أثر الخبرات السارة في حياتنا النفسية

أثر الخبرات السارة في حياتنا النفسية * د. رضا العطار

الآلام لا تمثل وحدها الجانب الاكبر من خبراتنا العقلية، بل ان هناك ايضا تلك (المتع) او (المسرات) التي لا تكاد تخلو منها أية حياة نفسية، وفي مقدمتها الصحة والقوة والشباب والحيوية والامتلاء وشتى ضروب (الاشباع) – – – ولا شك ان كل هذه الملذات التي تكمن جذورها في صميم (الطبيعة البشرية) انما تمثل (خبرات سارة) تلعب دورا هاما في صميم حياة الفرد والجماعة. ولو لم تكن لتلك اللذات اصول طبيعية تمتد الى اعماق التربة البيولوجية، لما كانت لها كل تلك الاهمية في حياتنا النفسية. ولعل هذا هو السبب في ان كل ما هو (طبيعي) لا بد من ان يبدو لنا (بريئا) و (جميلا) في آن واحد.

وقد كان كثير من الفلاسفة القدماء يرون في (اللذة) مظهرا من مظاهر (الصحة النفسية) .كما كانوا يعدون النفس العاجزة عن الاستمتاع بالملذات الجسدية نفسا مريضة معتلة.

وحسبنا ان نعود الى فلاسفة الاغريق ابيقور وافلاطون لكي نتحقق من ان (الاخلاق) عند هؤلاء جميعا كانت تستند الى (نظرة طبيعية) توحد بين (ماهو صحي ) من جهة و

( وما هو خير) من جهة ثانية. فكانت تعد (الخير الاقصى) هو ما من شانه ان يكفل للانسان (الصحة النفسية) وهذا الاعتراف الصريح بأهمية ( القيم الحيوية ) هو الذي عمل على ادخال (اللذة) في دائرة (الحياة الخلقية) وهو الذي ادى في الوقت نفسه الى ارساء دعائم (النزعة الطبيعية) التي رفضت منذ البداية التوحيد بين ( ما هو خير) و

(وما هو شر).

ولم تلبث بعض الديانات السماوية ان عملت على زعزعة اركان هذه الثقة المتزايدة بالطبيعة، وهذا التمسك البالغ بالقيم الحيوية قد ادت بدورها الى انتشار اخلاقيات الزهد والتقشف الى جانب ارتفاع الصيحات معلنة بطلان حياة الجسد والاستمتاع العضوي.

– – ثم جاء العصر الحديث بسعيه اللاهث وراء (الملذات) فلاقت المذاهب القائلة بالزهد والتقشف حملات عنيفة من جانب اولئك الذين لم يفهموا معنى للاستمرار في معاداة (الطبيعة) وانكار اهمية (القيم البيولوجية) وهكذا عادت (فلسفة اللذة) الى الظهور تحت ستار الدفاع عن (قيم الحياة).

ونحن لا ننكر ان للخبرات السارة دورها في تعميق احساسنا بالحياة وتنويع اسباب تعلقنا بالوجود ولكننا نميل الى الظن بان الاقصار على البحث عن الملذات كثيرا ما يحيل الحياة باسرها الى مجرد سعي تافه مبتذل وكأن (اللذة) قد اصبحت هي (الخير الاقصى) الذي يطلب لذاته. وكثيرا ما تجيء فلسفة اللذة فتحجب عن اعين الناس العديد من القيم الاخرى التي تحفل بها الحياة : كالمعرفة و التذوق والفن والثقافة وما الى ذلك وهي جميعا قيم انسانية لا تحصّل الا بشق الانفس وربما كان الخطر الاكبر الذي يتهدد المأخوذين بسحر (مذهب اللذة) هو الوقوع تحت اسر (اوهام السعادة)، فلا يلبث الواحد منهم ان يعدو لاهثا وراء سراب المنفعة و الرفاهية والملذات وشتى اشكال الشهوات.

ثم ينتهي به الامر في خاتمة المطاف الى الشعور بالخواء والفراغ والعبث والضياع.

والظاهر ان توجس فلاسفة الاخلاق من حياة اللذة التلقائية واليسر والسهولة، هو الذي حدا بهم الى الشك في قيمة كل (سعي رخيص) لكسب السعادة، خصوصا وانهم فطنوا الى العلاقة الوثيقة التي طالما جمعت بين (خبرة الألم) من جهة ووعي الانسان الناضج بقيم فضائل الاخلاق.

مقتبس من كتاب فلسفة مشكلة الحياة د. زكريا ابراهيم – جامعة القاهرة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here