الاستبداد السياسي في العالم العربي

الاستبداد السياسي في العالم العربي
د.ماجد احمد الزاملي
يمكننا القول بأن فكرة الاستبداد ارتبطت في تطورها بتطور الاوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي شهدها المجتمع الانساني. وشَكَّل الحكم الفردي والحزب الواحد المستأثر بكامل السلطات وثروات البلاد القاسم المشترك بين ألأنظمة الجمهورية في الوطن العربي حتى أصبحت أكثر شمولية من الأنظمة الملكية المطلقة التي تستند في حكمها على انتقال السلطة من الأب الى الابن وسط غياب كل أشكال الحكم الديمقراطي المتعارف عليه. وقد ساهمت الأنظمة العربية في تبديد الكثير من ثروات الأمة العربية وأنفقت أموالاً طائلة في شراء وتكديس اسلحة لن تستعمل إلا لقهر شعوبها، كما ساهم الاستبداد في الوطن العربي في تجذِّر التجزئة والفرقة بين الشعوب العربية وأفرغت مفهوم الوحدة القومية من مضمونه، وجعلت من الوحدة العربية مستحيل تنفيذه، وقد نجحت الأنظمة الاستبدادية السياسية في منطقتنا في تحويل مجتمعاتنا إلى مجتمعات متخلفة سياسياً وفقيرة اجتماعياً واقتصادياً. جميع الأنظمة الحاكمة تقريباً في الشرق الأوسط في العصر الحديث صُنِّفت على أنها أنظمة استبدادية بشكل عام. ومع ذلك، فقد كان لمعظمهم أحزاب سياسية وانتخابات منتظمة وشكل من أشكال الحرية الليبرالية منذ الثمانينات. والدولة هي المؤسسة التي تنازل افراد المجتمع لها عن بعض حقوقهم مقابل الامن وتسيير امورهم وقيادة المجتمع على طريق التطور الاجتماعي الإنساني الصحيح، وإن لم تقم الدولة بهذا الدور، فهي بذلك تصبح فاقدة لمبرر وجودها، ويصبح وجودها باطلا . وهنا يصبح من الضروري طرح السؤال عن كيفية الوصول إلى “حكم صالح”؛ فالحكم الصالح هو الغاية الأساسية المنشودة في حكم المجتمعات وتأسيس الدول. لذلك، وقبل أن يدرك الحكام أنَّ بإمكانهم أن يستمدوا مشروعية سلطتهم من المحكومين أنفسهم ومن إرادتهم الحرة، كان “المقدس” هو مصدر الشرعية الأهم والأوضح الذي لجأ إليه الحاكم وحاول أن يسبغ شيئاً من “قدسيته” على الحكم الزمني، فنشأ ما بات يعرف اليوم بالأنظمة “الثيوقراطية”. ومثلما تعني “الديمقراطية” مثلاً “حكم الشعب” في الأصل اليوناني، تتكون كلمة ثيوقراطية من “ثيو” وتعني إله، و”قراط” وتعني الحكم،أي “حكم الإله”. “الاستبداد والتسلط بمختلف ألوانه وأشكاله ,يسير عكس حركة التاريخ والحضارة والحياة الإنسانية الطبيعية.. لأنه يقف على طرف نقيض من حرية الإنسان ومن قدرته على تحقيق الاختيار السليم، بل إنه يشل طاقة التفكير واستخدام العقل والفطرة الصافية عند الإنسان، ويرهن سعيه للمجهول، ويجعله أسيرا بيد الجهل والتخلف.. وهنا تقع الكارثة الكبرى عندما يفقد هذا الإنسان حريته لأنه يفقد معها كل شيء جميل في الحياة، إنه يفقد العزة والكرامة والأخلاق والعلم، وبالتالي يكون مصيره الموت المحتم أو العيش على هامش الحياة والوجود”(1).
التاريخ كما يقول الفيلسوف الألماني كارل ماركس يعيد نفسة في المرة الاولي يظهر كماساة وفي المرة الثانية يظهر كمهزلة لذلك تجد ثقافة الشعوب في عصور الاستبداد تظهر بشكل بائس والاستبداد يتحول الي بنية ثقافية في عصر الرئيس الملهم الي الأحزاب وقادتها الي الاعلام الديماغوجي التعبوي في الكذب والخداع وفي التطبيل والتزمير للقائد الملهم ، القائد الفذ ، القائد الضرورة حيث يختلقون له صفات وخصال ليس فيه والتغني بانجازاتة الوهمية ، وللأسف الأحزاب والقوى الوطنية المنوط بها ان تكون بديل نوعي للحاكم تتحول الي صورة نمطية من حاكمها وتكون في علاقتها مع أعضائها نسخة من الحاكم المستبد ولاتقبل بالراي والراي الاخر ولاتتحمل مجرد الانتقاد لهذا القائد او ذاك خاصة اذا كان سلوكه منحرف مهما كانت مرتبتة التنظيمية وحتي في داخل الاسرة علاقة الاب بابنائة ، علاقة عبودية وقمع للكلمة الحرة وغياب للحس النقدي في كل مناحي الحياة.
الاستبداد منذ أن بدأ وهو يلتمس التبرير الديني الشرعي، ولهذا وُجدت في آراء أتباع المذاهب الفقهية ما يبرره, والاستبداد السياسي هو الانفراد بالسلطة.إن المساهمة في إدارة الحكم من خلال تسيير الشؤون العامة حق مشترك بين جميع المواطنين، ولا بد أن يقوم وفق أسس من المساواة والعدالة، فلا يجوز الاستبداد به واحتكاره من قبل البعض دون البقية، وعليه فإن الاستبداد السياسي ظاهرة مَرَضَيّة تُصاب بها نظم الحكم، ولم تسلم العديد من النظم السياسية من هذه الظاهرة السلبية التي أصيبت بها ، لكن تبقى ميزة الظاهرة الاستبدادية المعاصرة في استدامتها وصعوبة تفكيكها، إضافة الى ممانعة قيام نسق صالح للحكم ممكّن من التعبير السليم والسلمي عن حقوق واحتياجات جميع أفراد المجتمع ،وممكّن من تحقيق التنمية الإنسانية الشاملة، فهذا الأخير لن يقوم إلا بتفكيك نظم الاستبداد وتبديلها بأخرى منفتحة. لم يظهر مفهوم الاستبداد بشكل مباشر في التجارب الغربية ويعد مفهوم الطغيان من أقدم المفاهيم التي ارتبطت بمفهوم الاستبداد حيث استخدم للاشارة الى انظمة الحكم التي تسرف في استخدام القوة في ادارة السلطة ، والسيطرة السياسية التامة بواسطة حاكم فرد وقد استخدمه ارسطو ليدل به على الوجه الفاسد للحكم الملكي ” فالطغيان ملوكية لا موضوع لها الا المنفعة الشخصية”. إنَّ دعم القوى الاستعمارية الأجنبية، والتي من مصلحتها بقاء الأمة تحت سلطة الأنظمة الاستبدادية، وهذا الدعم لا يزوغ عنه الفكر، فإن الولايات المتحدة عندما دخلت المنطقة كوريث للاستعمار الانجليزي والفرنسي بدأ دخولها بعد الحرب العالمية الثانية من خلال الانقلابات العسكرية المستبدة في الخمسينيات والستينيات، ثم استمرت في دعم الأنظمة الاستبدادية والوقوف الى جانبها ليومنا هذا . “الاستبداد ظاهرة قديمة ومستمرة في التاريخ وله أشكال وأنواع عديدة، ويمكن تعريفه –بصورة عامة- بأنه الانفراد بالأمر والترفع عن طلب المشورة أو عن قبول النصيحة، حيث ينبغي الطلب أو القبول. فإذا كان الأمر متعلقاً بمصلحة الفرد نفسه فإن الاستبداد يأتي على الأغلب تعبيراً عن غرور المرء بنفسه، أو عن عدم قدرته على الانفتاح والتبادل أو عن إرادته كتم حقيقة عن غيره، وإذا كان الأمر متعلقاً بتدبير مصلحة جماعية معينة فإن الاستبداد يعني التصرف المطلق في شؤون تلك الجماعة بمقتضى المشيئة الخاصة والهوى وفي هذه الحالة لا يبعد معنى الاستبداد عن معاني التعسف والتحكم والاستعباد والسيطرة التامة”. أما الموسوعة السياسية فتربطه بظاهرة الحكم وتعرفه على أنه “كحكم أو كنظام يستقل بالسلطة فيه فرد أو مجموعة أفراد دون خضوع لقانون أو قاعدة ودون النظر لرأي المحكومين”. يسيطر المستبد على السلطة بالقوة أو التحايل، ويسعى بعد استلامه السلطة التخلص من كل الذين ساعدوه بالوصول إلى السلطة، ويحاول افتعال الازمات والحروب للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، ويعمل المستبد على تكوين مملكة من التابعين له وينفذون قراراته، ويجبر الأخرين على السمع والطاعة، فليس هناك رأي معارض، ومن يعترض يكون مصيره النفي أو السجن نتيجة تهم وهمية، ويحاول المستبد أن يجعل من فريقه الحكومي، مجموعة من اللصوص والجهلاء، لكي تسهل عليه مهمة السيطرة عليهم، فيملي عليهم ما يريد وأن خالفوه فيكون مصيرهم القتل أو السجن(صدام نموذج صارخ للمستبد الطاغية )، ونتيجة لهذا الظلم الذي يمارسه المستبد ظهر مصطلح اغتيال الطاغية، وقد نادت به بعض النظريات السياسية الإغريقية والرومانية كرد فعل على سوأ استعمال الطغاة والمستبدون لسلطتهم، أما في العالم العربي فقد انقسم العلماء فيما بينهم إلى فريقين، فريق يرى وجوب الصبر والنصح والتقويم للخليفة الظالم، والثاني يرى وجوب الخروج عليه بالقوة واستبداله. ومؤكّد بشكل لا لبس فيه أن مزاعم المستبدّين في أنهم يحكمون باسم الدين باطلة، لأن الإسلام، كدين وشريعة، جاء في الأصل ليهدم دولة الظلم والاستبداد، ويحرّر الشعوب من العبودية لغير الله، وهو في هذا المقام يفصل الشريعة عن مفهوم الاستبداد السياسي الذي صبغ تجربة الحكم بدولة الخلافة في مرحلة ما بعد فترة الخلافة الراشدة، وأن أي توظيفٍ من الحاكم المستبد للأداة الدينية في محاولته لتبرير أو تكريس استبداده أو تغلّبه، أو تسييس النصوص في فهم قاصر لمفهوم طاعة ولي الأمر ونصوص الإمارة والطاعة والصبر في القرآن والسنة، ومحاولة التأصيل لفكر طاعة المتغلّب، وتوظيف الإجماع فيما يخصّ شرعيته واستثمار ذلك كله في بقاء المستبد الجائر، لهو أمرٌ من الواجب في ما يتعلق بتفكيك الاستبداد في تلك الذاكرة التراثية، بما يعني ضرورة مناقشة تفكيك بعض تلك المصطلحات الشرعية، وإعادة تركيبها من مثل أفكار كـ “البيعة”، و”أهل الحل والعقد” و”الشورى” و”الفتنة” و”الخروج”.
إنَّ إشكالية الفساد وما يترتب عنها من سوء إدارة الثروة وما يتبعه من الفقر وانتشار الجهل بنسب مسببة للعجز في بنية العقل العربي، فجدلية العلاقة بين الفقر والجهل مثبتة إذ عادةً ما ترتبط بالتهميش والضعف ومنه العزوف عن المشاركة السياسية؛استشراء ظاهرة العنف السياسي بمختلف مظاهرها، إذ تراكمت الظواهر السلبية ونتائجها في ظل النظم العربية التي تتحمل مسؤولية إيصال شعوبها إلى هذه المستويات من الانحطاط والتي لم تنجح في تحقيق التقدم خلال عقود طويلة بما يدفع للتفكير أنه ينعدم أي أمل في تحقيق الإصلاح في إطارها وبوجودها، لم يعد هناك بديل من الاعتراف بأن أي إصلاح مهما كان ضعيفاً وجزئياً أصبح يستدعي كشرط ومقدمة له تغييراً في طبيعة الحكم وأساليبه وقواعده وغاياته ورجالاته أيضاً، أي يستدعي التحول من نمط الحكم القائم على الوصاية أو القيادة الطليعية أو الأبوية إلى نمط جديد من الحكم يستند إلى تفويض مباشر وعن طريق انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية من قبل الشعب والخاضع لمراقبة ممثليه ونوابه، غير أن الدولة العربية التسلطية منعت كل فرص التحول الديمقراطي السلمي ما دفعت تحت طائلة الضغط إلى اللجوء لقنوات أخرى للتعبير أخطرها العنف والعنف المضاد. والاستبداد السياسي هو السبب الأول للفساد في بلداننا. فالدول التي سقطت في حرب أهلية كانت قائمة على نظم هشة سمحت بالانهيار السريع. والحروب عموما تجلب التدخلات سواء الإقليمية أو الدولية. ولا يوجد نظام في العالم لا يستفيد من وجود نظام فاسد آخر بجانبه. وهذا ما رأيناه بسقوطهم فيما سُمِيَ بالربيع العربي. حتى جهود إعادة الإعمار بها فساد بسبب تداخل الاستثمارات في القرار السياسي، وغياب القرار الداخلي والقيادات الحقيقية الساعية لإنهاء الصراع. وتؤثر بعض القضايا والمشاكل المشتركة على أداء الدول العربية بشكل عام، فمثلا تعد الوساطة والرشوة والتمييز بأشكاله المختلفة أحد أبرز المشاكل التي تؤسس لعدم العدالة في القطاع العام، سواء في فرص العمل أو الخدمات. ويضطر واحد من بين كل خمسة مواطنين في الدول العربية لدفع رشى مقابل تلقي خدمات أساسية كالصحة والتعليم.
والغرب يرى أنَّ الاستبداد قدر منطقتنا ومصيرها المحتوم، حتى أنَّ بعض الفلاسفة والمفكرين الكبار أطلقوا مصطلح “الاستبداد الشرقي” الذي يسطّح قضية عميقة كالاستبداد، ويختزلها بأن منطقة بأكملها محكومة بأن تعيش تحت نير التسلط والقمع والكبت إلى ما لا نهاية. فأرسطو يرى أن الاستبداد “كامن في الشرق لأن شعوبه تميل بطبيعتها إلى الاستبداد”، وهيغل ايضاً يرى أن الحكم الاستبدادي هو “نظام الحكم الطبيعي للشرق”، والأمثلة الأخرى من هذا القبيل عديدة، ويتبناها للأسف كثيرون في الغرب اليوم، ومع ذلك لا يتوانى حكامهم عن دعم أنظمة استبدادية عربية، الأمر الذي يزيد من مشكلة الإنسان العربي ويضاعف معاناته.
وقد ساعد احتكار الأنظمة لوسائل الإعلام المسموعة والمرئية في غسل أدمغة الشباب العربي وذلك بسبب الانتشار الواسع للتلفزيون وتنويع برامجه التي كانت كلها تركز على إبراز النزعات الفردية وبالتالي إضعاف الروابط الاجتماعية. وكانت معظم البرامج تركز على تشجيع النشاطات الرياضية والفنية. وقد نجحت وسائل الإعلام هذه في إبعاد المواطن العربي عن التفكير، ناهيك عن المشاركة في الأحداث القومية الجسام التي بدأت تفعل فعلها في الواقع العربي.
——————————————————–
1-صالح، نبيل علي: الوحدة الإسلامية، السنة الثانية–العدد 18، ص2

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here