دراسة وتحليل كيف ان الحرب الروسية على اوكرانيا على المنطقة العربية

دراسة وتحليل كيف ان الحرب الروسية على اوكرانيا على المنطقة العربية

جسار صالح المفتي

تحمل الحروب عادة أزمات متنوعة لا يتوقف تأثيرها على القوى الفاعلة في الحرب ميدانيا، وإنما يتعداها لتطال الدول التي تربطها مصالح وشراكات مع الدول المتحاربة، وفي ظل طبيعة النظام العالمي الراهن، والتشبيك الحاصل فيه على المستويات الاقتصادي والسياسية وحركة التجارة والسلع والمواصلات، مع العولمة التي أصبح فيها العالم، أشبه بسوق كبير، انهارت فيه الحدود بين الدول والمجتمعات.

بل إن دور الدولة فيه قد ضمر لصالح الشركة والسوق، في سياق يستبد فيه الاستهلاك بنمط العيش الراهن، أو البراديغم الجديد، مما جعل من الاقتصاد والعقوبات الاقتصادية آلية وإستراتيجية بديلة للردع، والذي فضلته الولايات المتحدة الأميركية والغرب ضد روسيا. وسواء الحرب المباشرة وما تحمله من تأثيرات جيوسياسية واقتصادية كما رأينا مع تركيا، أو إستراتيجية الردع الاقتصادي والعزل عن النظام المالي العالمي والعقوبات بديلا عن الحرب التي قد تكون ذات طابع نووي بفعل الترسانة النووية المدمرة التي تملكها العديد من القوى والدول، فإنها جميعا تحمل انعكاسات سلبية في معظمها على النظام العالمي برمته، وبالأخص على العالم العربي الذي يرتبط بالسوق الأوكرانية والروسية معا لتحقيق أمنه الغذائي.

فكيف ستؤثر الحرب على الأمن الغذائي العربي؟ وهل يمكن أن تسفر الحرب الراهنة عن الخروج من القطبية الواحدة والاتجاه نحو تعدد في الأقطاب؟ وهل يعكس التردد في الموقف العربي من الحرب رؤية لمستقبل ما بعد الحرب وفعالية تستعيد فيها الدول حضورها المؤثر والفاعل في التحالفات الإقليمية والدولية بما يضمن مصالحها وقضاياها المصيرية؟

الدول العربية في مقدمة دول العالم التي تعتمد على القمح الروسي والأوكراني الذي يوفر حوالي ربع احتياجات العالم، لا سيما أن تكلفته منخفضة مقارنة بالولايات المتحدة وفرنسا وكندا والأرجنتين وغيرها من الدول التي يمكن أن تسد الخصاص الحاصل في أكثر من بلد

الحرب الروسية على أوكرانيا ومعضلة الأمن الغذائي العربي

تهيمن روسيا وأوكرانيا معا على إنتاج حوالي ربع احتياجات العالم من القمح، أي حوالي 55 مليون طن، مما يبرز طبيعة الأزمة التي ستنتج عن الحرب الدائرة رحاها بين الدولتين، وتأتي معظم الدول العربية في مقدمة الدول التي تسد احتياجاتها بالقمح الروسي والأوكراني، بحيث تعتمد كل من من مصر وتونس والإمارات على القمح الروسي، فتبلغ نسبة الاعتماد التونسي على القمح الروسي حوالي 60%، بينما في مصر تصل حوالي 80%. فيما يعتمد المغرب على البلدين معا، بحيث تزوده روسيا بحوالي 10.5%، وأوكرانيا بحولي 19%، فيما تعتمد السودان على روسيا بحوالي 46%، واليمن بـ31% من روسيا و 6.8% من أوكرانيا، في حين تستورد تونس حوالي نصف احتياجاتها من القمح من أوكرانيا.

ويظهر من الأرقام والنسب السابقة لبعض الدول العربية، أن الدول العربية في مقدمة دول العالم التي تعتمد على القمح الروسي والأوكراني الذي يوفر حوالي ربع احتياجات العالم، لا سيما أن تكلفته منخفضة مقارنة بالولايات المتحدة وفرنسا وكندا والأرجنتين وغيرها من الدول التي يمكن أن تسد الخصاص الحاصل في أكثر من بلد والذي قد يكلف الاستقرار الاجتماعي بفعل ندرة المخزون من الحبوب بالتزامن مع ارتفاع الأسعار، مما يثقل كاهل الطبقات الاجتماعية الهشة التي يتشكل منها الحيز الأكبر للهرم السكاني للمجتمعات العربية، ويرفع تكلفة العيش للطبقة الوسطى التي تعد ضامنة للاستقرار السياسي والاجتماعي، فيزيد من تآكلها واضمحلالها.

إذا استثنينا ما تحمله الحرب وارتفاع أسعار البترول من عائدات مرتفعة للدول العربية النفطية، فإن معضلة الأمن الغذائي تبدو في حقيقتها، إحدى أهم الانعكاسات السلبية للحرب الراهنة على العالم العربي الذي يرتبط بالسوق الأوكرانية والروسية لتأمين نسب مهمة من احتياجاته، وما يثير القلق أن منظمة الأغذية والزراعة “فاو” التابعة للأمم المتحدة، قدمت في تقريرها الأخير، بخصوص حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم 2021 أرقاما مريبة عن انعدام الأمن الغذائي المعتدل والشديد، إذ “لم يتمكّن حوالي شخص واحد من بين كل 3 أشخاص في العالم (2.37 مليار شخص) من الحصول على غذاءٍ كافٍ في عام 2020، ما يمثّل زيادة بنحو 320 مليون شخص في سنة واحدة فقط” حسب التقرير، ومن هؤلاء “عانى حوالي 12% من سكان العالم من انعدام الأمن الغذائي الشديد في عام 2020، ما يمثّل 928 مليون شخص، أي ما يزيد على 148 مليون شخص قياسا إلى عام 2019″، وهي أرقام موزعة على كل ربوع العالم، لكن دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، تأتي في المقدمة، وفيما يخص حال الدول العربية، فإن آسيا الغربية وأفريقيا الشمالية تفاقم فيهما عدد الذين يعانون من النقص التغذوي من 34.4 مليونا سنة 2005 إلى 59.7 مليونا سنة 2020.

يمكن تصنيف موقف غالبية الدول العربية، بأنه موقف محايد بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا، وإذا استثنينا سوريا -بشار الأسد- التي عبرت عن دعمها لروسيا، فإن معظم الدول العربية نأت بنفسها عن الانخراط في موقف مؤيد لأحد الأطراف

في الواقع تقدم لنا المعطيات الواردة في التقرير، وما يمكن أن يتلمس في واقع المجتمعات والدول العربية بخصوص الأمن الغذائي، أن هناك أزمة صامتة قد تنفجر في أي وقت، إذ يعد رغيف الخبز عنوانا سياسيا واجتماعيا عريضا قد يوجه الاحتجاجات المستقبلية، بحيث تشكل موجةُ ارتفاع الأسعار -مع اتساع قاعدة الهشاشة الاجتماعية وعجز الدول عن إدارة الأزمة بفعل الأزمة البنوية التي تعانيها النظم السياسية العربية السلطوية بطبيعتها وغياب إستراتيجيات يتحقق معها الاكتفاء الذاتي في الغذاء- عوامل ضغط تنذر بتوترات واضطرابات اجتماعية وسياسية كبرى.

إن حال الأمن الغذائي في العالم العربي تعيد للأذهان، أحقية السؤال عن السياسات الزراعية، بحيث جنحت العديد من الدول العربية إلى إعطاء أولوية للمنتجات الموجهة للتصدير بالعملة الصعبة، من فواكه وخضراوات على حساب القمح وغيره من المواد الضرورية، والتي اتضح مع الحرب الراهنة وما نتج عنها في ارتفاع أسعار القمح، أن الدول العربية رغم ما تتوفر عليه من إمكانيات تحقق لها الاكتفاء في هذه المنتج الحيوي، أصبحت رهينة لما ستسفر عنه حروب بعيدة عنها من حيث الجغرافيا، لكنها قريبة من معيشها اليومي، مما يعني أن الحاجة ملحة على المديين المتوسط والبعيد إلى وضع استراتيجيات زراعية بديلة يتحقق معها الاكتفاء الذاتي، وانتاج الغذاء وفق سياسات وطنية، بما ينأى بها عن الارتدادات والانعكاسات التي تتولد من رحم الحروب والأزمات في ظل نظام اقتصادي عالمي متشابك ومهيمن عليه، هو في حقيقة الأمر وجه من أوجه الاستقلال، التي لا تختلف عن الأوجه الأخرى التي تتحقق معها السيادة.

حول طبيعة الموقف السياسي العربي من الحرب الروسية على أوكرانيا

يمكن تصنيف موقف غالبية الدول العربية، بأنه موقف محايد بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا، وإذا استثنينا سوريا -بشار الأسد- التي عبرت عن دعمها لروسيا، فإن معظم الدول العربية نأت بنفسها عن الانخراط في موقف مؤيد لأحد الأطراف. وعلى الرغم من تصويت 15 دولة عربية لصالح قرار الأمم المتحدة الذي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا ويطالبها بالانسحاب منها، وامتناع كل من الجزائر والعراق والسودان وغياب المغرب، فإن ذلك التباين يظل شكليا.

لم يكن منتظرا أن تتخلف الدول المحسوبة على الحلف الغربي والولايات المتحدة الأميركية، أن تكتفي ببيانات عامة تعبر من خلالها على حل النزاع بالوسائل السلمية واحترام وحدة أراضي الدول أو غير ذلك مما تم التصريح به، كما هو حال المغرب ودول الخليج، كما يعتبر موقف الجزائر والعراق والسودان بالامتناع عن التصويت، تجنبا لإغضاب الغرب والولايات المتحدة الأميركية، والمواقف الحذرة لكل الدول العربية ترتبط في حقيقة الأمر بطبيعة مصالحها المتشابكة مع كل من روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة، ثم من جهة ثانية للدور الروسي الذي أضحت تقوم به في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وعدم فاعلية الولايات المتحدة والغرب في دعم قضاياها الإقليمية، بالإضافة عدم وضوح مآلات الحرب وما يمكن أن تسفر عنه.

ويشكل عنصر الطاقة والغاز والحبوب، أحد الجوانب التي تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية للعرب مع روسيا، التي أصبح لها دور محوري في سوريا والأذرع المرتبطة بإيران في المنطقة، مما قد يهدد أمن مجموعة من دول الخليج، وأي موقف اصطفاف ضدها قد تكون له تبعات مكلفة لتلك الدول، لا سيما أن السعودية والإمارات معا قد تعرضتا لهجمات متكررة من جماعة الحوثي. والأمر نفسه في شمال أفريقيا، حيث ينشط مرتزقة فاغنر في ليبيا ومالي، وهو ما يضر بمصالح دول شمال أفريقيا، ونذكر قضية الصحراء المغربية كمثال بالنسبة للمغرب، الذي يمكن أن يؤدي استصدار موقف صريح ضد الغزو الروسي في سياق لم تتضح فيه مآلات الحرب، إلى خلق توتر مع روسيا الدائمة العضوية بمجلس الأمن، والتي يمكن أن تقدم نوعا من الدعم لجبهة البوليساريو الانفصالية في تندوف. لذلك جاءت المواقف العربية حذرة ولو مؤقتا، مما قد يوفر لروسيا ملاذا لها في ظل العقوبات التي طالتها، لا سيما أن دولا أخرى من الجنوب اتخذت المسار نفسه بخصوص الموقف من الغزو الروسي لأوكرانيا.

في الواقع ليست تلك الاعتبارات وحدها التي جعلت المواقف العربية على هذه الشاكلة، إنما نهجها في العقد الأخير على تشبيك مصالحها مع مختلف القوى الدولية المؤثرة، بسبب التراجع الحاصل للدور الأميركي في الشرق الأوسط، والفرنسي في أفريقيا، وفعالية قوى دولية وإقليمية أخرى في المنطقة.

ختاما: تحمل الحرب الروسية على أوكرانيا كما اتضح انعكاسات وتأثيرات على المنطقة العربية، بعضها ذات طابع اقتصادي يعود بالنفع على الدول النفطية، والبعض الآخر اجتماعي محض ذات صلة بالأمن الغذائي، مما قد ينتج عنه بالتزامن مع غلاء الأسعار، جملة من التوترات الاجتماعية في المستقبل في الدول غير النفطية، أما من الناحية السياسية فإن الموقف العربي وموقف مجموعة من دول الجنوب عموما، لا ينفصل عن التحولات الحاصلة في النظام الدولي، وهي تحولات وإن لم تكن بطابع جذري يمكن أن تنهي هيمنة القطب الواحد على النظام العالمي وتفتح الباب أمام تعددية الأقطاب والقوى، فإنها تعيد صياغة طبيعة الصراع الذي أضحى فيه العنصر الاقتصادي أحد أدوات الردع بعيدا في مواجهة الحروب الكلاسيكية، مما يسمح بنوع من التباين في المواقف -كما ظهر مع تركيا التي تعد أهم الدول في حلف الناتو- بخصوص العقوبات الاقتصادية، أو بمواقف الدول العربية على غير عادتها، بحيث اختارت الصمت أو الحديث المحتشم لطبيعة الأثر الذي ستخلفه الحرب عليها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.

وبكلمة، فإن الحرب الروسية على أوكرانيا رغم بعدها جغرافيا عن المنطقة العربية، فإنها كشفت الأعطاب التي خلفها النظام السياسي العربي على مدى عقود بفعل عدم تحقيقه استقلالا ذاتيا، في الأمن الغذائي كما هو الحال مع باقي المجالات التي تعد الدول العربية رهينة خيارات لا تسهم في صياغتها، بل يمكن القول -بالنظر لعدة أسباب تاريخية وسياسية واجتماعية- إنها في ظل الشروط الراهنة وطبيعة الأسس التي ترتكز عليها سياسات هذه الدول، وافتقادها للشرعية وللمشروع الوطني الديمقراطي ولسلطة القانون وآليات الحكامة في التدبير، ستبقى عاجزة عن تحقيق أبسط المتطلبات التي تحول بين شعوب منطقة غنية بثرواتها ومساحاتها الجغرافية الكبرى، وبين هزات اجتماعية قد تكون بسبب الرغيف والقمح وغلاء الأسعار، وإذا كان الوضع كذلك، فكيف بانخراطها الفعال بما يحمي مصالح دولها وشعوبها في سياقات دولية مشتبكة. لذلك فإنه بدون ديمقراطية ودولة الحق والقانون، سيظل العرب على هامش حركة التاريخ غير مؤثرين في صياغة ملامح تشكله، وسيكونون أول من تصيبهم ويلات الحروب والأزمات ولو كانت بعيدة عنهم جغرافيا، وآخر من يتحقق لهم الوعي بأهمية الاستقلال والتقدم بأبعاده المختلفة.

منذ انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي لم يشهد النظام العالمى الذي مرّ بتحولات استراتيجية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أزمة بعمق وحدّة الأزمة الروسية الأوكرانية الراهنة. والحقيقة فان هذه الأزمة ليست حدثاً مفاجئاً ولا هي وليدة الساعة ، إذ تعود جذورها الى حقبة الإتحاد السوفيتي الذي اعتمد في تشكيل جمهورية أوكرانيا على عوامل متعددة بعضها طبقية وبعضها اثنية حيث يسكن البلاد أوكرانيون وروس وقوميات قليلة أخرى، مما ترك فيها أسباباً عميقة لعدم الإستقرار الداخلي. إلا أن قوة وموارد الدولة السوفيتية في حينها ساهمت في ضمان الوحدة الداخلية للبلاد .

وبعد تفكك الإتحاد السوفيتي نالت أوكرانيا استقلالها، حيث سادت ولفترة زمنية معينة علاقات مستقرّة بينها وبين دولة روسيا الاتحادية. إلا أنها داخليا، لم تحظ بالاستقرار المنشود، فقد بقيت تتجاذبها عوامل متضادة . فمن جهة تطلع فيها البعض وخاصة من جيل الشباب الى تحقيق نمط الديمقراطية السائد في الغرب، والخروج من الحقبة الشمولية التي سادت أبان الفترة السوفيتية. وبالمقابل يرى الآخرون أن الدولة الأوكرانية لم تحقق في ظل الديمقراطية الجديدة المزعومة الرفاه الإقتصادي والتنمية الموعودة. يضاف

إلى كل ذلك استمرار التجاذبات الأثنية والعرقية التي جمعها العهد السوفيتي لتزيد من عدم استقرار أوكرانيا بعد الاستقلال.

يعتبر الكثيرون ان العام 2014 هو البداية الهامة للأزمة الحالية، حيث حدثت اضطرابات داخلية مناهضة للرئيس الأوكراني حينها فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا والتي أدت إلى عزله. ثم تطورت الأمور وأفضت الى اندلاع اضطرابات معاكسة في شرق البلاد التي تشمل المناطق الناطقة باللغة الروسية، و حدوث تطورات أدت إلى قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم ودعم إنشاء جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين .

وفي سعيها لتحقيق ما اعتقدته حكومة أوكرانيا ضمانة للإستقرار السياسي والأمني ، عملت على الإنضمام إلى حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) ، مما فاقم المشكلات موصلاً بها إلى حدود خطيرة، باعتبار ان التوسّع بوجود قوات الناتو في أوكرانيا، وخاصة نشر أي صواريخ بعيدة المدى قادرة على استهداف المدن الروسية، هو بمثابة “خط أحمر” بالنسبة لروسيا لأنها تُشكِّل تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي، مما أدى إلى تفجير الأزمة وعلى نطاق واسع وخطير.

ولا نريد في هذا المقال الخوض في تفاصيل الأسباب وتطورات الأزمة اليومية، ولا في مكامن قوة أطراف الصراع أو الجوانب الأخرى له، ولكن ما يهمنا هنا هو علاقتها بالأمن القومي العربي. فما هي أهم جوانب تلك العلاقة ؟

التداعيات على الأمن القومي العربي :

على الرغم من بعد المسافة الجغرافية بين مسرح العمليات في أوكرانيا ووطننا العربي، إلا ان تداعيات تلك الحرب على أقطارِنا العربية لابد وأن تلقي بظلالِها الثقيلة عليها إن آجلاً أم عاجلاً . وعلى الرغم من أن معظم الدول العربية تبدو حتى الساعة غير معنية بتلك الحرب بقدر كبير، إلا ان

خطورة وتسارع الأحداث تشير إلى أنه لابد لها من ذلك وبأسرع وقت . وذلك لما تنطوي عليه التداعيات من مخاطر وتحدّيات نوجِز بعضاً منها فيما يلي:

1- إزدياد الحاجة الى الطاقة سواء النفط أوالغاز مما أدى إلى ارتفاع أسعارهما حيث تخطى سعر برميل النفط المائة دولار. وهذا يفضي إلى احتمالات دعوة بلدان المنطقة المنتجة للنفط والغاز لتغيير معدلات إنتاجها أو الضغط عليها لتصدير كميات منها لتلك الدول المتأثرة جراء هذه الحرب. بمعنى إن تطورات الحرب ومآلاتها قد تجعل الغرب والولايات المتحدة في مقدمته، تضغط باتجاه دعم الإنتاج وزيادته. ورغم الفائدة المادية التي تعود من جراء هذا الجانب على الدول العربية المنتجة، إلا إن ذلك له انعكاسات إقتصادية أخرى في الوقت نفسه ، سواء على دول المنطقة كما على العالم، متمثلة في مخاطر التضخم من جهة، أو بالتدخل للمطالبة بتلبية أو منع وصول النفط إلى بعض الدول، مما يعني الإنغماس في تقاطعات الاستراتيجيات العالمية وتبعاتها .

2- ان إيران الموجودة في الإقليم والتي تزعم العداء للغرب وترفع شعارات تصدير “الثورة”، يربطها تحالف استراتيجي مع الصين و روسيا منذ زمن ليس بالقصير. وهي تنفذ مشروعها الاستعماري في العراق و سوريا ولبنان واليمن. وما فتئت تطعن بالخاصرة العربية عبر مشاطئتها لأقطار الخليج العربي ومحاولاتها المستمرة للعبور إلى ضفة الخليج المقابلة منذ احتلالها الجزر الإماراتية الثلاثة، والتي تعدتها إلى مد نفوذها لليمن عبر الحليف الحوثي، وزج (حرسها الثوري) في العراق وتحويله إلى قاعدة إيرانية متقدمة لتطويق دول الخليج انطلاقاً من العراق واليمن، كما فعلت باستهداف المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، والتصدي للملاحة في الخليج العربي وغير ذلك من الممارسات العدوانية لترسل رسالة تهديد مباشر للعرب بأن لها أذرع تصل إليهم متى شاءت.

3- على العرب الإنتباه إلى أن إيران تسعى اليوم للإستفادة من إنشغال العالم بالأزمة الأوكرانية كي تمدد فترة التفاوض في ملفها النووي في فينا وذلك لكسب المزيد من الوقت والإستمرار في تخصيب اليورانيوم ، في إطار سعيها لإمتلاك السلاح النووي. وكل ذلك على مرأى ومسمع من الكيان الصهيوني الذي تشكِّل ايران اليد الضاربة له في الوطن العربي بسياستها العدوانية والتقسيمية الطائفية والتهجير والتغيير الديموغرافي واشاعة الفساد ونهب الموارد وغيرها، لذا نجده لم يتوقف عن تهديده المستمر المزعوم بضرب المنشات النووية الإيرانية. ذلك التهديد الذي لا يمثل في حقيقته أكثر من مجرد كلام لذر الرماد في العيون ، فهو يشبه إلى حد كبير مواقف الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كيمون ، الذي كان يكتفي بالإعلان عن ” قلقه ” أزاء أي حدث جسيم يهتزّ له العالم.

لذا فان التصدي لحقيقة تطورات ما يجري من مباحثات فينا مع إيران هو أمر يقع في صلب الأمن القومي العربي وبالتالي فإن المطلوب هو العمل العربي الحثيث للضغط على المجتمع الدولي للحيلولة دون بلوغ إيران أهدافها النووية المدمرة ، ومنع أن يكون أي اتفاق بينها وبين الغرب على حساب العرب من خلال إطلاق يدها لاستكمال مشروعها الإحتلالي في الوطن العربي. ذلك المشروع الذي يشكل إستمرار احكام احتلالها للعراق حجره الأساس، باعتباره نقطة الإرتكاز الأساسية التي يستند عليها وينطلق منها هذا المشروع نحو الأقطار العربية الأخرى.

4- إن التطورات الأخيرة وتبعاتها تقتضي سياسة عربية في غاية الحيطة والحذر لمنع زج الأقطار العربية في صراعات بينية ودفعها لمحاربة بعضها البعض. فالعكس تماما هو المطلوب لحماية الأمن القومي العربي ألا وهو السعي للتخلص من بؤر الصراع أو التنافس، وغلق ملفات الفرقة والتناحر حتى وإن اقتضى ذلك التنازل لبعضها البعض في بعض الملفات.

5- على ان ما يعنينا في الأمر بالدرجة الأولى كعرب قبل هذا وذاك هو التساؤل المشروع التالي :

(( كما استُنفِرَت روسيا للإنتصار لأمنها القومي، متى سيُستَنفَر العرب لصالح أمنهم القومي، وذلك بقيامهم بتحرير العراق من الإحتلال الإيراني القائم بكل مفاصله ؟ )) .

ذلك الإحتلال الذي يهدد أمن الأمة العربية بالصميم لأنه يتخذ من العراق القاعدة الأساسية لانطلاق المشروع التوسعي لولاية الفقيه في الوطن العربي والذي اجتاح لحد الآن بعد العراق، سوريا ولبنان واليمن وهو في امتداد وتغلغل مستمر بقواه ” الناعمة ” وغير الناعمة إلى أقطار أخرى.

ان دعم الدول العربية للحركة الوطنية العراقية المناهضة للإحتلال الإيراني هو ليس انتصار للعراق والعراقيين ، وانما هو إنتصار للأمن القومي العربي وحماية له ، تلك الحماية التي لا يستطيع أي حليف أجنبي أن يقدمها مهما بلغت الوعود التي يغرقها البعض للدول العربية حتى لو دفعت له كل أموال الكرة الأرضية ثمناً لتلك الحماية .

فالأمن القومي يأتي من الذات نفسها، أي من الداخل المحصَّن بوجه كل المنافذ والأبواب التي يدخل منها هذا النفوذ الإيراني مستغلاً الرخاوة والضعف والتساهل العربي، حتى استفحل وتغول في الساحة العربية.

والداخل الأساسي هنا ، والذات الحقيقية هي ليست سوى العراق الذي من واجب العرب تحصينه ، من خلال تحريره الحاسم واعادته حراً، منيعاً الى أمته العربية . وليس إسناد هذا الطرف أو ذاك في ما يسمى بالعملية السياسية الإحتلالية التي لم تجلب للعراق ولا للعرب سوى الفساد والخراب، والتي فتحت أبواب العراق مشرّعة لاندفاع المشروع الايراني الى العمق العربي.

فالعراق هو البوابة العملاقة التي يدخل منها النفوذ الايراني لينتشر ويتوسع في أرض العروبة، وغلق هذه البوابة بوجهه واعادتها منيعة حصينة، هو الضمانة الوحيدة لتحقيق أمن قومي عربي مستتب.

ولا يتحقق ذلك إلا من خلال قيام الدول العربية باستنفار نفسها لدعم أمنها القومي من خلال إسناد الحركة الوطنية التحررية العراقية. فإلى متى يبقى العرب يتفرجون على الأمم من حولهم وهي تُستفز وتثب وثباتها الكبرى مستميتة في دفاعها عن أمنها القومي، وهم يتفرجون على بوابتهم الشرقية مفتوحة مشرعة على مصراعيها، وحراسها الحقيقيون من أبناء الحركة الوطنية العراقية والذين هم حراس الأمن القومي العربي الأصلاء ، يذبحون على محراب العروبة وليس لهم من نصير ؟؟.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here