اشارات السيد محمد باقر الحكيم قدس سره عن سورة يونس (ح 2)

د. فاضل حسن شريف
عن مفهوم الامة في السياق القرآني للدكتور محمد جعفر العارضي: ومما تقدم نصير مع السيد محمد باقر الحكيم قدس سره الى أنَّ القرآن الكريم (حينما يؤكد هنا على مفهوم الأُمَّة يعبر بها عن الجماعة التي يشترك افرادها في التأريخ المعنوي العقائدي و السلوكي. وكذلك يشترك ابناؤها في العقيدة و السلوك الاجتماعي القائم على هذه العقيدة)، فتظهر رابطة السلوك الاجتماعي العام متمثلا بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال تعالى: “قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ” (يونس 49)، هنا اشارة لطيفة من السيد محمد باقر الحكيم قدس سره الى أنَّ (ما يصدر من الناس من اعمال سلوكية و اجتماعية، و ما يقومون به من نشاطات فكرية و معنوية صالحة او طالحة يؤثر بشكل مباشر في حركة التأريخ و الاوضاع الاجتماعية للناس و في تحديد عمر هذه الامَّة او تلك). و لا شك أنَّنا بازاء عمر قيمي و اخلاقي لهذه الامَّة او تلك، فضلا عن العمر التأريخي. وفي التفاتة رائعة من السيد محمد باقر الحكيم قدس سره تأتي مسألة الفروق الدلالية التي تنم عن ذائقة لغوية و مقدرة عالية يتمتع بها في التماس المعنى و التحليل الدلالي السياقي، ولا سيما التفريق بين لفظتي الأمَّة و القوم، إذ يلحظ أنَّ لفظة قوم تستعمل للدلالة على (الجماعة التي تكون الروابط فيما بينها روابط شعوبية ذات علاقة بالدم و التأريخ المادي و الارضي. أمَّا الأمَّة فهي لفظة يراد منها بمعناها اللغوي مجرد الجماعة، و لكنَّها تطورت في الاستعمال القرآني فاصبحت كلمة تعني الجماعة التي ترتبط فيما بينها بالروابط الفكرية والعقائدية والسلوكية).
عن القصص القرآنية لشهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم قدس سره: دراسة قصة موسى عليه السلام: الآيات التي جاءت في سورة يونس والتي تبدأ بقوله تعالى: “ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين” (يونس 75) والتي تختم بقوله تعالى: “ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون” (يونس 93). وتلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصة الأمور التالية: اولا: إن المقطع جاء بعد مقارنة عرضها القرآن الكريم بين مصير أتباع الحق والمؤمنين بالله وبالرسل والمصدقين بهم، ومصير اتباع الباطل والمفترين على الله والمكذبين بالرسل: “الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم… قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون” (يونس 63-70). ثانيا: إن هذا المقطع من القصة جاء بعد إشارة قصيرة إلى نبأ نوح وقومه، تتبعها لمحة عامة عن الرسل من بعد نوح وموقف قومهم منهم.
ثالثا: إن المقطع لا يتناول من التفاصيل الا القدر الذي يرتبط بموقف فرعون وملئه من موسى والمصير الذي لاقاه هؤلاء، نتيجة لاعراضهم عن الدعوة وتكذيبهم بها كما أنه يشير إلى نهاية بني إسرائيل الطيبة بعد معاناتهم الطويلة في المجتمع الفرعوني. وبعد هذه الملاحظة يمكن ان نستنتج: أن القصة انما جاءت هنا من أجل تصديق الحقيقة التي ذكرها القرآن الكريم في مقارنته بين الذين آمنوا والذين يفترون على الله الكذب. كما أن السياق العام هو الذي فرض مجئ القصة بشئ من التفصيل لأن قصة موسى تمثل بتفاصيلها الانقسام بين جماعتين، إحداهما مؤمنة به، والاخرى كافرة بدعوته، حيث يقع الصراع بينهما وينتهي بالغلبة للمؤمنين على الكافرين، بخلاف قصص الأنبياء الآخرين فإنها تعرض في القرآن الكريم على أساس أن النبي لم يؤمن به إلا النزر اليسير من الناس، ولذلك ينزل العذاب بقومه بشكل عام، فهذه القصص تمثل جانبا واحدا من المقارنة وهو جانب المصير الذي يواجهه المكذبون والمنحرفون، بخلاف قصة موسى فإنها تمثل الجانبين معا: جانب المؤمنين وجانب المكذبين، ومن هنا يمكن أن نفسر مجئ قصة نوح في هذا الموضع مختصرة مع الإشارة العامة لموقف بقية الأنبياء.
إضافة إلى أن نوحا يمثل بداية الأنبياء الذي لاقى قومهم العذاب في قصص القرآن وموسى يمثل نهايتهم وختامهم. ويؤكد هذا التفسير لسياق القصة ما أشرنا إليه في الملاحظة الثالثة من أن التفاصيل التي تناولها المقطع انحصرت في بيان التزام بني إسرائيل الحق، دون أن تتعرض إلى الجوانب الأخرى لموقفهم، والتي تمثل الانحراف والعصيان لأوامر موسى، وهذا الالتزام يكاد يشعرنا ان القصة سيقت لابراز صدق هذه المقارنة في التأريخ الإنساني والتي كانت تتحكم في المواجهة التي يلاقيها الأنبياء. ومن الممكن أن نلاحظ في تكرار القصة بهذا المقطع ملامح السبب الرابع من أسباب التكرار التي ذكرناها سابقا، حيث إن طريقة عرض القصة في هذا المقطع حققت غرضا معينا ما كان يحصل لو عرضت القصة بجميع تفاصيلها كما أشرنا.
جاء في موقع مؤسسة تراث الشهيد الحكيم عن مفهوم الامة في السياق القرآني للدكتور محمد جعفر العارضي: الأمَّة: جماعة تجتمع على أمر ما، من دين، او مكان ،او زمان. وردت لفظة الأُمَّة في القرآن الكريم في دلالتها الاجتماعية 56 مرة. وعلى الرغم من تعدد السياقات التي تحتوي هذه اللفظة، وكثرة تفريعاتها، ومن ثمَّ كثرة دلالاتها، الا إنَّنا نجد السيد محمد باقر الحكيم قدس سره قد أدار هذا التعدد السياقي وعالجه معالجة شاملة منتجة، فبدا ممهدا تارة، و مستنتجا تارة اخرى. فتناول مفهوم الأُمَّة بلحاظين هما: تناوله بلحاظ دلالته على البعد الاجتماعي المجرد، بمعنى دلالته على مجرد الجماعة البشرية التي تربطها رابطة الاجتماع. و من ذلك قوله تعالى “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ” (يونس 47) وتناوله بلحاظ دلالته على البعد المعنوي و الفكري للجماعة البشرية.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here