القضاء في القرآن الكريم (ح3) (القدر 2)

الدكتور فاضل حسن شريف
من الآيات التي ذكر فيها القدر ومشتقاته ” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” (القمر 49)، و “إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا” (الطلاق 3)، و “نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ” (الواقعة 60). فقدر الأشياء بيده سبحانه وهكذا قدر الموت.
هنالك القضاء والقدر العلميّان وهو تحديد كل شئ في علمه سبحانه الأزلي قبل إيجاده، فهو تعالى يعلم كل شئ ومقداره. والمراد من القضاء العلمي هو علمه سبحانه بضرورة وجود الأشياء و إبرامها عند تحقق جميع ما يتوقّف عليه وجودها من الأسباب والشرائط ورفع الموانع. فعلمه السابق بحدود الأشياء و وجودها هو قدر وقضاء علميّان كما قال سبحانه “وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا” (ال عمران 145). وقال أيضاً “قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” (التوبة 51). وقال سبحانه “وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِى كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ” (فاطر 27). وقال تعالى “ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلا فِى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها” (الحديد 22).
اما القضاء والقدر العينيان هما ضرورة وجود الشيء عند وجود علّته الخارجية. بينما التقدير والقضاء العلميان مقدّمان على وجود الشي‏ء. قال الله عز وجل “الّذى خَلَقَ فَسَوّى‏* وَالَّذى قَدَّرَ فَهَدى‏” (الأعلى 2-3) أي‏هدى ما خلقه إلى ما قدّر له.  ان الحوادث في وجودها وتحقّقها منتهية إلى الله سبحانه ما لم تتمّ الشرائط الموجبة لوجودها، فإنّها تبقى على حال الوقوع واللاوقوع، فإذا تمَّت شرائطها، كان ذلك من اللّه قضاءً لها.  يقول الإمام الصادق عليه السلام (القضاء والقدر خلقان من خلق اللّه، واللّه يزيد في الخلق ما يشاء). أنّ المؤمن لا يكون مؤمناً إلّا بالإيمان بالقضاء والقدر وهو من شروط التوحيد في الخالقيّة. لذلك أسند الله سبحانه القضاء والقدر إلى نفسه حيث قال عز وجل “قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْ‏ءٍ قَدْراً” (الطلاق 3)، و “وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (البقرة 117)، و “فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِى يَوْمَيْنِ” (فصلت 12)، و “إِنَّا كُلَّ شَىْ‏ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ” (القمر 49)، و “وَ إِنْ مِنْ شَىْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ” (الحجر 21).
ورد عن ابن عبّاس قال: دخل رجل من أهل العراق على أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أجل يا شيخ، فو الله ما علوتم تلعةً ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر، فقال الشيخ: عند الله أحتسبُ عنائي يا أمير المؤمنين، فقال: مهلا يا شيخ، لعلّك تظنُّ قضاءً حتماً وقدراً لازماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزّجر، ولسقط معنى الوعيد والوعد، ولم يكن على مُسيء لائمةٌ ولا لمحسن محمدةٌ، ولكان المحسن أولى باللاّئمة من المذنب والمذنب أولى بالاحسان من الُمحسن، تلك مقالةُ عبدةِ الأوثانِ وخُصماءِ الرحمن وقدريّة هذه الاُمّة ومجوسها. يا شيخ إنّ الله عز وجل كلّف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطَع مُكرهاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، “ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ” (ص 27). وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام عن معنى القضاء والقدر حينما سأله الشامي فقال: الْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالتَّمْكِينُ مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَةِ وَتَرْكُ الْمَعْصِيَةِ وَالْمَعُونَةُ عَلَى الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ وَالْخِذْلَانُ لِمَنْ عَصَاهُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالتَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ كُلُّ ذَلِكَ قَضَاءُ اللَّهِ فِي أَفْعَالِنَا وَقَدَرُهُ لِأَعْمَالِنَا وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا تَظُنَّهُ فَإِنَّ الظَّنَّ لَهُ مُحْبِطُ الْأَعْمَالِ.
وجاءت كلمة القدر في سير الانبياء: كما في زوجة لوط عليه السلام “فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ” (النمل 57) أي قضينا عليها بأن تكون من الهالكين. وكقوله تعالى مخاطباً داود عليه السلام “وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ” (سبأ 16) أيْ تمهّل في الصنع حتى يقضي أو يتم العمل متقنا.
ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: إنّ الناس في القَدَرِ على ثلاثة أوجه: رجلٌ يزعمُ أنّ الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم الله في حُكمه فهو كافر. ورجلٌ يزعمُ أنّ الأمر مفوّضٌ إليهم، فهذا قد أوهن الله في سلطانه فهو كافر. ورجل يزعمُ أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلِّفهم ما لا يُطيقون وإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلمٌ بالغ.
يقول الإمام الرضا عليه السلام: القدر هو الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين. وعنه عليه السلام: قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنتَ أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاءُ، وبقوَّتي أدَّيتَ إليَّ فرائضي، وبنعمتي قويتَ على معصيتي، جعلتُك سميعاً بصيراً قويّاً، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك. قال الله تعالى “مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ” (النساء 69). ويقول الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام: إنّ الله عز وجل لم يُطَعْ باكراه، ولم يُعصَ بغلبة، ولم يُهمل العباد في مُلكه، هو المالك لما ملّكهم والقادرُ على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العبادُ بطاعته لم يكن الله منها صادّاً، ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاءَ أنْ يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإنْ لم يَحُلْ وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه يعني أنّ الإنسان الذي أطاع الله لم يكن مجبراً على الطاعة، والإنسان الذي عصاه لم يغلب مشيئة الله، بل الله شاء أن يكون العبد مختاراً في فعله.
ولا يتصور الإنسان ان القضاء والقدر يعني ترك الأمر بدون معالجة حيث لكل سبب مسبب، كون الله سبحانه طلب من عبده ان يتفكر ويستخدم عقله، فالمريض مثلا عليه ان يذهب لمن يعالجه. فقد سأل كعب بن مالك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أرأيت دواء يتداوى به هل يرد قدر الله؟ فقال صلى الله عليه واله وسلم ياكعب: بل هو من قدر الله. وهكذا على الطالب الدراسة، والجندي يتطلب ان يزود نفسه بالقوة.  فالإنسان حر في عمله والحصاد هو نتيجة العمل “فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا” (النبأ 39)، و “إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا” (الفرقان 57)، و “اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” (فصلت 40)، و “وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ” (التوبة 105).  العقل هو قضاء الله وقدره منحه للإنسان للتفكر والتدبر. ذكرت عشرات الآيات التي تؤكد على استخدام العقل “أَفَلَا تَعْقِلُونَ” (البقرة 44) (البقرة 76) (ال عمران 65) (الأنعام 32) (الأعراف 169) (يونس 16) (هود 51) (يوسف 109) (الانبياء 10) (الانبياء 67) (المؤمنون 80) (القصص 60) (يس 68). فعندما ينتشر الجهل وعدم التفكر في أقوام فإن معظم الناس لا تستخدم العقول مثل “وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” (البقرة 164) حيث ايات او براهين علمية لا يستخدمون عقولهم للتفكر بها ومنها أيضا ما ورد في (الرعد 4)، و (النحل 12)، و (الروم 28)، و (الجاثية 5).
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here