القضاء في القرآن الكريم (ح 6) (الفصل و الموت)

الدكتور فاضل حسن شريف
في الوقت الحالي يستخدم تعبير الفصل العشائري اي فصل في مشكلة او نزاع بين عشيرتين. ومن معاني القضاء فصل موضوع أو قضية ما كقوله سبحانه “وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ” (مريم 39) وأسوأ ما يمر به الانسان عندما يتحسر على ما فاته وخاصة حسرة يوم القيامة التي تتفاوت درجاتها حسب عمل الانسان، لانه يعلم ان الله عز وجل سيفصل او يقضي بأمره إما في جنة أو نار. وحتى عذاب القبر يحوي الحسرة كما جاء في سورة مريم 39 فإن بعض المفسرين يؤكدون ان الفصل بأمر الانسان عند موته أو البرزخ “وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ” (المؤمنون 100). و قوله سبحانه “فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ” (يونس 47) أن هناك آيات قرآنية تبين أن الأنبياء والرسل بعثوا إلى أقوامهم لإقامة الحجة من الله على الناس بأن يبينوا الحد الفاصل أو القاضي بين الحق والباطل لكي لا يجهلون ويظلمون أي إقامة العدل. ويعد من مهام الأنبياء والرسل الفصل بين الناس لتحديد من المجموعة او الامة المؤمنة والاخرى الكافرة. نلاحظ ان القضاء بمعنى الفصل يحصل في الاخرة والبرزخ  كما في آية (مريم 39)، أو في الدنيا كما في اية (يونس 47).
وقال تعالى “فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ” (سبأ 14) أي فصلنا في أمر موته فإن قضاء أو فصل أمر الموت لا يعرفه غير الله وحده فلا الجن أو غيره يستطيع تحديد هذا القضاء وفي الاية معنى القضاء  مشترك بين الفصل والموت. و الجاهل بان الجن يعلم ان هذا يموت او ذاك فهو مخطأ بدليل هذه الاية المباركة.  وقوله عز وجل “فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ” (فصلت 12) أي فصل الله تعالى وتصيير الأمر بخلق السماوات السبع في يومين.
قال الله عز من قائل “هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ  وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ” (البقرة 210) قضي الأمر أي فصل بالأمر. وهذه الآية من الآيات المتشابهة التي تشابهت على المجسمين للذات الإلهية. وجاء عن باقر شريف القرشي: سأل ابن فضال الإمام الرضا عليه السّلام عن تفسير هذه الآية فأجابه: هل ينظرون إلّا أن يأتيهم اللّه بالملائكة في ظلل من الغمام وهكذا نزلت و عن قول اللّه عزّ و جلّ: “وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا” (الفجر 22) فقال عليه السّلام: إن اللّه لا يوصف بالمجيء والذهاب تعالى عن الانتقال إنما يعني بذلك وجاء أمر ربك والملك صفا صفا، و علّق السيد السبزواري على تفسير الإمام بقوله: ما ورد في الحديث حسن جدا للآية الشريفة كما هو شأنه عليه السّلام في بيان الآيات المتشابهات و المراد بقوله عليه السّلام: هكذا نزلت هو النزول البياني و التفسيري على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
والقضاء بمعنى الموت جاء في سورة الاحزاب في قوله سبحانه “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا” (الاحزاب 23) والمقصود المقاتلون المؤمنون الذين قتلوا او قضى نحبهم والذين ينتظرون القتل. وما بدلوا تبديلا أي لم يترددوا في دينهم.  ردد الإمام الحسين عليه السلام في طريقه إلى كربلاء ويوم عاشوراء عند استشهاد أصحابه مثل مسلم بن عوسجة وقيس الصيداوي الاية الشريفة “فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ” (الأحزاب 23) ومن قضى نحبه كان يقصد الإمام عليه السلام بدر واحد، اما من ينتظر فهم الذين سيقتلون في معركة الطف. خلال مسير الامام الحسين عليه السلام الى كربلاء كان يردد هذه الاية. التقى الامام الحسين عليه السلام بعبد الله بن المطيع القادم من العراق وقال بن المطيع للحسين: فداك امي وابي ما الذي جعلك تخرج من حرم جدك، اقسم عليك بالله لا تذهب الى الكوفة، بالتأكيد سوف يقتلوك. فتلا الامام الحسين عليه السلام “قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا”  (التوبة 51) وهي نفس اجابة الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم للمنافقين عندما قالوا اذا جئنا الى تبوك، اي الذهاب لمعركة تبوك، فقد نرى فتيات الروم ونذنب. وهنالك كلمة يرددها اتباع اهل البيت (ياليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما) اي ياليتنا كنا نقاتل معكم فيقضي الله تعالى نحبنا فنفوز بالشهادة.
يقول الله عز من قائل “وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ” (الزخرف 77)  وقد طلب اهل النار من مالك خازن النار ان يقضي عليهم الله اي يرجعهم الى الموت، بمعنى يميتهم مرة اخرى. و قال تعالى “وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ  فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ  قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ  إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ” (القصص 15) فوكزه موسى أي قتله، فقضى عليه أي أماته. الآية تبين ان موسى عليه السلام قدم الاستغاثة الى شخص من قاطني المدينة من شيعته وهم بني اسرائيل في قتل عدوه وهو من الأقباط. على حين غفلة من أهلها يعني متنكرا. المعنى اللغوي للمشايعة يعني المتابعة أي المشي خلف شئ مثل تشييع الجنائز أي المشي وراء الجنازة.
قال الله تعالى “يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ” (الحاقة 27) يا ليت الموتة الأولى التي ذقتها كانت قاضية علي تقضي بعدمي فكنت انعدمت ولم أبعث حيا فأقع في ورطة العذاب الخالد وأشاهد ما أشاهد كما جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي. قال الله سبحانه “وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ  لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ” (يونس 11) لقضي أجلهم أي جاء وقت موتهم. جاء في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي بأن الله سبحانه إذا جازى المسيئين على أعمالهم بنفس العجلة التي يجب بها هؤلاء تحصيل النعم والخير، فستنتهي أعمار الجميع ولا يبقى لهم أثر كما جاء في سورة يونس. إلا أن لطف الله سبحانه لما كان شاملا لجميع العباد، حتى المسيئين والكافرين والمشركين، فلا يمكن أن يعجل بعذابهم وجزائهم لعلهم يعون ويتوبون، ويرجعون عن الضلال إلى الحق والهدى.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here