المرأة في الاندلس وكثرة الشاعرات فيها * للشاعر نزار قباني

المرأة في الاندلس وكثرة الشاعرات فيها * للشاعر نزار قباني بقلم د. رضا العطار

ان وفرة الشاعرات العربيات في الاندلس هي ثمرة عوامل كثيرة منها :

· جمال البيئة : فالاندلس بلاد جميلة، خضرة وماء، وبساتين وانهار، وجبال وسهول، وفاكهة ورياحين، ثم اضفت الحضارة الجديدة الوافدة عليها من الرقي ما جعل سكانها يحافظون على روح الجمال الطبيعي في بلدهم وينمونه ويزيدون فيه، فاصبحت الاندلس اغنية عذبة في فم الشاعر ينشدها وهو بين ظهرانيها، وانشودة ساحرة على لسانه يرددها وهو مغترب عنها، واذا كان الشعر في الاندلس ظاهرة اساسية من ظواهر البيئة فيه – فانه لذلك قد تدخل في كل شؤون الحياة، تخيلها ووصفها وفرّغ نفسه لها واحتفى بها كل الاحتفاء.

· واما امتداد العمران داخل الاندلس نفسها فكان امرا يدعو الى العجب، فقد كانت المدن على ما بينها من مسافات متصلة الحلقات بالمباني البيضاء المتقاربة بحيث لا يحس المسافر بوحشة الطريق. – – يصف ابن سعيد هذه الظاهرة ويقول : فمتى سافرت من مدينة الى اخرى لا تكاد تنقطع من العمارة ما بين قرى ومياه ومزارع – والصحاري فيها معدومة.

ويقفز الى الذهن مباشرة في نطاق هذه الفخامة والترف والثراء، الجواري والقيان اللائي كن يملأن هذه القصور ويقمن بعملية ترفيه لاصحابها من تسرّ من شعر وعزف وغناء- ثم ما لبث بعضهن ان صرن امهات اولاد وانجبن بعض الخلفاء اللامعين.

ان الصورة في الاندلس من هذه الناحية لا تكاد تختلف عن مثيلات لها في المشرق. غير ان المشرق في فجر الحياة الاندلسية كان هو الذي يقوم بعملية توريد القيان الحاذقات الى الاندلس وكان اكثرهن من القيان اللائي تلقين اصول العزف والغناء في المدينة – ولذلك فقد افرد لهن الامير عبد الرحمن الاوسط دارا كانت ملحقة بقصره سميت دار المدنيات.

كان المجتمع الاندلسي بطبيعته مجتمع مستنبت وليس مجتمعا اصيلا ذا اعماق تشده وتقاليد تحد من غربته اذا ما انفلت جماحه وحادت عن الجادة اسبابه. ولذلك كانت صور التطرف فيما يتصل بالاحاسيس الوجدانية الغنائية واضحة – – – اننا نستطيع ان نجد في هذا الشعر اسباب التطرف حينا وطرفي النقيض حين اخر. فقد اسرف الاندلسيون في وصف الرياض والمتنزهات والجداول والازهار والرياحين اسرافا شديدا بحيث ارتبط شعر الطبيعة الاندلس وان كانت جذوره الاصلية قد وفدت ناضجة من المشرق – والشعراء الاندلسيون يسرفون في وصف مجالس القصف والمجون والشراب والطرب – فالشعراء في المشرق اسرفوا ايضا في وصف مجالس الخمر والمجون.

ان الدارسين للشعر الغزلي في الاندلس، لا يتحدثون عن شعراء الغزل بقدر ما يتحدثون عن شاعرات الغزل : فيقال ان هناك مئات من شاعرات الغزل في الاندلس – – بدأ بشاعرات القيان الوافدات وانتهاء ب (قسمونة بنت اسماعيل) في القرن السادس الهجري، مرورا بشاعرات القرن الثالث والرابع (قمر، عايشة القرمطية، حفصة الحجازية، وهي اول شاعرة اندلسية تقول الغزل) وشاعرات القرن الخامس (زينب المرية، غاية المنى، ام الكرم، ثم مجموعة شاعرات غرناطة كحمدونة بنت زياد ثم شاعرات اشبيلية وعلى راسهن ولادة بنت المستكفي) ثم شاعرات القرن السادس الهجري (حفصة بنت الحاج، واسماء العامرية، والشاعرة الشبلية)

لقد كانت اغراض شعر الغزل في الاندلس هي نفسها اغراض شعر الغزل في العصر العباسي في بغداد وكانت المعاني هي المعاني والاسلوب هو الاسلوب. – – الا ان شعر الغزل في الاندلس مرتبط في تاريخ الشعر العربي بالموشحات التي ازدهرت حتى اصبحت فنا قائما بذاته في شعر الغزل بالاندلس – فبالرغم من ان الموشح مشرقي المنشأ الا انه ارتبط بالاندلس وحمل اخيرا اسمها.

فلماذا لم يتطور الموشح في المشرق – كما تطور في المغرب وفي الاندلس بالذات ؟ – – -ان الجواب سهل وبسيط.

فلقد تطور الطرب والغناء في الاندلس كما لم يتطور في المشرق في نفس الفترة – واكثر الموضوعات اتصالا بالطرب والغناء والترنيم هي موضوعات الغزل – – ومن ثم كان الغزل في بادئ الامر هو الموضوع الرئيسي الذي من خلاله صاغ الوشاحون الاوائل تواشيحهم – وكل من الغزل والغناء مرتبط الى حد كبير بالشراب الذي يقبل عليه كل من الشاعر الغزل والمغني – ولذلك سرعان ما ارتبط الغزل والخمر بحيث صارا موضوعا واحدا يلتزمها الوشاحون في الموشحة الواحدة.

لقد اقبل الشعب الاندلسي على مجالس الخمر والغناء والطرب بحكم طبيعة بلاده التي كانت تزخر بالفتنة والجمال في ظل دوحة يانعة خاص على شاطئ غدير سلسال او على صفحة نهر سيال او في اكناف حديقة ندية الزهر فواحة الاريج – فما لبث ان ارتبط بكل من الخمر و الغزل ووصف جمال الطبيعة وروعتها جميعا.

لقد نما فن الموشحات في اغراض الغزل كما لم يتم في غيرها من الاغراض مثل تواشيح الطبيعة وتواشيح المديح وتواشيح الرثاء وتواشيح التصوف ونواشيح الخمرة

لقد اساء فن الموشحات الى فن الغزل اكثر مما احسن اليه – فلو بقيت الموشحات بعيدة عن اغراض الغزل وشعره، لظل شعر الغزل في منأئ عن عيوبه الفنية التي لحقت به نتيجة لنشوء فن الموشحات وذلك للاسباب التالية :

– ازدادت قيود قوافي الشعرنتيجة لازدياد قيود قوافي الموشحات في نطاق البيت الواحد.

– زيادة الافتتان في الموشحات وكذلك الصنعة الى درجة ان الفاظها الموزونة قد طغت على معانيها المبتغاة – وقد امتد هذا ايضا الى شعر الغزل الاندلسي.

– كانت اغلب الموشحات خالية من ابعاد الاعماق ولمسات اللوعة التي ترتبط بالغزل عادة، اذا ما كان الشاعر صادقا في احاسيسه وقد امتدت هذه الظاهرة الى شعر الغزل الاندلسي ايضا.

* مقتبس من كتاب (المرأة، اللعبة، ضوؤها الشاعر) لنزار قباني.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here