الثوري الذي تحوّلَ إلى سكّير

جميل حسين الساعدي

كان الوقت ليلا حين توجّه الشاعر ملهم لزيارة صديقه سرور بصحبة الزائر الغريب. كانت السماء صافية تماما، وفــي أعماقها اللانهائية تألقت النجوم بكلّ وضوح مرسلة أشعتّها عبر المسافات الشاسعة للظلمة، لتعانق فـي نهاية المطاف قرية المجانين، التـي راحت مطمئنّة فـي أحضان الليل، تحرسها من الجهات الأربع جبال غاية في العلوّ. وراح الزائر الغريب يتأمل السماء، فأحسّ وكأنّ ينابيـعَ مـن الجلال والرهبة راحت تنبجس من داخله في تلك الساعة، وحانت منه التفاتة إلــى ملهم، الذي كان هو أيضا في حالة تأمل وقال: إنّ لليل هنا طعما خاصا. يـا لله! لم أشعر بصفاء كالذي أستشعره الآن. هذه اللحظات تريني نفسي وقـد ألقت عنها كلّ البراقع، التي نسجتها لها الحياة، فبدت عارية تماما مثـل هذه السماء لا يشوب صفوها شئ، وكذلك أشواقي التي حجبتها مشاغل الحيـاة اليوميّة، بدأت تتألق الآن تماما مثل هذه النجوم.

وأجاب ملهم بنبرة هادئة:

– نعم. انّ ليالي الصيف هنا جميلة وتبعث على التأمّل خصوصا حيــن يتربّع القمر في مكانه بين النجوم، وطافت الذكريات سريعة في ذهن الزائر الغريب، فتذكّر سنيّ حياته المبكّرة حين كان صبيّا عنيدا مندفعا مع رغباتـه لا يكترث لشئ، وكيف انّ تلك الحياة أخذت تتشكّل في السنوات اللاحقة في أطر جديدة أكثر هدوءا واستقراراعمّا كانت عليه في السابق. ولقد كان والده نفسه يعجب لهذه التغيّرات المفاجئة، وكم حاول أن يروّض حياتـه الجامحة، إلا انه لم يفلح في ذلك الى أن جاء أستاذه، فأثّر بعض الشئ في حياتـه، إلّا أنّ موت الأستاذ كان له التأثير الأكبر وكذلك الكتب التـي خلّفها تركت أثرا واضحا في تفكيره. وهكذا امتازت حياة الزائر الغريب فــي السنتين اللتين سبقتا رحيله بالتفكير الهادئ والتعطّش الى معرفة الحقيقة.

بينما كان الزائر الغريب غارقا في تأملاته، ارتفع صوت الشاعـر ملهـم بأغنية قروية قديمة، فقطع الزائر الغريب تأمّلاته وراح يصغــي مأ خوذا بسحر ذلك الصوت الصافي الشجيّ، الذي راح يتردد صداه في سكون الليل.

واصل الإثنان سيرهما: ملهم يغني، والزائر الغريب يصغي باهتمام الــى ذلك الصوت، الذي انبعث فجأة مـن أعمـاق الماضي البعيد، ليتردد فـي حنجرة صديقه الشاعر.

كان سرور قد انتهى من إعداد الطعام، وجلس أمام عتبة الدار فـي انتظار ضيفيه. في هذه الأثناء وصل الشاعر ملهم والزائـر الغريب. نهض سرور مرحّبا بالضيفين.

دخـل الثلاثة الدار واتخذوا أماكنهم حول المائدة فـي حجرة الضيـوف.

تناول سرور زقّ النبيذ وملأ قدحا وناولها إلى الزائر الغريب وهو يقول:

هذا النبيذ من صنع يدي، تذوّقه.

وابتسم الضيف وقال بهدوء:

– أعتذر جدا فأنا لا أشرب الكحول.

وقال الشاعر ملهم مداعبا:

– ضيفنا يستمتع بنوع آخر من الخمرة، ألا وهـي خمرة التأمل والتفكير، وهي بألتاكيد أعذب بكثير من خمور قرية المجانين.

وردّ عليه الزائر الغريب مؤكدا كلامه:

– نعم بالتاكيد. لقد فهمتني يا صديقي من أوّل وهلة، وأنا مسرور جدا لذلك.

وقال سرور وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة فيها شئ من السخرية:

– الخمارون أصناف شتّى، وكل يختار الخمرة، التي تناسب مذاقه ويسكـر علـى طريقته الخاصّة، فهنـاك خمـرة المجد، وخمرة الحـبّ، وخمرة الجنون… الخ

وضحك الشاعر ملهم وقال:

– أنت يا سرور أستاذنا في هذا المجال بلا منازع.

تناول سرور قدحين وملأهما لبنا وقدّمهما لضيفيه، أما هو فقـد ملأ قدحه نبيذا وقال وهو يرفعه الى فمه:

– في صحتكم جميعا.

أقبل الثلاثة على الطعام بشهيّة، وحين فرغوا من تناول العشاء قال ملهم مخاطبا الزائر الغريب،

– سرور يشرب الخمر، كما يشرب الماء أو اللبن.

والتقطـت أذنا سرور كلمات صديقه بسرعة فتنحنح قليلا ثمّ قال مخاطبا الزائر الغريب:

– لا عجب في ذلك. حكايتي مـع الخمرة تعود إلـى فترة معينة، لم أكـن أعرف قبلها للخمرة طعما. في تلك الفترة بدت صورة العالـم أمام عينــيّ مهشّمة تماما. تلك الصورة التي كنت أراها طيلة السنـوات الماضية جميلة، رغم عدم انسجام الألوان فيها. حاولت أن أجمع شظايا الصــورة وأركّبها لأعيدها من جديــد الى حالتها السابقة، إلا إنني لم افلح، فقد كانت الـصورة محطّمة تماما. لقد شعرت لأوّل مرة ان العالم اصبح قاسيا أكـثر ممّا يتحمله إنسان، وأحسست أنني اشبه بكوكب تائه في فضاء لا نهائي وشعرت بوحـدة قاتلة وتلفّت حولي، أبحث عن نقطة ارتكاز أقف عليها، فقـد كانـت الأرض تنزلق من تحت قدمي كالزئبق. كان ذلك بعد أن أنهيت اعتكافي في الجبـال.

ذلك الإعتكاف الذي استمرّ ثلاث سنوات نسيت فيها الناس والعالم تمـاما، ولم أعد أرى من حولي إلّا سديما، وكانت روحي تغيب في ذلك السديــم، مبحرةً الى الشواطئ البعيدة للحقيقة، وتملكني شــوق شديد، يشدّني أكثر فأكثر الـى الأعلى. وذات ليلة وبينما كنت أرقب النجوم وهـي تتلألأ علـى البعد، انبعث صوت في داخلي يدعوني ان أترك الجبل وانزل الـى الأسفل.

هناك فوق أمــّنا الأرض حملت السلاح وانضممت الـى قوافل الثـوّار، وناضلت بدمي ولحمي حتى أتت اللحظة، التي تحوّل فيها الثوريّ الى تاجر وأصبحت المبادئ بضائع للإستهلاك المحلي. وشاهدت بأمّ عينـيّ كيف أن المبادئ التي ضحّى من أجلها الكثيرون تباع في لحظة لقاء حفنة من المال.

وسحب سرور نفسا عميقا ثمّ أضاف:

– نعـم لقـد رأيت بأمّ عينيّ كيف أنّ المبادئ كانـت تحتضر بين فخذيّ عاهرة، وخرجت الى الوادي وصرخت بألم: لماذا يا الهي؟ فلم يجبني أحد سوى صدى صراخي، الذي راح يتردد بين جنبات الوادي. وفـي طريق عودتي من الوادي التقيت صديقا لي، كان من أخلص الناس للثورة. كان هذا الصديق يحمل دوما كتابا في يده، يحتوي على قصائـد وقطع نثريّة ثوريّة، وكان كلما يلتقيني يقرأ لي شيئا من الكتاب، فصرختُ في وجهه كفى.. أمـا تزال غبيّا الى هذا الحدّ؟ نظر إلـيّ صاحبي بنظرات جامـدة وكأنما بدأت الارض تتزلزل من تحته. وبعد لحظة من الصمت قال لي بصوت متهدّج:

– يا سرور اني أعرفك انسانا صادقا ذا مبادئ فما هـذا الذي أسمعه منك.

وضحكت ملء شدقيّ وقلت:

– يبدو انك ما تزال تحلم يا صديقي، وكأنّك لم تشهد ذبــح الثـــورة ومصادرة المبادئ. ما جدوى أن تقرأ لي الآن قصائد ثوريّة بعـد أن عوملنا نحن ـ الثوار ـ مـن قادة الثورة كأرقام لا أكثـر. يرتفـع ثمننا أو ينخفض حسب طبيعة الصفقة، وما جدوى أن تثير فيّ الحماس حين لا تكون هنـاك راية أنضوي تحتها؟

فقاطعني ذلك الصديق قائلا:

لكنّ هناك راية الثورة.

وصرخت في وجهه غاضبا:

– أيّة راية. ألم تسقط راية الثورة في الوحل.

أطرق صديقي قليلا متفكّرا ثمّ رفع رأسه ونظر اليّ بحزن ثمّ قال:

وداعا، وانصرف

تابعته بنظراتي وانا أحدّث نفسي:

يا له من حالم مسكين، وأشفقت عليه فـي داخلي. فقد كان صديقـي من الصنف الذي لا يستطيع أن ينفصل عن حلمه. لأنّ الإنفصال عـن الحـلم يعني بالنسبة لهذا الصنف من الناس الموت والنهاية. أمّا أنـا فقـد اهتزت قناعاتي بكلّ شئ، وشعرت بفراغ كبير وبدا العالم أمام عينيّ مظلما ولا أمل في الخلاص. عندها هجرت الناس ولزمت البيت. ومنذ ذلك الوقـت لم أجد صديقا حقيقيا غير الكاس. وتلفتّ حولي أبحث عن شئ ما أمسك به لأنتشـل نفسي من الهاوية التي تنتظرني، فلم أجد إلّا فراغا لا نهائيا وعالما مسطّحـا لا وجه له ولا ملامح مثل حيوان الأميبا.

وتوقف سرور عن الكلام وخيّم الصمت على الجميع لكن سرعان ما كسر الصمت، فقال وهو يتأفف:

– غريب هذا العالم، الذي لا تستطيع أن تواجهه بوجه مكشوف، حيث لا بدّ أن تظهر بقناع وأن تخلعه عند الضرورة لتظهر بقناع آخر.

وحدّق سرور في كأسه فوجده فارغا، ملأه من النبيذ من جديد وهو يقول:

– هذه الكأس تشيع السرور في النفس وتنسّي الهموم وتبعث الجرأة فـي القلب في لحظات الخوف والإرتباك، إلّا أنها.. عليها اللعنة تقتل الزمــن، فتغدو الساعات في حسابها كالثواني، وأطرق قليلا مفكّرا ثمّ رفع رأسه ليقول:

– نعم.. ان الحياة قصيرة ورغم قصرها فاننا نضيق بها ذرعا أحيانــا، ونحاول الهروب منها، وكلّ يهرب على طريقته الخاصة.

توقّف سرور عن الحديث وسادت لحظات من الصمت. فجأة نهض الشاعر ملهم ومدّ يده الى سرور مصافحا وقال:

– طاب مساؤك يـا سرور. علينا أن نذهب الآن لأننا متعبـون. لقــد قضينا نهارا كاملا نطوف بالقرية وما جاورها سيرا على الأقدام.

نهض سرور وهـو يتمايل يمنة ويسرة من جرّاء تاثير السكـر، ورافـق ضيفيه حتى الباب الخارجي للمنزل وقال وهو يشدّ بقوّة على يـد الزائــر الغريـب:

دعنا نرك ثانية.. أرجو أن تطيب لك الإقامة في القرية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here