على القبر في يوم الشهيد الشيوعي 

بمناسبة يوم الشهيد الشيوعي يوم 14 شباط من كل عام، أنشر أدناه مرثيتين لوالدي علي محمد الشبيبي شقيق الشهيد حسين محمد الشبيبي (صارم). المرثية الأولى كانت بمناسبة  أول زيارة له لقبر أخيه الشهيد صارم وكانت بعنوان “على القبر”. ولا أريد أن أعلق على ما تفيض به المرثية من مشاعر ألم وغضب على هذا المصاب العظيم، وإنما أترك ذلك للقارئ الكريم، وكتب والدي مرفقا معها هذا التوضيح: 

[السبت 12/08/1950 مرّ أكثر من عام على إعدام أخي، ولم أصل إلى قبره، كلما فكرت في زيارته عرتني رعدة، وأدركني جبن غريب، وتمثلت لعيني أشباح مرعبة، وتراءى هو لعيني وفي عنقه أثر حبل “المشنقة” وعيناه تنظران شزراً إلى ذلك الجبان الذي أصدر الحكم الباطل. ونظرة عتاب إليّ أنا الذي لم أودعه بنظرة قبل أن يفارق الحياة غصباً. كنت أخشى أن الفظ أنفاسي مع زفرة إن أنا دنوت إلى قبره. 

وفي الساعة السادسة عصر يوم السبت 12 آب  زرت القبر لأول مرة، دون أن يهديني أحداً إليه، إلّا إشارة – قبل أيام- من أبني الصغير “كفاح” إلى الجهة التي فيها القبر. وما أن لاحت لي الصخرة التي على واجهة القبر، حتى غلبتني العبرة، وسبقتها الدموع، وعلا نحيبي ونشيجي في سكون الوادي وقد خلا من كل صوت، عدا الريح وهي تصطدم بالقبور المتزاحمة ورحت أنظم واسطر ما أكتب هناك مع عبرة تقطع علي سلسلة النظم، ودموع تنهمر.] 

على القبر 

 

وحقِكَ لن أنساكَ لن أعرفَ السلوى 

 

لكنني شخص صبور على البلوى 

أبثّكَ فاسمعني أحاديث لوعتي 

 

فها أنني قد جئت أسمعكَ الشكوى 

ألحّ عـليَّ الدهرُ حتى كأنني 

 

غدوتُ له من بين أوكارهِ مأوى 

وقد كنت لي صبراً وقد كنت لي حِجاً 

 

فلم أختشِ الدهيا ولم أرهب اللأوى 

وفارقتني يا ضوءَ عيني ويا هوىً 

 

تنسمه أنفي فعشتُ كما أهوى 

إذا بي غريبٌ في الحياة تنوشني 

 

ثعالبُ كم كانت تصولُ ولا تقوى 

*                                                   *                                                   * 

أُخيَّ. وما أحلى –أُخيَّ-  أقولها 

 

إذا رَدّدَتْها النفس عادت بها نشوى 

فقدناكَ فقد النجم من يهتدي به 

 

وقـد بعُـد المسرى ولم نبلغ الشأوا 

حرامٌ على قلبي السلوّ  كأنني 

 

سكرتُ بأحزاني ولم أعرف الصحوا 

وقد طويتُ من بعد  فقدكَ فترة 

 

ولم أترك ذكراكَ عمداً ولا سهوا 

خيالك لم يبرح عيوني كأنني 

 

أطارحكَ الأشواقَ والهـّم والشجوا 

كأنك تلحوني كأنك عاتبٌ 

 

كأني على تقديم عذري لا أقوى 

*                                                   *                                                   * 

أُخيَّ. جفانا  الأقربون وعافنا 

 

أخلاؤنا شأنَ الذي فرّ من عدوى 

أُخـيَّ. وقد صاحَ الزمان  بشملنا 

 

فأنتَ هنا ثاوٍ ويا طيبهُ مثوى 

تـضمن جثمانا يفيض  شهامةً 

 

على رغم ما قد بثّ أعداكَ من دعوى 

تكرّر من مستعبدي الناس ضد من 

 

يكافح في إيمانه البغيَ والطغوى 

*                                                   *                                                   * 

وطه؟[1] فهل تدري بِطه وما جرى 

 

عليه من الأوغاد إذ لم يكن رخوا 

سجين بقفر شَطَّ عنا مزاره 

 

على أنه قد أحسنَ الـصبر في البلوى 

يجرّ برجليه الحديدَ كأنه … 

 

أداةٌ بها يلهو وما عرف اللهوا 

ويحلف ان لو مُدّ حبلُ حياته 

 

وحالفنا نصر لنمحوهموا محوا 

*                                                   *                                                   * 

وأما أنا فالحمد لله في عناً 

 

وقد أبعَدتْ دنياي عن عيشيَ الصفوا 

وزيد بأعبائي وأثقل كاهلي 

 

ولكن جيدي لن يذل ولن يُلوى 

أُخيَّ. تجول الذكرياتُ بخاطري 

 

وها أنا ذا أستعرض المرّ والحلوا 

مضت بعض أيام علينا وعيشنا 

 

رخيُّ ولذات الحياة كما نهوى 

ترف المنى كالطيرِ فوق  رؤوسِنا 

 

فتهفوا القلوب النابضات بها هفوا 

ونهتز للأنغام نسمع لحنها 

 

ونطرب للأطيار إن أرسلت شدوا 

ودارت  بنا الأيام: حيث تبـدلت 

 

لنا فِكَرٌ قد مَجّت اللعبَ واللهوا 

أحبّت  ميادين الرجال وأولعتْ 

 

بحبِ النضال الحرّ مذ صوته دوّى 

وعفنا لذاذات الحياة كأنما 

 

عشقنا الشقا حتى غدونا به نشوى 

نصارعُ جورَ الظالمين وعسفهم 

 

صراعاً ولم نركبْ غروراً ولا زهوا 

أُخيَّ. شهيدَ الحق مُتَّ مكرماً 

 

صحائفُكَ الغراء في الدهر لا تُطوى 

على ضوئهـا يمشي الشـباب منافحاً 

 

وغايته تحقيق غايتك القصوى 

أُخيَّ. لو أن الدمع يرجع ميتاً 

 

بكيت بكا الراجينَ من ربهـم عفوا 

وأذريتُ دمعَ العين أحمر قانيا 

 

ولكنه وا حسرتاه بلا جدوى 

*                                                   *                                                   * 

بنفسي من لم يُغلب الدهرُ صبرهُ 

 

مـآثـرهُ حتى لدى خصمه تروى 

بنفـسي من لم يَشْكُ يوماً عناءهُ 

 

وحتى غـدا من ثقل أعبائه نضوا 

بنفسي من ضحّى بكل حياته 

 

وخرّ صريع البغي كالغصنِ قد ألوى 

بنفسي صريعا ما اُلينت قناته 

 

وحاول كالإعصارِ لم يألف الرهوا 

بنفسي صليبَ العود عانق عودهُ 

 

مع الفجرِ والأنسامِ داعبنهُ نشوى 

تعَطر من أردانه  الفجر بالندى 

 

ويزداد عـطر الورد إن هو قد ألوى 

سيبقى مدى الأجيال ذكركَ مفخرا 

 

سلام عليه في الحياةِ وفي المثـوى 

                                  علي محمد الشبيبي / 12 آب 1951 

 

المرثية الثانية كانت بعنوان “شباط” وهي بتاريخ 10 شباط 1951. وهذا اليوم 10 شباط يرمز الى يوم محاكمة قادة الحزب حيث كانت الجلسة الأولى في 10 شباط وصدر حينها بحق قادة الحزب الخالدين (فهد، حاز وصارم) حكم الإعدام، والذي نفذ بسرعة فجري 14 و15 شباط 1949. ويلاحظ ان الوالد في مرثيته هذه كما في المراثي الأخرى يدون أحاسيسه ومشاعره بفقدان شقيقه ولكن يكتب بمعنويات وإيمان عال وإصرار على مقارعة الظلم.  

شباط 

أطلَّ عليَّ الشهرُ عنوانه غدرُ 

 

وساورنا من ظِلِّ أيامه ذعرُ 

ذكرتُ به يومَ -الحسين- قـد أعتلى 

 

خطيبا على أعوادها وجهُهُ  بدرُ 

يضيء دجى السارين حَثـوا ركابهم 

 

وقال لهم: سـيروا ففي سيركم نصرُ 

ولا تجبنوا فالجبنُ عارٌ على الفتى 

 

وذي الحربُ من عاداتها الكرُ والفرُّ 

وما الموتُ بالأمرِ المخيف إذا دنا 

 

وليس لدى الأحرار في حينه عذرُ 

أرى أيَّ حرٍّ يختشي الموت كاذباً 

 

فلا تقِفوا حتّى يبين لكم فجرُ 

وحتى يرى الطاغون يوم حسابهم 

 

فتبـدو لهم يوم القيامة والحشرُ 

*                                                   *                                                   * 

بنفسي من لم يرتعد حين حَينهُ 

 

وهل يختشي الصيادَ إنْ حلّقَ الصقرُ 

بنفـسي من عانى السجون مكبلاً 

 

ولم يتراجع حين قد مسّهُ الضرُّ 

أصرَّ. فلم يرمِ السلاحَ ولا ارتضى 

 

حياةً بها يشقى ويستعبد  الحرُّ 

إلى أن هَوى حرّ الضمير نقيه 

 

فشيعهُ مذ غيَّب البدرُ والفجرُ[1] 

*                                                   *                                                   * 

أُخيَّ: أنا الخنساء وان جفَ مدمعي 

 

معاذا الأخا تنساكَ خنساء يا صخرُ 

أُخيَّ: بقلبي من مصابك لوعةٌ 

 

يزيد لظاها كلّما مرّ ذا  الشهرُ 

تضجُ ضلوعي من زفيري وحسرتي 

 

كأن فؤادي وهو ما بينها جمرُ 

وكم بان سني ضاحكا غير أنني 

 

طويتُ على جرحٍ جناحاً به كسرُ 

أُري الناسَ مالا يستثير فضولهم 

 

وأبدو بشوش الوجه ثغري يفترُّ 

كأني لا همّاً أعاني ولا أذىً 

 

لقيتُ ولا في العيشِ صادفني شرُّ 

فإنْ أخلُ في نفسي تضاعف شجوها 

 

وثار ويذكيه من اللوعة  الفكرُ 

وأقسمُ أني ما نسيتكَ لحظةً 

 

فأنتَ لدى قلبي التعاويذُ والذكرُ 

وأنـت لي اللحنُ الذي لا أمَلّه 

 

أردِّدُهُ مادمتُ وأمتدَ لي عُمرُ 

وأنتَ -وحسبي أنتَ- أن عَنَّ حادثٌ 

 

وساءت به بلواي، الحمدُ والشكرُ 

أُناغي صغاري في سجاياكَ علّهم 

 

إذا كبروا يوماً يواتيهم  الثأرُ 

أقصُّ عليهم كيف أيقظتَ نُوّماً 

 

وكيف تجلّى الحقُ وأنكشف  السترُ 

وكيـف على الطاغين جهزتَ حملةً 

 

تَصارَعَ في ميدانها الشرُّ والخيرُ 

وكادتْ به الغوغاء تدركُ نصرها 

 

فلو لم يخنها النذل[2] تمَّ  لها الأمرُ 

                 *                                                   *                                                   * 

أُخيَّ. تهَيج الذكريات كوامناً 

 

بصدري وكم قد ضج من نارها الصدرُ 

بَرِمتُ بها لو لم تكن بي صلابةٌ 

 

أراها مجنّاً لن يطيحَ به الدهرُ 

حلفتُ يمينا لا أُسيلُ مدامعي 

 

إذا لم تُسَلْ من قاتليكَ الدما  الحمرُ 

بيوم سيأتي ليس منه تَخَلُصٌّ 

 

يضيقُ[3] على الطاغي به البرُّ والبحرُ 

وتنشر للسلم المحبب رايةٌ 

 

يعطرها من طيب ذكراكمو  نشرُ   علي محمد الشبيبي / السبت 10 شباط 1951    

 

محمد علي الشبيبي 

السويد/ 13 شباط 2022 

Image preview الشهيد حسين محمد الشبيبي (صارم)    

          Image preview

علي محمد الشبيبي شقيق الشهيد (صارم) 

 Image preview

كاتب السطور في إحدى زياراته لقبر عمه الشهيد صارم. ويلاحظ التجاوز على حرمة 

القبور دون أي نظام، حتى أن قبري أم الشهيد وشقيقه الأصغر “محمد علي” قد 

اختفيا من المكان وكانا بالأساس الى جانب قبر الشهيد! 

                                              

 

 

الهوامش 

[1]- إشارة إلى ساعة إعدامه ودفنه. ألإعدام كان فجرا أما الدفن كان مساء نفس اليوم 15 شباط. وقد شهده أخي محمد علي وآخرون منهم المرحوم المحامي “…. مطر” من نافذة بيت يطل على ساحة “باب المعظم” وقد تقدم إلى منصة الإعدام وهو ينشد قصيدة الجواهري (أتعلم أنت أم لا تعلم ….). وكانت كلمته لحظة الإعدام: أنا مسرور فمن حسن الحظ أن المشنقة دقت أعوادها في نفس المكان الذي كان حزب التحرر يثير منه المظاهرات الوطنية! 

 [2]– يخنها النذل .. هو مالك سيف الذي أدت خيانته إلى إعدام قادة الحزب واعتقال العشرات من الأعضاء فكانت نكسة لنشاط الحزب حتى التأمت جراحه وواصل العمل. وسبق أن طلبني يوم كنت مسؤولا عن محلية النجف وحدثني أحاديث كثيرة شممت منها رائحة الخيانة والجبن، فأبلغتهم، ثم بادرت باستقالتي. ولست أعلم هل هم فكروا بالخلاص منه أم لا؟  

[3]- وفعلاً ضاقت الدنيا على المجرم عميل الاستعمار الأول “نوري السعيد” وزمرته المدللون، عبد الإله وفيصل صبيحة 14 تموز 1958، فلم ينجوا من قبضة الشعب الثائر. 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here