الدبلوماسية الإسلامية خلال العهد النبوي: دروس وعبر

الدبلوماسية الإسلامية خلال العهد النبوي: دروس وعبر
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
في رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم للملوك فوارق دقيقة مؤسسة على حكمة الدعوة، روعي فيها ما يمتاز به هؤلاء الملوك في العقائد التي يدينون بها، و(الخلفيات) التي يمتازون بها، فلما كان هرقل، والمقوقس يدينان بألوهية المسيح كلياً، أو جزئياً، وكونه ابن الله، جاءت في الكتابين اللذين وُجِّها إليهما كلمة (عبد الله) مع اسم النبي صلى الله عليه وسلم صاحب هاتين الرسالتين، فيبتدئ الكتابان التسمية بقوله: محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الرُّوم وبقوله: من محمد بن عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط بخلاف ما جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز، فاكتفى بقوله: من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس وجاءت كذلك آية: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران، آية : 64). في هذين الكتابين، وما جاءت في كتابه إلى كسرى أبرويز لأن الآية تخاطب أهل الكتاب، الذين دانوا بألوهيته المسيح، واتخذوا أحبارهم، ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم، وقد كان هرقل إمبراطور الدولة البيزنطية، والمقوقس حاكم مصر قائدين سياسيين وزعيمين دينيين كبيرين للعالم المسيحي، مع اختلاف يسير في الاعتقاد في المسيح: هل له طبيعة أو طبيعتان(1)؟
ولما كان كسرى أبرويز وقومه يعبدون الشمس والنار يدينون بوجود إلهين: أحدهما يمثل الخير، وهو: يزدان، والثاني يمثل الشر وهو: أمر إهرمن، وكانوا بعيدين عن مفهوم النُّبوة والتصور الصحيح للرسالة السماوية، جاءت في الكتاب الذي وجه إلى الإمبراطور الإيراني عبارة(2): «وأني رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حياً».
وقد كان تلقَّى الملوك لهذه الرسائل يختلف: فأمَّا هرقل، والنجاشي، والمقوقس، فتأدبوا، وتلطفوا في جوابهم، وأكرم النجاشيُّ، والمقوقس رُسُل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل المقوقس هدايا، منها جاريتان كانت إحداهما مارية أمُّ إبراهيم ((ابن رسول الله))، وأمَّا كسرى برأأبرويز: فلما قُرئ عليه الكتاب مزَّقه، وقال: يكتب إليَّ هذا، وهو عبدي؟ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مزَّق الله ملكه(3).
وأمر كسرى باذان ـ وهو حاكمه على اليمن ـ بإحضاره فأرسل بابويه يقول له: إن ملك الملوك قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله سلط على كسرى ابنه شرويه، فقتله(4).
وقد تحقق ما أنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل دقة، فقد استولى على عرشه ابنه (قباذ) الملقب بـ(شرويه)، وقتل كسرى ذليلاً مهاناً بإيعاز منه سنة (628م).
وقد تمزق بعد وفاته وأصبح لعبة في أيدي أبناء الأسرة الحاكمة، فلم يعش (شرويه) إلا ستة أشهر، وتوالى على عرشه في مدة أربع سنوات عشرة ملوك واضطرب حبل الدولة إلى أن اجتمع الناس على ((يزدجرد)) وهو آخر ملوك بني ساسان وهو الذي واجه الزَّحف الإسلامي، الذي أدَّى إلى انقراض الدولة الساسانية، التي داست، وازدهرت أكثر من أربعة قرون انقراضاً كلياً، وكان ذلك في سنة (637م)، وهكذا تحققت هذه النبوة في ظرف ثماني سنين(5).
ــ الوصف العام لرسائل الرسول صلى الله عليه وسلم:
يلاحظ الباحث: أن الوصف العام لكتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء يكاد يكون واحداً، ويمكننا أن نستخرج منها الأمور التالية:
ــ نلاحظ أن جميع كتب الرسول صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك والرُؤساء يفتتحها صلى الله عليه وسلم بالبسملة، والبسملة آية من كتاب الله ـ تبارك وتعالى وفي تصدير الكتاب بها أمور مهمة، كاستحباب بدء الكتب ((بسم الله الرحمن الرحيم)) اقتداء برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد واظب عليها في كتبه صلى الله عليه وسلم، كما أن فيها جواز كتابة آية من القرآن الكريم في كتاب وإن كان هذا الكتاب موجهاً إلى الكافرين، وفيها جواز قراءة الكافر لآية، أو أكثر من القرآن الكريم، لأن هذا الكافر الذي أرسلت إليه الرسالة وتضمنت البسملة وغيرها لا يحترز من الجنابة والنجاسة، فيقرأ الرسالة التي اشتملت على آيات من القرآن الكريم، وهو جنب.
ــ وتستنبط من رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء الآتي:
ــ مشروعية إرسال سفراء المسلمين إلى زعماء الكفر، لأن كل كتاب كان يكتبه الرسول صلى الله عليه وسلم يكلِّف رجلاً من المسلمين يحمله إلى المرسل.
ــ مشروعية الكتابة إلى الكفار في أمر الدِّين، والدنيا.
ــ ينبغي أن يكتب في الكتاب اسم المُرسِل، والمُرسَل إليه، وموضوع الكتاب، وهو واحد في جميع الكتب، ويتلخص في دعوتهم إلى الإسلام.
ــ عدم بدء الكافر بتحية الإسلام، وهي (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطرح السلام في كتبه على ملك من ملوك الكفر، بل كان يصدِّر كتبه بقوله: «السلام على من اتبع الهدى»، أي: آمن بالإسلام، ويؤخذ من هذا عدم جواز مخاطبة الكافر بتحية الإسلام.
ــ اتخاذ الخاتم: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم رسائله بعد كتابتها بخاتمه، وقد كتب عليه ثلاث كلمات محمد رسول الله(6).
فعن أنس رضي الله عنه قال: لمَّا أراد النبيُّ أن يكتب إلى الرُّوم، قيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا أن يكون مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة، فكأني أنظر إلى بياضه في يده، ونقش فيه محمد رسول الله(7).
ــ تقدير الرِّجال:
لمَّا أسلم باذان بن ساسان وكان أميراً على اليمن لم يعزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أبقاه أميراً عليها بعد إسلامه، حين رأى فيه الإداري الناجح، والحاكم المناسب مما يدلُّ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدر الكفاءات في الرجال، ويضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ومن الجدير بالذكر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ولى ولده أي ولد باذان شهراً أميراً على اليمن بعد موت أبيه(8).
ـ جواز أخذ الجزية من المجوس: وهذا الحكم استخرج من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسله إلى المنذر بن ساوي يحدد فيه الموقف من اليهود والمجوس، إذ ورد فيه: «من أقام على يهوديته أو مجوسيته، فعليه الجزية»(9).
وقد ذهب ابن القيم مع طائفة من العلماء إلى جواز أخذ الجزية من كل إنسان يبذلها، سواء كان كتابياً أم غير كتابي، كعبدة الأوثان من العرب وغيرهم، فقد جاء في زاد المعاد: وقد قالت طائفة في الأمم كلها إذا بذلوا الجزية، قبلت منهم أهل الكتابين بالقرآن والمجوس بالسنة، ومن عداهم ملحق بهم، لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم، فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب، لأنهم أسلموا قبل نزول آية الجزية، فإنها نزلت بعد تبوك(10).
ـ جواز أخذ هدية الكافر:
لقد أرسل المقوقس عظيم القبط حاكم مصر ـ وهو كافر ـ مع سفير رسول الله حاطب بن أبي بلتعة هدية تشتمل على جاريتين وكسوة للرسول صلى الله عليه وسلم وبغلة يركبها، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحدى الجاريتين ماريا القبطية(11).
ـ من نتائج إرسال الكتب إلى الملوك والأمراء:
أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم في سياسته الخارجية دراية فاقت التصور، وأصبحت مثالاً لمن جاء بعده من الخلفاء، كما أظهر صلى الله عليه وسلم قوة وشجاعة فائقتين فلو كان غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخشى عاقبة ذلك الأمر، لاسيما وأن بعض هذه الكتب قد أرسلت إلى ملوك أقوياء على تخوم بلاده كهرقل وكسرى والمقوقس، ولكن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزيمته على إبلاغ دعوة الله، وإيمانه المطلق بتأييد الله سبحانه وتعالى، كل ذلك دفعه لأن يقدم على ما أقدم عليه، وقد حققت هذه السياسة النتائج الآتية:
*ـ وطّد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه السياسة أسلوباً جديداً في التعامل الدولي لم تكن تعرفه البشرية من قبل.
*ـ أصبحت الدولة الإسلامية لها مكانتها وقوتها وفرضت وجودها على الخريطة الدولية لذلك الزمان.
*ـ كشفت للرسول صلى الله عليه وسلم نوايا الملوك والأمراء وسياستهم نحوه وحكمهم على دعوته.
*ـ كانت مكاتبة الملوك خارج جزيرة العرب تعبيراً عملياً على عالمية الدعوة الإسلامية، تلك العالمية التي أوضحتها آيات نزلت في العهد المكي، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء، آية : 107).
وهكذا فإن رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمراء العرب والملوك المجاورين لبلاده تعد نقطة تحول في سياسة دولة الرسول الخارجية، فعظم شأنها وأصبحت لها مكانة دينية وسياسة بين الدول، وذلك قبل فتح مكة، كما أن هذه السياسة مهدت لتوحيد الرسول صلى الله عليه وسلم لسائر أنحاء بلاد العرب في عام الوفود(12).
مراجع الحلقة السادسة والأربعون
() ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي، ص: 39.
(2) السيرة النبوية، للندوي، ص: 290.
(3) تاريخ الطبري (3 / 90 ـ 91).
(4) المصدر نفسه (3 / 90 ـ 91).
(5) السيرة النبوية للندوي، ص: 300.
(6) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 65، وأخرجه مسلم، الحديث رقم: 2092.
(7) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 2938.
(8) غزوة الحديبية لأبي فارس، ص: 239، 240.
(9) المصدر نفسه.
(10) زاد المعاد (5/ 91).
(1) غزوة الحديبية لأبي فارس، ص: 243.
(2) السيرة النبوية للصلابي (2/ 358).
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here