جولة في عالم الكحوليات، مخاطر السائق المخمور !

جولة في عالم الكحوليات، مخاطر السائق المخمور ! د. رضا العطار

بمناسبة بلوغي اليوم الخمسة والتسعين من العمر انشر هذا المقال

بينما كنت في اواخر الخمسينيات من القرن الماضي اشغل منصب طبيب خفر في منطقة حوض الروهر في المانيا الغربية المكتظة بشبكة مواصلات كثيقة، استقبل ضحايا حوادث المرور طوال الليل. كان السبب في معظمها الخمرة. إذ انني كنت اقوم بشم فم السائق، فأجد في اغلب الحالات، رائحة الكحول القوية تزكم الانوف. اثبت مقدارها في الدم عبر التحليل.

لقد دفعت بي تلك المشاهد الاليمة الى دراستها، فاشتركت في المجلة الشهرية لنادي سيارات المانيا التي كانت تنشر معلومات مجدية بخصوص اسباب حوادث السير المميتة وكيفية معالجتها. فعلمت بعدئذ بان هذه الاسباب لم تكن تقتصر على الخمرة وحدها انما كانت تشمل سلامة القوى العقلية لدى سائق المركبة ودرجة تعليمه ومدى ثقافته الشخصية فضلا عن قوة حاسة البصر عنده وحالته النفسية والامراض التي يعاني منها.

وبعد انتهاء دراستي في المانيا نهاية عام 1964عدت الى الوطن ودخلت دورة الاحتياط وعند انتهاء الدورة عُينت في معسكر الحبانية كضابط طبيب. حينها كنت اتنقل يوميا بين بغداد ومقر عملي هناك كنت اشاهد نفس المشاهد المأساوية لحوادث الطرق التي عاصرتها في المانيا. مع الفارق، ففي الحالة الاولى كانت الخمرة هي العنصر الغالب، اما في الحالة العراقية فكانت الضحية نتيجة جهل السائق بالامور الفنية لظروف السياقة.

فكنت ادخل الضحايا الى مستشفى المعسكر واقوم بالاسعافات الاولية، وخياطة الجروح.

وبدأت اكتب تفاصيل هذه الحوادث، شبه يومية، انشرها في صحيفة النهار العراقية بشكل مقالات اسبوعية تحت عنوان (انت وعيونك)

وفي هذا المجال علقت الاستاذة المحامية سلام خياط في جدولها الاخير لصفحة جريدة النهار بان الدكتور رضا العطار يحمل الى العراق علما جديدا.

كما وقمت برفقة زميل ضابط بدراسة ميدانية في الطرق الخارجية ليلا متعلقة بخطر الاضائة العالية، واخذنا معنا ساعة زمنية وبدأنا بالعمل،

كان علينا ان نتأمل السيارات القادمة حتى اذا ما واجهنا احداها بضوئها العالي، شعرنا بان الرؤيا عندنا بدأت تقل وتتقلص دريجيا حتى تنعدم بصورة كلية، تستمر الحالة زهاء خمسة ثوان.

ولو شئت ان اتأكد من صحة الارقام عليً ان اقول : اذا كنت اسير بسيارتي بسرعة 100 كيلو متر في الساعة، فهذا يعني اني اقطع حوالي كيلومترين كل ثانية، اي انني قطعت حوالي 100 متر خلال الثواني الخمسة دون ان ارى شيئا بالمطلق، فإذا ما صادف وجود عائق او حيوان عابر طريق ضمن هذه المسافة، يكون احتمال وقوع حادث مروع امرا واردا. وقد اسميت هذه المسافة ب (بالسياقة العمياء).

وقد نشر هذا البحث في اكثر من صحيفة عربية تحت شعار مخاطر الاضائة العالية ليلا.

يسعدني في هذا المجال ان اذكر ان احد ضباط طائرات الميك في قاعدة معسكر الحبانية قد زارني اثناء عملي في المعسكر في احد الايام وبعد تبادل عبارات المجاملة المألوفة، قال لي : قرات لك البارحة دكتور ما كتبته في مقالتك الاسبوعية حول ما يحدث لعين الطيار في طبقات الجو العالية، وكيف يرى التضاريس على الارض، صحيح تماما، هل يعجبك ان تطير معي غدا ؟ اسمي دريد . . . لقد صُعقت لهذا العرض، كدت لا اصدق، لكنني تمثلت لدعوته الكريمة حالا وبدأ قلبي يخفق فرحا، وبدت الدنيا في عيني وكانها تسطع نورا .

كان الجو في صباح اليوم التالي دافئا ولطيفا، وكنت انا اقف الى جوار طائرة الميك في زيً العسكري اتلقى من دريد آخر التعليمات، حيث قال :

لو امرتك اثناء الطيران ان تترك الطائرة، فعليك ان تحسب 1 ، 2 ، الى 8 دون ابطاء ثم تسحب الحزام الموجود امامك فورا، ليقذفك الى الفضاء، وتهبط الى الارض بالبرشوت.

سمعت ما قيل واستوعبت و بذلت جهدي الجهيد للسيطرة على هدوئي لكن في الواقع كان داخلي يضطرب ويفور، فكان كل جزء من اجزاء جسمي يرتجف رعبا.

اقلعت طائرة الميك في تمام الساعة الثامنة صباحا متجهة نحو بادية الشام ثم عرجت باتجاه مدينة كربلاء وقد ترائت لي القبة الذهبية الكبيرة للمرقد الشريف بحجم القمر،

مما دلً على مبلغ الارتفاع الشاهق للطائرة، وشعرت بدوران الرأس، فرجوت دريد بالرجوع، وبعد دقائق رأيت الجسر المعلق. وعند الوصول كان قد مر على وقت الاقلاع 16 دقيقة. شعرت خلالها بالسعادة القصوى.

وعندما اطلع قائد الفرقة العميد الركن المرحوم محمود عريم على المقالات الاسبوعية التي انشرها بخصوص حوادث الطرق وعلاقتها بامراض العيون، استبشر خيرا وطلب حضوري وقال لي انه يشجعني في هذا المسعى و انه يود لو اقوم بدراسة ميدانية للمركبات الداخلة الى العراق عن طريق الرطبة خلال 24 ساعة متتالية بغية معرفة نقاط الضعف عند سائقيها كي يتسنى للجهات الرسمية معالجتها. قولت :

حاضر سيدي وغادرت.

قمت في اليوم التالي بتدريب خمسين من افراد المراتب في الفرقة، افهمتهم بوجوب الالمام بالامور الفنية للمركبة وطلبت منهم التأكد من حوزة السائق لأجازة السوق ومعرفة كونه يجيد القراءة ام لا.

بدأنا العمل في صباح اليوم التالي في منطقة الفلوجة راس الجسر، كنت اشرف على عملية المسح من داخل خيمة نُصبت هناك.

استهل الجنود يقفون السيارات، ليتأكدوا من الامور التي كُلفوا بها، وانا بدوري كنت القي نظرة فاحصة للتأكد من سلامة العين، استمر المسح طيلة 24 ساعة متتالية، خرجنا منها بنتائج غير متوقعة. نشرت في صحيفة النهار شملت صفحتين كاملتين، كانت صورة العميد الركن في اعلى الصفحة وصورتي في اسفلها.

شملت الاحصائية حوالي 1400 سائق مركبة، كان 34 منهم يفتقد الى اجازة السوق، و66 منهم كان اميا، يجهل قراءة لوحات المرور، اما انا فقد وجدت بدوري 11 حالة بين حول العين بدرجات خفيفة و الاصابة بالساد ((cataract بأنواعه المختلفة دون ان يكون المريض على علم بها، كما وجدت حالة واحدة من حالات ((glaucoma الماء الاسود، اوصيت اصحابها بمراجعة الطبيب.

كان معظم سائقي المركبات يشكون من الاضائة العالية ليلا لكنهم هم انفسهم كانوا يستعملونها. وعلى اثر هذه المعطيات مُنعت اجازة السوق للاميين وتقرر ارسالهم الى احد مراكز مكافحة الامية.

كنت مسرورا بهذا الانجاز. وفي عام 1980 جمعت كل الابحاث التي نشرتها في الاعوام السابقة في كتاب اهديته الى وزارة الاعلام والارشاد العراقية،

كان الكتاب يشمل على سبعة فصول، انفرد الفصل الاول بتاريخ السياقة والثاني بعين السائق وضرورة الرؤيا الجيدة والثالث بحالة العين اثناء السياقة والمعاناة من ظاهرة النور والظلمة وعن الساحة البصرية وعمى الالوان، والرابع عالج مشكلة العاهات الجسمية واثر المخدرات ومخاطر الضوء العالي ليلا والخامس جروح العين والرأس بعد وقوع الحادث والسادس الجوانب النفسية والاخلاقية للسائق وتأثير درجة انارة الطريق وضرورة استعمال حزام الامان، اما الفصل السابع فقد اقتصر على التوصيات والمقترحات للوقاية من حوادث الطرق.

وفي عام 1982 ظهر كتابي (عيوننا وحوادث الطرق) في برنامج العلم للجميع لكامل الدباغ، الذي ثمن محتويات الكتاب، وحث المشاهدين على قرائته.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here