لا يمكننا تغيير الماضي.. لكن بإمكاننا صنع المستقبل!

حميد الكفائي

كثيرون مهمومون بما يمكن أن يكتبه التأريخ عنهم، بل يحسبون له ألف حساب في كل خطوة يخطونها، ويشغلهم كثيرا ما يمكن أن يكتبه المؤرخون عن سلوكهم وأفعالهم.

وطالما سمعنا عبارات مثل (التأريخ لن يرحم أحدا)! و(إنها مسؤولية تأريخية) و(التأريخ سيكتب بحروف من نور عن كذا وكذا) وأن (فلانا سيلعنه التأريخ) وأن (التأريخ يعيد نفسه) وأن (التأريخ سيلاحقهم على سيئات أفعالهم) و(سجل يا تأريخ أن فلانا فعل كذا)!

لابد أن هؤلاء يتخيلون أنفسهم يجلسون أمام محكمة التأريخ ويحاولون أن يجدوا أجوبة لأسئلة القضاة المتخيلة! بل هناك من يستغرق في الاهتمام بالتأريخ، خصوصا بين القادة، إلى درجة أنه يهمل شؤون الحاضر والمستقبل ويبقى مهموما باحتمالات ما يكتبه التأريخ عنه!

وكثيرون آخرون يسعون جاهدين لمصالحة الحاضر مع الماضي، بل لجعل الحاضر نسخة مطابقة للماضي، إن أمكن، علما أن هذا المسعى متعذر الحدوث مهما بذلوا من جهد في هذا السبيل. وهناك جماعات تعيش في دول متقدمة لكنها تتمسك بأنماط وقيم الحياة القديمة وترفض كل جديد. أفرادها يرتدون أزياء تأريخية، غريبة على المجتمعات التي يعيشون فيها، ويمارسون نشاطات عفا عليها الزمن، بل إن بعضها منفر ومثير للسخرية.

لماذا يتوهم البعض بأن عليه أن يكون منسجما مع الماضي وأحداثه وأفكاره وقيمه وسلوكيات شخصياته وأنماط حياته البدائية؟ ولماذا يعتقد هؤلاء بأن الأجداد كانوا فعلا أفضل من الأحفاد؟ هل هي طبيعة بشرية أن يقدس المرء أجداده؟ فهذا النهج سائد، في بلدان عديدة، بدرجات متفاوتة طبعا، وليس فقط في بلداننا.

الكتابات الأكثر قراءة في صحفنا ومكتباتنا هي تلك المتعلقة بالتأريخ والتراث، حتى أصبح معظم كتابنا يهتمون بهما، كي يضمنوا عددا كبيرا من القراء لكتاباتهم، بدلا من مناقشة قضايا الحاضر والمستقبل ومعالجتها. وما أسهل الكتابة عن الماضي، فكل (المعلومات) متوفرة والآراء كثيرة والأشعار وفيرة والتحليلات لا حدود لها، ويمكن المرء أن يغترف منها ما يروي ظمأه، أو ظمأ من يعتقد بأنهم ظِماء له.

أما الحاضر والمستقبل فيحتاجان إلى دراسات معمقة وتحليلات تفصيلية مبنية على أسس رصينة واستشراف علمي مبني على أسس متينة. لذلك فإن الأسهل هو الحديث عن الماضي، الذي ألفه المتلقون واستساغوا أحداثه، وربما يتمنون أن تعود أحداثه بحذافيرها مرة أخرى، الأحداث التي قيل لهم إنها حدثت فعلا، ومعظمها مثاليات ومبالغات، وقد لا يكون لها أساس من الصحة، بل اختلطت في تأريخنا الأساطير بالحقائق، ولا يمكن غير المتخصص أن يفرز الحقائق من الأساطير.

ساسة وقادة كثيرون يمتنعون عن تبني سياسات نافعة لبلدانهم، خوفا مما يمكن أن يسجله التأريخ عنهم، فهم يعيشون هاجس التأريخ في كل يوم وكل لحظة، خصوصا عندما يواجهون قرارات مصيرية تؤثر على مستقبل بلدانهم وشعوبهم.

الهوس الذي يتلبس البعض عما يمكن أن يسجله التأريخ عنهم يدفعهم لأن يتشددوا في مواقفهم وأن يتخذوا مواقف طوباوية بعيدة عن الحكمة والحنكة والمصلحة، مع علمهم أن التشدد يلحق أضرارا ببلدانهم وأنفسهم، وكل هذا من أجل ألا يكتب التأريخ أنهم تنازلوا أو توصلوا إلى اتفاق لم يلحق الهزيمة المنكرة بخصومهم!

ولست أدري لماذا يهتم المرء بما يمكن أن تسجله كتب التأريخ عنه بعد موته، إن كان مقتنعا بصحة مواقفه وصواب أفعاله ونفعها لبلده وشعبه؟ ثم كيف يتضرر أو ينتفع الميت مما يُكتَب عنه، سلبا أو إيجابا؟ وكيف يمكن أن يتنبأ المرء بما يمكن أن يُكتب عنه في المستقبل؟

الكثير من أحداث التأريخ جرت في ظروف مختلفة، ولو أن القضايا نفسها تكررت في مراحل لاحقة، لتعامل معها المعنيون بشكل مختلف، ولقدموا حلولا أخرى، وإنْ حدثت مثيلاتُها في المستقبل، وهذا شبه مستحيل، فالتأريخ لا يعيد نفسه كما يردد البعض، والناس يتعلمون من دروس الماضي في العادة، فإن معالجاتها ستكون مختلفة، بل لابد أن تكون مختلفة، لأن الأحداث والظروف والإمكانيات ستكون مختلفة.

الهوس بالتأريخ والخوف مما سيكتب في كتبه غير مبرر، إذن، أولا لأنه لا يكرر نفسه، وثانيا لأن الأموات لا يتأثرون بما يُكتب عنهم البتة، ولن يعلموا به. من هنا، على المرء أن يعمل ما يراه مناسبا ونافعا في وقته، دون الاهتمام بما سيقوله المؤرخون عنه وعن غيره، فهذا الأمر متروك لهم وحدهم، وهم قد يحللون موقفه الذي يعتبره هو مناسبا ووطنيا، بأنه ضار بمصلحة البلد أو متخاذل وخاطئ.

يمكننا أن نستمد العبر ونتعلم الدروس من التأريخ، بل يجب علينا أن نفعل ذلك كي نتجنب الأخطاء التي وقع فيها السابقون، ولكن يجب ألا نخشاه، وألا يكون هاجسا يقض مضاجعنا دائما، وألا نولع بأحداثه ونعتبرها مثالا يحتذى بها. هناك الكثير من الأحداث كُتبت بطريقة قصصية بحيث تكون مشوقة وجميلة، لكنها في الغالب لم تكن كذلك، خصوصا إذا تعلق الأمر بالتأريخ القديم.

الكثير من أحداث عصرنا الحاضر ما تزال غامضة، رغم كل ما توفر لنا من وسائل اتصال وتواصل وإعلام، مصورة ومرئية ومسموعة ومكتوبة، ووسائط نقل سريعة، وما اكتسبناه من علوم ومعارف وما ابتكرناه من وسائل التحقيق وأدوات التحليل. فإن كانت أحدث الحاضر غامضة وفيها رؤى مختلفة، فكيف نتوقع أن تكون أحداث التأريخ القديم صحيحة أو دقيقة؟

هناك الكثير من المآسي والكوارث التي حصلت في التأريخ والمطلوب أن نتجنب تكرارها، وهذا هو بالضبط المقصود من عبارة (تعلم الدروس والعبر من التأريخ)، ولكن يجب أن نهمل الأحداث التي تعرقل حياتنا المعاصرة، أو غير المنسجمة معها. يجب أن نعيش حياتنا بمعزل عن أحداث الماضي، وما كان صالحا أو طالحا فيه، فالحاضر دائما مختلف عن الماضي، والمستقبل مختلف عن الحاضر، ومصلحتنا تقتضي أن نعيش الحاضر ونتطلع دائما إلى مستقبل أفضل.

التأريخ مجرد سجل متخيل، في أكثر الأحيان، لأحداث وقعت، وتحليلات لمسبباتها، وهي تختلف باختلاف قناعات المؤرخين ودوافعهم السياسية والشخصية، فقلما تجد مؤرخا محايدا يتوخى الدقة والحقيقة ومجردا من الأهواء والانحيازات، وإن وجد مثل هذا المؤرخ، فإنه قد لا يتمكن من الوصول إلى الحقائق جميعها. وهناك أيضا فارق الزمن، فكثير من المؤرخين يفكرون حسب ما تمليه عليهم ظروف الزمن الذين يعيشون فيه، وثقافته وأدواته، فلا يمكن المؤرخ، حتى وإن حاول جاهدا، أن يفكر حسب ظروف الزمن الذي وقعت فيه الأحداث. نعم بإمكانه أن يستخدم القرائن ويحلل الخطاب السائد حينئذ، ويستنتج منه بعض المعلومات، لكنه يبقى يفكر حسب قناعاته وخبراته ومشاعره ومعارفه الحالية.

لا أقول إن الوصول إلى الحقائق التأريخية غير ممكن، ولكنه صعب جدا ويحتاج إلى قدرات وخبرات ومعارف استثنائية. ومن هنا لا يمكن ضمان أن ما يكتبه المؤرخون سيكون إيجابيا أو سلبيا في أي موضوع، وإن بدا لغيرهم سهلا وواضحا. المؤرخون يكتبون الأحداث بعد انتهائها كليا، عندما تتضح النتائج وتُعرف التفاصيل ويدلي الشهود بدلوهم في الأحداث، وفي أكثر الأحيان، يكتبونها في أزمان بعيدة عن الزمن الذي وقعت فيه، ما يجعل الاقتراب من الحقيقة أكثر صعوبة. والكثير مما نسميه أحداثا هو في الحقيقة تحليلات وتخيلات، خصوصا فيما يتعلق بالتأريخ البعيد، فليس هناك شهود أحياء يمكن المرء أن يسألهم، وقد لا تكون هناك مدونات وافية قد تناولت كل الظروف المتعلقة بتلك الأحداث.

الكثير من أحداث التأريخ تضر المجتمع المعاصر إن أصبحت في متناول الجميع، والواجب يحتم عدم الخوض فيها، والأفضل تركها للمؤرخين. بعض البلدان، نقلت سجلات مرحلة ما من تأريخها إلى أماكن نائية ووضعت حولها حراسا كي لا يطلع عليها الناس العاديون لأن معرفتها ستجعل الناس يتحاربون فيما بينهم، وهذا بالضبط ما حصل في رومانيا بعد سقوط تشاوشسكو عام 1989، إذ خشيت الحكومات التي أعقبت تلك المرحلة من أن يحصل اقتتال وحرب أهلية إن اطلع الناس على سجلات جهاز الأمن الرهيب (سكيوريتاتا).

الكثير من الحروب وأعمال العنف جرت في التأريخ، ومثل هذه الأمور يجب أن تبقى حبيسة كتب التأريخ ولا تكون متداولة بين الناس العاديين لأنها تؤجج مشاعر الكراهية والثأر بينهم. الشاعر الإيطالي أدواردو سانغوينيتي قال ذات مرة “لو ظل الفرنسيون يفكرون بـ «ليلة سان بارثالميو« (وهي مجزرة حدثت عام 1572)، لما توقفوا عن قتل بعضهم بعضاً حتى الآن”، وهنا تكمن خطورة الخوض في التأريخ. بعض المجتمعات في الشرق مازالت تجتر أحداثا تأريخية دامية وتتخذ مواقف مبنية على تلك الأحداث، رغم أنها وقعت قبل مئات أو آلاف السنين.

هناك ضرر كلي يقع على المجتمع إن استمر اجترار أحداث الماضي والتفكير بها، واتخاذ مواقف معاصرة متأثرة بها. يجب نبذ الكثير من أحداث التأريخ التي تسيء إلى شعوب وثقافات وأديان ومذاهب أخرى، وعدم التذكير بها، من أجل الوئام والسلام والتعايش بين الشعوب، والتي تتطلب التسامح ونسيان الماضي. إن كان مستحيلا تغيير الماضي، فإن بالإمكان صنع المستقبل، وهو أهم كثيرا من الماضي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here