بالدبابات مطالباً رئيس الجمهورية سلفادور أليندي بالاستسلام. لكن أليندي الماركسي، الذي جاء الى رئاسة البلاد عبر انتخابات ديمقراطية، قاد فيها تحالفا لليسار مكونا من الاشتراكيين والشيوعيين، فضل الانتحار على ان يسلم نفسه للفاشست، فسقط مضرجا بدمائه في القصر الرئاسي، بعد ثلاث سنوات في الحكم لا غير.

ودخلت تشيلي مرحلة الديكتاتورية، وتسلط الدكتاتور بينوشيه على رقاب الشعب بالحديد والنار، فمارس القمع وعطل البرلمان والغى الدستور واغرق العاصمة سانتياغوا بالدم وجعل من ملعبها الرياضي مسلخا بشريا، كان بين من اعدم فيه الموسيقي والمغني العالمي الشهير فيكتور جارا بعدما قطعوا أصابع يديه.

في تلك الفترة ارتدت حيطان بيوت الفقراء والمسحوقين في طول تشيلي السواد، حزنا على ابنائها البررة. ولا يمكن مقارنة حمامات الدم في شوارع مدنها، الا بما اقترفه مجرمو شباط الأسود في العراق قبل ذلك بعشر سنوات ، في 8 شباط المشؤوم عام 1963، والذي اكمل مسيرته الدموية نظام الاستبداد بعد انقلاب 17 تموز 1968.

اما الفساد الذي استشرى وأصبح القوة الحاكمة أيام الجنرال بينوشيه، فكان شبيها ومثيلا للفساد وطغمته الذي يسود العراق منذ 2003، ويتحكم في قراره السياسي، ويطال لقمة خبز الكادحين، ويستهتر بمعيشة الفقراء ويتطاول عليها بتخفيضه قيمة الدينار امام الدولار.

واليوم تحتفل تشيلي بفوز أحد أبناء الجيل الذي غدر به بينوشيه، جيل التحرر والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية، وهو القائد الطلابي والمناضل الشاب غابيريل بوريك الذي يبلغ من العمر ٣٥ عاما، والذي يعد أحد ابرز قادة احتجاجات سنة 2011. فقد اصبح اصغر رئيس لجمهورية تشيلي بعد ان قاد ائتلافا يساريا كبيرا واستلهم مسيرة تحالف سلفادور الليندي، وانتصر على منافسه خوسيه أنطونيو كاست، ممثل اليمين المتطرف الذي أقر في النهاية بالهزيمة.

واللافت هو هذا الاعتراف بالخسارة من جانب المنافس خوسيه أنطونيو كاست، حيث سارع الى كتابة تغريدة على تويتر مهنئا خصمه الفائز “على نجاحه الكبير.. ومنذ اليوم هو الرئيس المنتخب لتشيلي ويستحق منا كل الاحترام والتعاون البناء. تشيلي أولا على الدوام”.

لقد هنأه ولم يوجه اية اتهامات بالتزوير ولا لجأ الى تهديد السلم الأهلي ولا الى استعراض السلاح او الطيارات المسيرة. وولت مرحلة الانقلابات وسطوة طغمة الفساد المستأثرة بالسلطة والمال والنفوذ.. ولعلها لن تعود ابدا.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here