نظرية التطور واصل الانسان، كيف اكتشف الانسان النار ؟

  (*)  د. رضا العطار

 عاش الانسان في العصور السحيقة وهو في  بداية نشوءه لا يعرف الزراعة، اي انه كان لا يعرف شيئا عن الحضارة، لأن الحضارة والزراعة مترادفتان في المجتمع البدائي ولكنه مع ذلك لم يكن طوال هذه الفترة جاهلا، حيث انه كان يعرف كيف يصنع آلاته البسيطة من الحجر وكيف يصيد الحيوان ويدبّر له المكائد والكمائن، وكان هناك سحرة يحركون ذكاءه بما يقصّون عليه من العجائب.

 

وبالجملة كانت له ثقافة لا تختلف عن ثقافة المتوحشين الذين لا يزالون يعيشون في عصرنا لا يعرفون الزراعة. وكانت النار اهم ما عرفه الانسان البدائي، بل ربما كانت هي من اكبر الاسباب في انفراج الهوّة بينه وبين القردة العليا واحط السلالات البشرية المتوحشة التي لا تزال تعيش اليوم مثل سكان استراليا الاصليين، لكن القردة لحد الان لا تعرف النار.

 

والنار تحدث في الغابات وقت القيظ حيث الجفاف والحر الشديد. ولا بد ان معرفة الانسان بها كان عن هذا السبيل ولكن هناك فرقا عظيما بين معرفة النار وبين كيفية احداثها. والغريب ان جميع المتوحشين الان يعرفون كيفية قدحها بالزند، وكيفية القدح تختلف ولكن المبدأ واحد وهو ايجاد اللهب بالأحتكاك.  ولكن جميع المتوحشين لا يطفئون نارهم  قبل نومهم حتى اذا نهضوا صباحا وجدوها واستخدموها.

وهذا يدعو الى الظن بان اؤلئك الافراد الذين عرفوا كيف تقدح النار بالزند في اول عهد الانسان احتكروا هذه المعرفة لأنفسهم واستغلوها للسيادة على سائر بني جنسهم وجعلوها من ممارسات الدين او السحر.

 

 وعند الاغريق القدماء اسطورة خاصة بالنار تدلنا على شئ من هذا،  خلاصتها ان الأله – برومينوس – افشى سر النار وكيفية قدحها بالزند للعامة من الناس،  فعاقبته الالهة بان سلطت عليه العطش ووضعته في ماء يربو الى ان يبلغ فمه فاذا اوشك ان يشرب غاص ثانية وهو في هذا الحال حتى مات عطشا.

 

والزند والحجر مقدسان عند البراهمة ورسمهما مقدس الى الان عند البوذيين، والنار في الدين الزرادشتي المجوسي مقدسة، كانت مشاعلها تزين محافل حضارة الفرس القدماء.

ومهما قلنا في فائدة النار للأنسان الاول فاننا لن نستطيع ان نقدر قيمتها في تقدم الانسان. فهي من المخترعات العجيبة التي دفعت تقدمه الى الامام من كل جهة وساعدته على التطور بل هي لا تزال كذلك الى الان وان يكن هذا التطور ليس خيرا خالصا.

 

فالنار عوّد الانسان للأصطلاء فخف شعره وتعززت لغته خاصة لدى النساء في غياب الرجال علما ان لغة الاشارات تتعذر في الليل. وكانت النار سببا في انتشار الانسان في الاصقاع الباردة البعيدة التي لم يكن يطيق المعيشة فيها لولا النار. كما كانت النار سلاحا يمنع الضواري عن مهاجمته في الليل.  وللنار فائدتان اخريتان: تهيئة الطعام وصهر المعادن، عماد الحضارة العصرية. فقد كان طعام الانسان في الازمنة القديمة لا يختلف عن طعام الحيوانات، مقتصرة على الاثمار والحشرات وجذور الاشجار.

 

فكيف اذن عرف الانسان اللحم واعتاد عليه ؟ — يغلب الظن ان الاصل في ذلك رغبة الانسان في تحقيق غاية سحرية هي الحصول على قوة المخلوق الذي يأكله. ومن هنا ايضا جاءت عادة اكل لحوم البشر, فإن هذه الرغبة نشأت بغية كسب القوة العضلية الكامنة في المحارب الشجاع فإذا قُتل اُكل، اعتقادا من الانسان الهمج انه تقمص روحه.

 

فلما نشأ هذا الاعتقاد عمدوا الى صيد الحيوانات القوية كالنمور والاسود بهدف ان يأكلوا من لحمها كي يكسبوا قوتها. ولا يزال بعض افراد القبائل الافريقية تأكل قلب الذئب لتكسب قوة الذئب. ويجب ان لا ننسى ان صيد الحيوانات كان سهلا في الازمنة القديمة لان الحيوان لم يكن قد تعود الخوف من البشر وانما صار الخوف كالغريزة بعد ما شدد الانسان في صيده.

 

وكانت النار احيانا تشب وقت القيظ في الغابات،  فيحترق فيها بعض الحيوان ويموت فيجد الانسان الفرصة سانحة لان يأكل بعض لحمها، ولا بد انه استمرئ طعم لحمها المشوي فتنبه الى شوي طعامه بالنار. ولذلك يجب ان نعتبر الشوي اول ضروب الطهي التي عرفها الانسان قبل ان يتوصل الى معرفة آنية الطبخ. 

والمتوحشون الذين لا يعرفون الى الان كيفية صنع الفخار يستعملون جمجمة رأس الانسان لحمل السوائل، الى جانب قشرة جوز الهند بعد افراغ محتوياته ثم يسخنون قطع الحصى و يضعونها في الجمجمة المحتوية على الماء واللحم، فيسخن الماء ويطبخ اللحم

 الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

 

* مقتبس من كتاب نظرية التطور واصل الانسان للموسوعي سلامة موسى.  

 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here