الجبهة الديمقراطية .. والخيارات الوطنية المطلوبة

فتحي كليب / عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

في الكثير من تجاربنا الوطنية التحررية، حقق الشعب الفلسطيني بمقاومته المسلحة وبصموده في ميادين النضال المختلفة الكثير من الانجازات والانتصارات، غير ان هذه الانجازات سرعان ما كانت تخف مفاعيلها السياسية، نتيجة عدم القدرة على استثمارها لصالح الكل الوطني، بسبب اما الانشغال في معارك فئوية تحرف بوصلة النضال الاساسي او لأننا لم نحسن ادارة الصراع واستثمار الانجاز، فتضيع انتصاراتنا هباء وتتقدم الخلافات والتباينات الداخلية على الصراع الاساسي مع الاحتلال..

يحدث هذا الامر امام كل مفصل سياسي ووطني فلسطيني، فتنقسم القوى السياسية بين مؤيد ومعارض، ويقع الشعب الفلسطيني اسيرا لخيارات يختلط فيها المبدأي مع الانتهازي، والوطني مع المصالح الفئوية والشخصية، وبين هذا وذاك منظومات ومنصات اعلامية تسعى كل واحدة منها الى كسب ود الرأي العام، حتى ولو كانت مواقف مبنية على اكاذيب وافتراءات هدفها تأكيد موقف هذا الفصيل او ذاك.. وهذا ما ينطبق على الموقف من جلسة المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تحولت الى بازار يتبارى فيها كل فصيل في المزايدة على غيره باعتباره الأنقى..

المشكلة هنا ليست في الموقف بحد ذاته، فهذا حق لكل فصيل وعلى الجميع احترامه انطلاقا من مبدأ الصيغة التعددية التي ناضلنا من اجل تكريسها في العمل الوطني الفلسطيني وندعو الى احترامها دائما، بل في فهمنا لمنظمة التحرير والنظرة اليها وكيفية التعامل مع مؤسساتها.. فهذه المنظمة هي اطار جبهوي ائتلافي بين مجموعة مكونات فصائلية ومستقلين، وليست تحالفا سياسيا، الا في اطار برنامجها التي توافقت عليه مكوناتها، لكن يبقى لكل مكون موقفه السياسي واطاره التنظيمي وحياته السياسية الخاصة، وبالتالي هي ليست حزبا واحدا، وليس مطلوبا ان تنصهر في قالب وبموقف واحد..

كما ان عضوية الفصائل في منظمة التحرير الفلسطينية هي ليست مستمدة من رضى هذا الحاكم او ذاك، بل ان ما يجمع بين الفصائل داخل هذا الاطار الجبهوي، هو ما توافقت عليه واعتبرته الحد الادنى من برنامج القواسم المشتركة والتقاطعات، وحين يخرج احد المكونات عن هذه الصيغة، فهذا المكون هو من يجب ان يراجع سياسته ويعيد النظر ببرنامجه بما ينسجم مع منطق التوافق والشراكة وليس العكس.. وهذا ما يفسر حقيقة الصراع والوحدة حتى داخل سقف المنظمة..

لا يمكن التعاطي مع جميع دورات المجالس الوطنية والمركزية ووضعها في خانة واحدة، فلكل دورة ظروفها واشخاصها ومكوناتها واسبابها السياسية والتنظيمية.. وبالنسبة الى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، فنظرتها الى المؤسسة يحكمها اكثر من عامل: اولها ان موازين القوى داخل هذه المؤسسة هي حكما مختلة، حتى في وجود جميع فصائل المنظمة.. ثانيا مدى اقتراب مخرجات اي جلسة من برنامج الجبهة السياسي والمعلن لكل الشعب، والذي تتصدر الوحدة الوطنية والتقاطعات المشتركة عنوانه. وبالتالي فان القرارات الصادرة عن الهيئات الوطنية الجامعة، مثل قرارات المجلسين التي اصبحت بجهد من الجبهة الديمقراطية وغيرها من فصائل مطلبا جماهيريا وفصائليا فلسطينيا حتى من قبل الذين لم يشاركوا في صياغة هذه القرارات. وبالتالي فهذه القرارات، التي صدرت عن دورات “مجلسية” رفضت من قوى تحمل نفس الموقف اليوم، اصبحت اسلحة بيد كل الشعب وقواه

الساعية الى الوصول لموقف وطني موحد ودفع مركز القرار الرسمي الفلسطيني على الالتزام به. وعلى هذه القاعدة ومن اجل تطبيق تلك القرارات، تناضل الجبهة من اجل تحشيد القوى، وابرام تحالفات وطنية، حتى لو كانت موازين القوى تميل لصالح مركز القرار الرسمي في منظمة التحرير الذي سيسعى لفرض تصوراته الخاصة تجاوزاً لقرارات الإجماع الوطني مستقويا بذلك بالانقسامات والخلافات في اطار صفوف “المعارضات الفلسطينية”.

ان هذا الكلام لا يعني ان مشاركة الجبهة الديمقراطية في جلسات المؤسسة الوطنية هو امر حتمي، فالتاريخ يقول بعكس ذلك. إذ خلال الفترة من توقيع اتفاق اوسلو وحتى اليوم عقد المجلس الوطني الفلسطيني ثلاث دورات، قاطعت الجبهة الدورة (21) عام 1996، كما عقد المجلس المركزي (19) جلسة منذ العام 1993 ايضا قاطعت الجبهة الدورة 29 لعام 2018.. والعبرة هنا ليست، كما يحاول البعض ان يصور بأن الجلسة الحالية ستعمق الانقسام وتزيد الهيمنة، بل ان السؤال المكمل هو: هل ان عدم المشاركة سينهي الانقسام وينهي التفرد والهيمنة؟ ولعل الهدف من التساؤل الاول هو وضع ايحاءات امام الرأي العام الفلسطيني بأن المجلسين المركزي والوطني هما المسؤولان عن الانقسام.

توصيف الواقع لا يكفي، ونقد السلطة وخياراتها من بعيد ايضا لا يكفي، وبامكاننا استحضار عشرات النماذج لنؤكد ان خيار السلطة الفلسطينية في العلاقة مع الاحتلال قد فشل. لكن لم يجب احد ما هي الوسائل التي على الشعب ومكوناته المختلفة ان يلجأ اليها من اجل دفع السلطة الى تغيير مسارها السياسي الذي لا يناقش احد في نتائجه الكارثية بدليل ان القاسم المشترك بين قرارات الهيئات الوطنية هو اعترافها بعقم هذا الخيار ودعوتها في اكثر من مناسبة الى تغييره..

هنا تبرز وظيفة ودور الحركات الثورية في اجتراح مبادرات سياسية، وضمن الاطار الوطني، لتضع النضال الفلسطيني في مساره السليم بعيدا عن الافكار الطوباوية والديماغوجية التي تغش الحالة الشعبية وتجلعها تعيش في اوهام ما تلبث ان تكتشف الحقيقة لتقع في حالات يأس واحباط تؤثر على كل مجرى النضال الفلسطيني.. وحين تكون موازين القوى الداخلية مختلة، فان النضال الوطني يجب ان يتركز على تعديل هذه الموازين لتسهيل طرح حلول اكثر واقعية.. غير ان هذه الموازين لا يجب ان تقف عائقا امام حركة التفكير الثوري السليم، والتاريخ يحفل بنماذج تؤكد هذا الاستنتاج، وفي واقعنا الفلسطيني ايضا يمكن استحضار بعض النماذج:

– في بداية السبعينات، ورغم التحسن الذي طرأ على موازين القوى العربية الاسرائيلية بعد حرب تشرين، لكن هذه الموازين بقيت مختلة لصالح العدو، غير ان هذا لم يمنع الجبهة الديمقراطية من طرح برنامجها الذي تحول فيما بعد الى برنامج منظمة التحرير وبرنامج كل الشعب بجميع فصائله، ولو فكرت الجبهة الديمقراطية بموازين القوى، لما خرج البرنامج الوطني الذي على يديه حققت حركة التحرر الوطني الفلسطيني اهم انجازاتها السياسية على الاطلاق، لكن تطبيق هذا البرنامج والزام القيادة الرسمية للمنظمة باحترامه هي مسؤولية جميع القوى وليس فقط مسؤولية الجبهة الديمقراطية. ولا يغير من هذه الحقيقة ان بعض الفصائل اليسارية التي صوتت الى جانب هذا البرنامج، تتبرأ منه اليوم في محاولة انتهازية عنوانها “نقد التاريخ وكسب الحاضر” بكل امتيازاته..

– ليس صحيحا بل ليس ثوريا الكلام ان القيادة الرسمية للسلطة ومنظمة التحرير لن تنفذ اي شي من قرارات المجالس الوطنية والمركزية، لذلك وجب مقاطعة هذه المؤسسات. وهنا ايضا لو فكر الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية بهذه الطريقة لما توافق على البرنامج الوطني المرحلي، ولما اندلعت الانتفاضة في عامي 1987 و 2000، لأن كل الظروف الاقليمية والدولية لم تكن تسمح لنا بتحقيق اختراقات ذات شأن، لكن رغم ذلك قارع

شعبنا الاحتلال ونقل القضية الفلسطينية الى مكان متقدم لولا الغدر الذي تعرضت له انتفاضة الحجارة على يد اتفاق اوسلو..

– مثل هذا الكلام ينطبق ايضا على عشرات القرارات الدولية الصادرة عن الامم المتحدة منذ العام 1948 والتي لم ينفذ منها اي قرار، لكن رغم ذلك لم يخرج احد من الشعب الفلسطيني ليطالب بالانسحاب من الامم المتحدة، بل ان انضمام فلسطين الى الامم المتحدة، كمراقب اولا وكعضو ثانيا، يعد من اهم الانجازات السياسية التي حدثت خلال العقود الاربعة الماضية، بمعزل عن رأي البعض بالامم المتحدة التي تدير قضايا العالم بازدواجية واضحة تحددها ايضا نسبة القوى داخل منظماتها المختلفة..

– ان واقع التغيير في منظمة التحرير لا يخرج عن اطار ما سبق، لجهة موازين القوى التي لا تميل لصالح القوى التغييرية، لكن هذا لا يعني للحظة الخروج من المنظمة مثلا، حتى ان مقاطعة فصائل معينة لبعض الجلسات فهو موقف آني وظرفي لم يصل الى الدعوة للانسحاب من المنظمة، بدليل انه حين اعلن عن انتخاب الجبهة الديمقراطية لبعض المواقع في اطار منظمة التحرير، اقامت بعض الفصائل مندبة اعلامية، على قاعدة ما تعتقده بأن بعض المواقع في المنظمة هي ملكية حصرية لها ومطوبة باسمها ولا يجوز لاحد الاقتراب منها.

ان قوى اليسار، وفي مقدمتها الجبهة الديمقراطية، هي اول من رفعت لواء اصلاح مؤسسات منظمة التحرير، وبرامجها السياسية والتنظيمية وعشرات الخطط الاصلاحية المقدمة لمؤسسات المنظمة تؤكد ذلك. لكن هذا لم يكن سببا لحرف بوصلة نضالها ولتتبنى شعارات ضرب منظمة التحرير ومكانتها التمثيلية، بذريعة اسباب هي موجودة منذ نشاة المنظمة، وبالتالي فهم جميعا لا يختلفون عن بعضهم بشيء حتى وان تغيرت المصطلحات والتعابير، لكن يبقى الهدف العام هو المنظمة بذريعة انها لم تعد تمثل الشعب الفلسطيني..

وليس سرا كما ليس عيبا او منّة من احد، ان تسعى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين للحصول على حقوقها التنظيمية والمالية، خاصة وانها فصيل فلسطيني، وطني ووحدوي، يشهد له الجميع بنظافة كفه وبسمعته الوطنية وبسياسته الوحدوية الخالصة وبرامجه ومبادراته المولودة في اطار هيئاته الحزبية الداخلية، وهذا امر تقر به جميع الفصائل بأن الجبهة الديمقراطية هي واحدة من اكثر الفصائل انتاجا سياسيا وفكريا والاكثر قدرة على اجتراح الحلول للازمات الوطنية. اما الذين لا يمتلكون لا منطقا ولا فكرا او سياسة، فالطبيعي ان يكون الردح والانتهازية هو السمة الطاغية على مواقفهم..

وفي المقارنة البسيطة بين من يسعى للحصول على حقوق سياسية وتنظيمية تؤكدها وتقرها الانظمة الداخلية للمؤسسات الوطنية الفلسطينية والاعراف التي سارت عليها الفصائل منذ نشأة منظمة التحرير، فنحن نفخر اننا لم نذهب الى ما وراء المحيطات كي نبيع سياسات ومواقف خدمة لهذه الدولة او تلك. ولو كان صحيحا ان الاعتبارات التنظيمية هي التي املت المشاركة في جلسة المجلس المركزي لكانت الجبهة قاطعت جميع المؤسسات انطلاقا من عرض اللوحة التالية التي يبدو اننا بحاجة لاعادة تظهيرها كي يقرأ من لا يريد ان يقرأ الا بعين الهزيمة والتشكيك، وكي يسمع من صمت آذانه عن السمع:

ان الجبهة الديمقراطية كانت تسلمت في دورات سابقة “دائرة شؤون المغتربين” في اطار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، لكن هذه الدائرة حولت الى وزارة الخارجية في اطار الضغط على الجبهة لتغيير مواقفها السياسية والتي ترافقت مع قطع مستحقاتها المالية، وهي اليوم وحدها بلا دائرة داخل اللجنة على عكس (14) عضوا يقفون على راس دوائر. كما ان الجبهة الديمقراطية هي الوحيدة بين جميع الفصائل التي لا تقود لجان داخل المجلس الوطني

الفلسطيني، لكن رغم ذلك لم نقاطع جلسات سابقة للمجلسين الوطني او المركزي لهذا السبب وحده، لكن يبدو ان هذه الحقيقية ما تزال غير مرأية من اولئك الذي يتهمون الجبهة بأن مشاركتها في جلسة المجلس المركزي كانت مقابل حصولها على امتيازات سياسية ومالية..

نحن بحاجة لقراءة جديدة لواقعنا الفلسطيني تنطلق من تقييم الجميع لسياساته وتكتيكاته وتحالفاته، من القيادة الرسمية لمنظمة التحرير والسلطة الى جميع الفصائل داخل وخارج منظمة التحرير، وليس سرا القول بفشل “المعارضات الفلسطينية” في اجبار القيادة الرسمية لمنظمة التحرير على تغيير مسارها الاوسلوي ودفعها للالتزام بقرارات الاجماع الوطني المعبر عنها في حدها الادني بقرارات المجلسين الوطني والمركزي وبمخرجات لقاء الامناء العامين، وفشلت هذه المعارضات ايضا في تقديم سياسة توحيدية تقدم بديلا سياسيا يمكن للقوى الفصائلية والشعبية ان تتوحد حوله..

وفي التوصيف العام، يبدو ان الجميع متفقا على ان الحركة الوطنية الفلسطينية بجميع مكوناتها تعيش ازمة فعلية: ازمة برامج سياسية، ازمة علاقات داخلية وتحالفات وطنية، ازمة في العلاقة مع الشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، ازمة في كيفية مواجهة المشروع الامريكي الاسرائيلي وازمة على مستوى كل مكون.. فمن هو في السلطة غير قادر او لا يرغب بالانفتاح على من هو خارج السلطة، ومن يعيش خارج المؤسسات يعيش اسير شعارات قد تكون صحيحة في بعض الاوقات، لكنها تحتاج لأن تنزل على أرض الحقيقة لتتعاطى مع الواقع كما هو، وليس كما يرسم في الخيال الجميل..

ان مواجهة سياسة القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية يبقى امرا نضاليا مفتوحا، وان الجبهة الديمقراطية، التي اصدرت مؤخرا مبادرة سياسية كانت وباعتراف العديد من الفصائل انها من انضج المبادرات السياسية التي قدمت فلسطينيا، ستبقى منفتحة على نقاش جميع الخيارات النضالية التي يمكها ان تضع حدا لخيار اسلو البائس، وعلى ارضية رؤية جدية تجمع ولا تفرق، توحد ولا تقسم، وتحمل هموم الحالة الجماهيرية داخل وخارج فلسطين ضمن استراتيجية وطنية نناضل من اجلها منذ عقود، بعيدا عن سياسات الاستخدام الانتهازي والانحياز الاعمى لهذا المحور الاقليمي او ذاك.. رؤية ينخرط في اطارها كل مكونات حركة التحرر الوطني، وعلى قاعدة الاعتراف قولا وممارسة بأن التناقض الرئيسي هو ضد الاحتلال والاستيطان، اما التباينات الداخلية فحسمها يجب ان يكون باللجوء الى الشعب عبر انتخابات شاملة لمؤسسات السلطة ومنظمة التحرير.. واي صراع على السلطة من خلفية الوهم اننا تجاوزنا مرحلة التحرر الوطني فلن يقود سوى الى الهيمنة والى فساد الأجهزة والمؤسسات، وايضا إلى الانقسامات التي لا زالت تتوالى فصولاً سياسية ودامية.

شباط 2022

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here