حينما أشياء بسيطة وعادية تكون مبعث ارتياح و سرور !..

بقلم مهدي قاسم
التيقتُ قبل أيام مع أحد أصدقائي المحامين المجريين الذي عملتُ معه طيلة ثلاثين عاما في المحاكم الهنغارية بقضايا و أمور مختلفة ذات طابع جنائي أو مدني ..
و كنا آنذاك حينما تنتهي أو تؤجل جلسات المحاكمة نذهب إلى أحد المقاهي المجاورة لمبنى المحكمة لنشرب قهوة وندردش قليلا ليذهب كل واحد منا إلى شأنه ، فبالإضافة إلى كونه محاميا بارعا في مهنته فقد كان يتسم بهدوء أعصاب و رصانة ومهابة ، فضلا عن روح نكتة وطرافة ودعابة ، أثناء محادثة أو تسامر معه ، فتأتي نكاته و طرائفه المسلية ، بشكل عفوي ، و على سجية منسابة بتلقائية مثيرة لدهشة وإعجاب ، أي خاليا من أي افتعال أو تظاهر بلعب دور ما ، فيجعلني في حالة ضحك دائم ، طيلة مكوثنا في المقهى ..
وهو ـــ بعدما بلغ الثمانين من العمر ــ لم يعد يتبنى قضايا كثيرة إلا ما ندر ، أو عذرا وتبريرا للخروج من البيت ، أو تخفيفا عن ضغط الشعور بوطأة الشيخوخة المفرطة ــ حسب تعبيره ..
ففي السابق عندما كنتُ أسأله عن حالته و صحته كان يجيب بنبرة جدية :
ــ كل شيء على ما يرام .. طالما إن رمحي على أهبة قوة و استعداد للهجوم في حالات طارئة .. فهذا يعني أن قلبي أيضا في حالة جيدة .. و كذلك عقلي ومعدتي .. فماذا أريد أكثر من ذلك ؟ ..
فكنتُ اطبطب على كتفه بلطف وأقول ضاحكا :
ــ أتمنى أن تدوم هذه الحالة الممتازة إلى ما لانهاية ..
فكان هو يهز رأسه باعتراض قائلا :
ــ ما من شيء يدوم يا صديقي العزيز .. مع بالغ الأسف ، ما من شيء !.. فتلك هي المحنة الحقيقية للوجود البشري المفجع !..
إلا أن كل هذا الذي قيل الآن ليس هو بيت القصيد ..
إنما ………………….
حين ألتقيته قبل أيام و ذهبنا لنشرب قهوة و نتحادث كالعادة سألته باهتمام :
ــ كيف هي الآن صحتنا و عافيتنا ألآن أيها السيد المحامي؟..
قال وهو يرمق الجرسونة الشقراء النشطة حولنا ذهابا و إيابا بصدريتها الزاهية :
ــ لا بأس بشكل عام .. ولكنني .. أحيانا أرتاح وأفرح حينما أقضي حاجتي جيدا وبتفريغ كامل ونهائي !..
فوجدتُ نفسي أضحك كعادتي معه دائما عندما تأتي كلماته أشبه ما تكون بنكتة أو شيء من هذا القبيل ..
فيضيف بنفس النبرة الجدية :
ــ نعم السيد المترجم هذه الحقيقة التي نكتشفها بعد تقدم العمر وطعنة الشيخوخة العميقة ..
آنذاك انقطع عن الضحك لأسأله باهتمام و جدية :
ــ أية حقيقة تقصدون يا صديقي العزيز ؟.
ــ حقيقة وجود أشياء بسيطة في حياتنا اليومية التي لا نشعر بها و نُسّر لها بحكم الروتين والعادية المألوفة .. مع ما لها من وظيفة أو أهمية كبيرة ومبعث راحة وارتياح وسرور على مدى حياتنا الطويلة .. طبعا .. فضلا عن أفراح ومباهج بسيطة و صغيرة أخرى لا نقدرها كثيرا أو قليلا إلا بعد فوات الأوان ….
استوقفتني كلماته المثيرة للتفكير والتأمل .. وإذا بي أقول له متفقا :
ــ حضرتك مصيب وعلى حق تماما .. فمن عادة أغلب البشر إنهم لا يقدرون أشياء أو بشرا إلا بعد فوات الأوان .. أي بعد الفقدان الأبدي أو الخسارة النهائية .. و التي ربما لا يمكن تعويضها بأي شكل من الأشكال !..
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here