ذكريات الخرافة والجهل :

بقلم ( كامل سلمان )

حدثني صديق لي ، قال : في خمسينيات القرن الماضي كنت شابا بمقتبل العمر أسكن مع عائلتي في منطقة السنك ببغداد ، فأقترح علي والدي انذاك أن أفترش بسطية في ساحة حافظ القاضي القريبة من بيتنا لبيع بعض الحاجيات لعلي أساعد عائلتي ماديا في تلك الفترة الزمنية التي كان الفقر شائعا عند معظم العراقيين . يقول فعلا وفي اليوم التالي بدأت عملي وكان مكسبي جيدا ، يقول صاحبي كان بالقرب مني رجل كهل عنده عربة يبيع فيها اللبن الزبادي وكان كريم العين ( بالعراقي أعور ) وفي صباح احد الايام جاءني هذا الرجل الكهل مبتسما وكأنه يريد ان يخبرني بخبر سار ، يقول وفعلا كما توقعت أقترب مني وقال ( عندي لك خبر ممتاز ) يقول صاحبي قلت له اخبرني به ، فأخبرني عن (ظهور شيخ جليل في منطقة الكاظمية له القدرة على علاج المرضى واصلاح العلاقات الزوجية وجلب الارزاق ، واستمر قائلا حتى له القدرة على تغيير حال الناس من حال الى حال فهو معجزة من الله ، ثم قال أريد منك ان تذهب اليه لعله يتحسن الحال ويتوسع رزقكم وتتخلص من هذه البسطية!!!! فأنا عندما سمعت بخبر هذا الشيخ الجليل تذكرتك وقررت ان اخبرك اول الناس لإنك عزيز علينا .)
يقول صاحبي نظرة الى هذا المغفل الذي جاء ليخبرني بكلام تافه ويعتبره خبر سار ، يقول وبدون تردد قلت له لماذا لا تذهب انت اليه لعله يصلح عينك الكريمة ويوسع عليك الارزاق !! يقول فأجابني بكلام غريب مازلت اتذكره ( صوچي أنصح انسان متخلف جاهل مثلك ) . انتهت القصة التي حدثني بها صاحبي ، بعدها ألتفت الي صديقي وسألني ما رأيك بالقصة ؟ وهذا الكلام حدث قبل اكثر من ستين سنة ؟ فقلت له قصة لطيفة ولها زمانها . فضحك فقال لي أتدري كلامه كان صحيحا وانا كنت مخطئنا لإنني لم أكن أستوعب عقله حينما نقل لي خبر الشيخ الجليل . فقلت له وكيف ؟ فقال عندما حدثني ذلك الرجل الكهل ( بائع اللبن) عن الشيخ الجليل الذي ظهر في الكاظمية فقد صدق هو الخبر عندما سمعه عن طريق شخص أخر ، وبما انه صدق الخبر كان لزاما على الناس ان يصدقوه لإنه هو صدق الخبر وهذا حال الغالبية من ابناء الوطن يصدقون مايسمعون ومن لا يصدقهم فهو جاهل متخلف . فهو صادق بإحساسه وعقله ، وحجم عقله لا يزيد عن هذا . فهل مجتمعنا حاليا أفضل من بائع اللبن قبل اكثر من ستين عاما ، مجتمعنا حاليا عندهم القدرة على قتلك ان لم تصدقه مادام هو قد استمع وصدق الخبر ، فمجتمعنا اليوم لا يبحث عن دليل او مصداقية للخبر او الرواية ، يكفي ان الخبر نقله الشيخ الفلاني ، وهل هذا الشيخ يكذب ، حتى وان قال لك شرب بول الدواب عافية ، عليك ان تصدقه ، نحن أكثر شعوب العالم تصديقا للخبر والسبب اننا لا ننظر الى ذات الخبر بل ننظر الى ناقل الخبر فإن أعجبنا ناقل الخبر صدقناه حتى وان كان الخبر يخالف العقل والمنطق ، لهذا السبب نقدس الرسول ولا نبالي للرسالة ، اي بمعنى ادق قيمة الرسالة عندنا من قيمة الرسول وهذا اغرب شيء ننفرد به عن باقي البشر ، فإذا أردت ان تكون انسانا واعيا عاقلا مثقفا ناقدا فلا عيشة لك بعد اليوم في ارض المقدسات ! فلا مكانة لمن يفكر لوحده . ثم اردف بالقول وبما انني اريد ان ابقى في هذه الارض حتى مماتي سأتقبل كل خطأ وأكذب نفسي وعقلي الذي لم يجلب لي غير الالم طوال حياتي ..هل تظنني سأتذوق الراحة وانا في وادي والناس والاقربون في واد آخر ، واغربتاه .
انه حقا لشيء مؤلم ان ينتصر الدجل ويحقق انجازات كبيرة عند بعض الناس ، وهذه ليست اول هزيمة فقد عاشت اجيال كثيرة مهزومة في عقولها لإنها رضخت للتخلف فدفعت الثمن غاليا من حياتها . فاليوم ترى افواج من حملة الشهادات العليا والاكاديمين عقولهم اقل من عقل ذلك الكهل بائع اللبن في خمسينيات القرن الماضي يصدقون الخرافات وينقلونها اليك بهدوء وابتسامة عريضة كأنهم رسل للخرافة ولأنهم اصحاب مكانة اجتماعية محترمة ، ولأنهم واثقون جدا فهذه الابتسامة من باب التواضع ، فكيف لا نصدقهم ، فهل نحن مجانين .
كلما أردت النوم أصحو على وجع
فقد صارت الأوجاع فينا واليا

 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here