كاريزما القائد والزعيم والرئيس المقدس لدى عموم الجمهور واخصائه والايحاءات للتصور !!!

د.كرار حيدر الموسوي

لا شك أنّنا في حاجة أكيدة إلى تفكيك صورة الزّعيم السياسي في المخيال العربي من مقاربات مختلفة. فقد أثبتت الممارسة السياسية المعاصرة نزعة الشعوب العربية إلى تأليه قادتها محوّلة صورة الزعيم وأقواله وخواصه إلى أيقونات مقدسة. وأثبت بالمقابل عمل هؤلاء الزعماء المستمر على تحويل الشعوب إلى قطيع مفتقد للإرادة يقتصر دوره على الاتباع والموالاة.

***ومن المظاهر الساخرة أنّ بعضهم كان يلزم كبار قادته العسكريين على أداء التحية العسكرية للكرسي الذي يجلس عليه وإن كان شاغرا ويجرّم كل تجاهل له أو عدم اكتراث بوجوده الرمزي. وأثر “تقديس الزعامة، دراسة في ظاهرة الكاريزما السياسية” للباحث ثامر عباس ينزّل هذه الممارسة في سياقات سياسية كثيرة. فيبحث في الدوافع المضمرة التي توقع الجماهير في رحاب جاذبية الزعيم السياسي وسحر كاريزمته. وتصيبها بما يصطلح عليه بـ”الشلل الإرادي“.

ولغزارة مادة هذا الأثر القيم سنركز على تأليه الزعيم السياسي في سيكولوجيا الجمهور: من التماهي إلى التقديس”، لصلته المباشرة بالممارسة السياسية في العالم العربي.

***يدور مفهوم الكاريزما حول معاني السحر الخاص لبعض الأفراد والمهابة التي يحظون بها ولجاذبيتهم التي تدفع الجماهير إلى تقديسهم. ويردّ الباحث هذا المصطلح إلى أصله اليونانيكاريزماومعناه الدّقيق وفقه: الهدية الإلهية والجاذبية المغناطيسية التي تشد الناس إلى أفراد بعينهم دون أن يعرفوا ماهيتها. ويجعلها ماكس فيبر أشبه بالسحر وأقرب إلى قوى غيبية أو غير معقولة. ومن ثمة يشبه القائد الكاريزمي بالمنقذ أو المخلص. ويجد منتقدوه فكرة قريبة من المبعوث الإلهي المخلص: مسيحًا سيعود إلى الأرض ليطهرها من فسادها أو مهديًا منتظرا كما في بعض المعتقدات. ومع ذلك تبقى معطى طبيعيا لا يمكن اكتسابه بالدربة والتعلّم.

وكثيرا ما تدفع هذه الجاذبية الأنصار إلى اتباع غير مشروط لزعمائهم يشجعهم على تخطي إرادة مجتمعاتهم مستفيدين مما يُسبغ عليهم من قداسة تجعلهم في حل من المساءلة عن الأخطاء التي يرتكبونها. ويختلف الباحثون في مجالات ظهور هذه الشخصية الكاريزماتية، بين من يصلها بالمجال الديني ومن يعممها على مختلف مجالات الحياة الاجتماعية المشتركة. ويقصرها اتجاه ثالث على الارتباط بالسياسة ويصلها بشكل ممارسة السلطة. فتكون مختلفة عن الاتجاه العقلاني في الحكم الذي يقوم على علوية القانون والمؤسسات.

يساعدنا هذا الأثر على فهم الحقل السياسي في العالم العربي بصفة أعمق. فليس ظهور شخصيات كاريزماتية علامة صحية أو أمارة على النبوغ والقدرة على القيادة بقدر ما تجسّد لضعف مؤسسات الدولة. فعلوية القانون في العالم الديمقراطي تقمع النزعات الفردية للحكام.

***و أن الخاصية الأساسية التي ينبغي وضعها بالحسبان حين يتعلّق الأمر بمفهوم (الكاريزما) هي التعبير عن مظاهر الإجلال والتبجيل التي ينعم بها الزعماء والقادة السياسيون (حصرا)، من لدن أتباعهم وأشياعهم ومريديهم. فيرفض المجازفة بتوسيع نطاق هذا المصطلح وتمديد إطاره لتشمل بقية الشخصيات العاملة في المجالات الأخرى. فمثل هذه الشخصيات “غالبا ما توصف بالكاريزماتية (تجاوزا) بناء على ما تتمتع به من مكانة اجتماعية متميّزة أو حظوة دينية مرموقة، أو هيبة علمية مشهودة أو سلطة وظيفية متقدّمة”. كما يبدو أميل إلى التركيز على البعد الاجتماعي في اكتساب الكاريزما من تنشئة وتجربة وخبرات وسياق اجتماعي حاضن.

*** ولابد  من رصد الظاهرة في المجتمعات العصرية ليؤكد أنها ظاهرة شاملة تبرز زمن الأزمات الحادة مذكرا بشخصية موسيليني في إيطاليا الفاشية أو بشخصية هتلر في ألمانيا النازية. ثم يعود القهقرى ليعرض نماذج منها في الحضارات الغربية المختلفة بدءا من الإغريق مرورا بالرومان وبالعصور الوسطى وصولا إلى العالم الغربي الحديث. فينقل عن المؤرخ مايو عند وصفه لجورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة عند وصفه لإزاحة الستار عن تمثاله “أنّ الرجل لم يكن من لحم ودم، بل مجرد إله نزعت عنه الحياة، كما نزعت عن التمثال“.

***وتؤكد الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت أن “هتلر لم يلبث يردد أنا لست رئيس دولة على غرار ما يكون الدكتاتور أو الملك، إنما أنا مرشد الشعب الألماني” ويعرض مثال ستالين في الاتحاد السوفياتي. فقد تحوّل إلى رمز للمعرفة والحكمة والفضيلة والعبقرية رغم كل الجرائم التي حدثت في عصره. فقد كان، وفق المؤرخ الماركسي ميدفيديف “عبقريا وأكثر من عبقري، عظيما وأعظم العظماء، حكيما وأكثر حكمة من الحكماء، يعرف كل شيء ويرى كل شيء..”. ولكن هذه الظاهرة ترتبط في عصرنا الحديث ببلدان العالم الثالث خاصة. ويعمل الباحثون على ربطها بمظاهر تخلفها.

***وانطلافا من جملة من المصادر  منها الصلة العميقة بين الدين والممارسة السياسية في العالم الشرقي واقتران البشري بالإلهي من حمورابي إلى يهوا إلى موسى. ومع ذلك يقدّر أنّ البعد الكاريزمي لا يمثل جبلة في تكوين الشعوب الشرقية وشخصياتها النمطية. صحيح أنّ مفهوم الكاريزما يفيد من الشعائر الدينية والطقوس الرمزية. ولكنها ليست المبرر الوحيد لنشأتها. أو لنقل أنّ عامل الدين، حينما يكون المؤثر الوحيد، يتحول إلى عائق يحول دونها. فثقافة الشرق قائمة على المحافظة على ثبات البنى الاجتماعية وتوارث القيم بينما القائد الكارزمي رادكالي يتحدى الأنساق والقيم الثابتة ” يقود حركة اجتماعية أو دينية جديدة، وغالبا ما يقنع أتباعه بهدف جديد، ومن ثم فإنه عندما تدرك كاريزميته في البناء الاجتماعي وفلسفة القيمة، فإنه من المتوقع أن يتصف بالثورية“.

***وعليه ويردّ هيمنة الشخصيات الكاريزماتية اليوم في هذا الفضاء الجيوسياسي إلى الاحتكاك بالغير والتثاقف الحضاري. فقد كان رئيس القبيلة في الجاهلية من يتولى السلطة. فيمثل نفسه بقدر ما يمثل أسيادها ووجهائها. وعند العودة إلى ماضي العرب في هذه المرحلة تاريخهم لا يظفر المرء بأخبار عن زعامات تمتعت بكاريزما خاصة. ولكن هذه النزعات ستظهر عند السنة بداية من الخلافة الأموية لحاجتهم لتوظيف الدين في الحقل السياسي لتثبيت حكمهم وتقوية شوكتهم فاستغلوا صلات قرابتهم بالرسول وانتماءهم القبلي. ثم كرسته الشيعة من خلال وظيفة الإمامة وفقد جعلوها امتداد للوحي وارتقوا بها إلى مرتبة أعلى النبوة. ولكنها تظل محض نزعات لا تتوافق كليّا مع مفهوم الكاريزما الذي يكرّس في الحقل السياسي اليوم.

كأن  العالم العربي والإسلامي يحاول أن يتدارك ما فاته. فقد غدا الخطاب الشيعي والسني يعملان على تبرير السيطرة السياسية للدولة عبر تقديس الزعيم السياسي موظفين الحجج الدينية والأحاديث النبوية لإدراك الغاية. وليست الظاهرة حكرا على ذوي الخلفيات الدينية. فالعلمانيون بدورهم لم يجدوا حرجا في توظيف المقدس واستدعاء الأسطوري. فظهر علمانيون يدعون إلى الفصل بين الدين والدولة وفي الآن نفسه يضفون هالة من القداسة على أفعالهم ويدّعون أنّ القيادة قدرهم الذي لم يختاروه بأنفسهم.

***ولابد من عرض عينات من هذه الشخصيات في أنحاء مختلفة من بلاد العرب مشرقا ومغربا. فمن العراق يعرض تجربة عبد الكريم قاسم. ونكتفي هنا بإحصاء انتهى إلى أن محيطه خلع عليه خمسة وخمسين لقبا إرضاء لنرجسيته. فهو الزعيم الأوحد والعبقري والحبيب والغالي والفذ والذي لا يهاب الموت… واستدعوا الأسطوري في هذا السياق. فجعلوه القديسَ وعملاق تموز وابن الآلهة..

وتماهى هو بدوره مع هذه الصورة. فبعد محاولة اغتياله سنة 1959 “وضع بدلته العسكرية الملطخة بالدماء في حافظة زجاجية، وكان أي وفد يزوره يطلعه على هذه البدلة بعد أن يقول له بأن الله قد خلقه لينقذ هذا الشعب وليحكمه”. وإجمالا أسس لعقيدة عبادة القائد التي سيمضي فيها صدام حسين ليدرك أقصاها. ففي مقابلته مع قادة الفرق العراقية في الكويت إبان الغزو ذكر أنه كان يتخذ قراراته ثم يتوكل على الله إلا في قرار الغزو فهو يكاد يأخذه جاهزا من الله.

***وفي سوريا مثل تقديس الحاكم أداة ضبط للممارسة السياسية وعامل تحكم فيها. ولما كان حافظ الأسد يفتقر إلى الجاذبية التي تميّز صدام حسين مثلا جعلت دمشق من الاستعراضات والاحتفالات نماذج رمزية للسلطة. وتبريرا لوراثة الابن لوالده وامتدادا لهذا البعد الأستعراضي الرمزي جُسّم مشهد خلافته من قبل ابنه بشار على الطراز الملكي الذي لا يتماشى مع تنصيب الحكام في الأنظمة الجمهورية.

ولكن يبقى السبق مصريا. فجمال عبد الناصر يمثل أول الرؤساء العرب الذين اختزلوا السلطة في شخص الزعيم القائد، مفيدا من الظروف الإقليمية كـ”ـمقارعة قوى الاستعمار” و”مواجهة الحركة الصهيونية” و”حلم تحقيق الوحدة العربية” بعد أن سقطت الخلافة العثمانية.

و أنّ بلدان المشرق أكثر إنتاجا للشخصيات الكاريزمية مقارنة ببلدان المغرب، ويرجّح أن يعود السبب إلى كونها موطن الاستبداد وحاضنة أنماطه. ولا ينفي دور الحضاري الذي ينغرس في عمق أسطوري يجعل الحاكم تجسيدا للآلهة أو الدور الإقليمي الذي كرّس فكرة ضرورة وجود زعيم قائد وفكر مشال عفلق منظر البعث نموذج جيّد لذلك. . 

***ولعلّنا نفهم من خلاله سبب ارتقاء صدّام بشجرة نسبه العائلي إلى عترة آل البيت وإلى علي بن أبي طالب بالذات. فقد كان يعوّل على قداسة آل البيت لتحجيم الخطر الشيعي الذي يحيق بحكمه داخليا وخارجيا. ولم تخل بلدان المغرب من هذه الظاهرة فقد أفاد الحبيب بورقيبة في تونس من تاريخه النضالي ضد الاحتلال الفرنسي، وهو ما يميزه عن بقية القادة. ويلاحظ الباحث في علم الاجتماع منصف وناس أن خطابه كان يتأسس على مفارقة كبيرة. فهو مكبّل بالمؤثرات الشخصية والنوازع النفسية الذاتية وممتلء بالذات المنفردة المتفردة. وفي الآن نفسه يمثل أكثر الخطابات العربية منطقية وعلمانية وانسجاما.

*** ويساعدنا هذا الأثر على فهم الحقل السياسي في العالم العربي بصفة أعمق. فليس ظهور شخصيات كاريزماتية علامة صحية أو أمارة على النبوغ والقدرة على القيادة بقدر ما تجسّد لضعف مؤسسات الدولة. فعلوية القانون في العالم الديمقراطي تقمع النزعات الفردية للحكام. ولعلنا أن نجد في صدها لجنون ترامب وتهوره بكل هدوء وحزم خير مثال. أما في العالم العربي فقد اختار المشرع في العراق وتونس اللتين عانتا من الدكتاتورية النظامَ البرلماني للقطع مع الماضي والحدّ من نزعة الحكم الفردي ولكن التجربة انتهت إلى الفشل الذريع. فقد ظلّت الجماهير تحنّ إلى القائد الأب ضمن تصور ذكوري يسقط النسق التصوري للعائلة المغروس في الضمير الجمعي على صورة الوطن.

*** ففي تونس لم تجد هذه الجماهير الرئيس الأب التي كرّسها بورقيبة، لزوال أسباب وجودها بعد التغيرات السياسية والاجتماعية الكبيرة التي شهدها المجتمع التونسي. أما في العراق فقد أضحت الكاريزما مرتبطة بزعيم الطائفة شأنها شأن لبنان. والطوائف متناحرة كما نعلم. فتحولت مؤسسات الدولة في هذه الدول إلى ساحة لصدام زعامات تعمل على تحقيق أحلامها الشخصية أو الطائفية أو الحزبية على حساب المصلحة الفضلى للوطن وهذا ما أضر كثيرا بالوحدة الوطنية وأثر على استقرار الحكم وعسر تشكيل الحكومات وفتح الممارسة السياسية على الحسابات الضيقة والمحاصصات.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here