العودة الى عالم العقل!

العودة الى عالم العقل!

نبيل عودة

– ما هو التفكير السليم؟

طرح محاضر الفلسفة هذا السؤال، وهو يضع حقيبته اليدوية على المنضدة، وحتى قبل ان يجيل نظره بوجوه الطلاب في قاعة المحاضرات. وأردف:

– ما هي العقلانية؟

طرح السؤال الثاني ونظراته تجول على الأرض أمامه. تقدم خطوتين نحو الجهة اليمنى، بمظهر يبدو كأن فكره مشغول بقضية أكثر تعقيداً مما كشفه بسؤاليه، وهمس أحد الطلاب متسائلاً: “هل ينظر الى مقدمة حذائه؟”!!

السؤالان اللذان طرحهما المحاضر أعادا الطلاب بسرعة الى أجواء درس الفلسفة، فحل الصمت والهدوء، وانتظم الجلوس، واستعد كل طالب بقلمه ودفتر ملاحظاته، والبعض شغّلوا المسجلات ـ ليبقى ذهنهم متيقظاً للمحاضر.. وقال طالب اسمه فؤاد بصوت خافت: “ما باله يتصرف بغرابة.. حتى بدون تحية صباح الخير اليوم؟”.

استدار المحاضر الى الجهة المعاكسة، وخطى بضع خطوات وهو في نفس وضع النظر الى مقدمة حذائه، وعندما حاذى اللوح الأبيض في وسط الحائط وراءه، استقام دائراً نحو اللوح، وكتب بقلم التوش الأسود بخط كبير، وبمنتصف اللوح: RATIONALISM”.

بعدها التفت الى الطلاب في القاعة، نظر في وجوههم، وابتسم ابتسامة كبيرة، وقال:

– صباح الخير.. اطمئن يا فؤاد لم انس تحية الصباح، وأيضا لم اكن أنظر لبوز حذائي، لا شيء فيه يستحق النظر، أشغلتني فكرة تتعلق بدرس اليوم.. أعتذر.. وآمل انكم قضيتم نهاية أسبوع جميلة. اليوم نعود الى عالم العقل. آمل انكم لم تتركوه في إجازة؟!

انطلقت ضحكات من مقاعد الطلاب، وواصل المحاضر، بعد ان جلس وراء طاولته، وعيناه كعيني الصقر تتفرسان بوجوه طلابه:

أصل الكلمة المسجلة على اللوح راتيو “RATIO” وتعني عقل أو بصيرة والبعض يفسرها قيمة، وهذا الاصطلاح “راتسيوناليزم” – يعني المذهب العقلي – للفرد يقال راتسيونالي – أي عقلاني، منطقي، اي الإنسان الذي يبني مواقفه على التفكير السليم، يجب ان يتحول لديكم بالأساس، الى قيمة قياسية للتفكير العقلاني.. وهو يعني ان الوعي والعقل هما مصدر المعرفة الأساسي، وليس التجربة والعمل والأحاسيس. بالطبع الوعي والعقل لا يتشكلان من الأفكار الزائفة التي ما تزال تقيد انطلاقتكم. اي بكلمات أخرى يجب ان تصلوا الى الإقرار بسلطة العقل، أي العقلانية، او المنطق العقلي، والقصد منه الموقف المبني على التفكير السليم. مثلا لو سألتكم ما الذي يجعلكم تتأكدون انكم أبناءٌ للجنس الإنساني؟ سؤال بديهي كما يبدو.. هل تظنون ان الشكل مقرر؟ وانكم على ما نشأ عليه آباؤكم؟ وهل الإنسان حالة مستقرة لا تتغير منذ جدنا آدم؟ وهل عقل طالب في الجامعة مثل عقل قبلي يعيش معزولاً عن كل ما هو تطور علمي ومدني في العالم والمجتمع؟ ليس كل ادعاء صحيحاً بمقياس الشكل فقط. هناك مسائل جزئية تجميعها يقودنا الى مسائل أكثر شمولاً. هل إنسان اليوم هو نفسه إنسان عصر الكهوف؟ هل المقياس هو شكلي فقط؟ الفلسفة اليونانية القديمة عرّفت الإنسان بأنه مواطن المدينة – الدولة، حسب أرسطو، وأقيم الحد بينه وبين الأشياء الخارجية، الأمر الذي مكّن من تجريد الإنسان، غير المواطن في المدينة – الدولة من مسائل ملموسة مختلفة. المسيحية تطرح طبيعة الإنسان بمعنيين، الجسد والروح. تعتبر البدن أصل الخطايا والآثام، وتركز على العالم الداخلي للإنسان، العالم الذي يكفل له الخلاص عبر الكثير من الفضائل وعلى رأسها الصبر والإيمان. فلسفات عصر النهضة التي أعقبت الرينيسانس أكدت على استقلالية الإنسان، ولا محدودية قدراته الإبداعية. اي صار العقل هو المقياس.. إذن، تعالوا نلخص ان الإنسان هو العقل، الا اذا شعر أحدكم ان هذا التلخيص يحرمه من صفات غير عقلانية، ليرفع أصبعه.. مثلاً عضلاته هي المعيار لكونه إنساناً؟ أفلاطون العظيم مثلاً، جرد الإنسان في جمهوريته من الكثير من الشمولية في الصفات والأدوار، وحدد أنماطاً لكل فئة إنسانية في جمهوريته، نمط الحكام، نمط الفلاسفة، نمط الحراس للحفاظ على عدم تجاوز الإنسان من نمطه المقرر الى نمط آخر.. أي إنسان أفلاطون ليس وحدة متشابهة. ولاحظوا ان التقسيم هنا يتعلق بالحالة المادية والفكرية والمكانة الاجتماعية، الغني لن يكون عاملاً. ربما يشتري الحكمة بأمواله، ويشتري السلطة بأمواله، او يشتري قيادة حراس النظام بأمواله، ويحصل على مكانته في نظام أفلاطون بقوة قبيلته.. لذا ليس بالصدفة ان جمهورية أفلاطون العادلة لم تكن الا نظاماً قمعياً يحافظ على الانقسام المجتمعي ويقيد الشخص بخانة معينة لا يمكن ان يغيرها. أي ببساطة ما يعرف اليوم بالنظام القمعي الديكتاتوري.

اذن ما هو الإنسان، او ما هو المميز الأهم للإنسان؟ انه العقل. الفلسفة تطرح العقلانية بصفتها أسلوباً في التفكير يقوم على الاحتكام على القدرات العقلية. حتى الذين لا يستعملون عقولهم لا يعرفون انهم لا يستعملون عقولهم، وسيوافقونني على كل كلمة أطرحها حول العقل، لأنها لا تعني لهم الا مواعظ وإرشادات. آمل انكم مختلفون وتجاوزتم تلك المرحلة..

طبعا قدراتنا العقلية مختلفة. ولكني أّدعي اننا جميعاً قادرون على تدريب العقل على التفكير المجرد من التأثيرات الغير عقلانية. مثلا لو ظن أحدكم انه الإسكندر المقدوني؟ من سيصدقه؟ هذا الظن سيظل معزولاً ولا يجد من يدعمه، سيظل صاحبه وحيداً في ظنه، وقد يرى به الناس فاقداً لعقله. او لنفترض ان أحدكم ظن انه تجاوز محمود درويش شعرياً، لأنه نشر قصيدة او أكثر.. ويشعر انه متمكن من اللغة ومن الأوزان الشعرية، والكل يشهد له، من أمه حتى خالاته وصولاً الى جداته اللواتي نسين القراءة والكتابة لطول المدة التي لم يقرأن فيها حرفاً… ومن أخيه الطفل ابن السادسة حتى جده شبه الخرف في ملجأ العجزة.. ومن صديقته التي يتبادل واياها الإشارات عبر النوافذ، حتى الناقد الذي يتصيد المغرورين، ويكتب نقداً مقابل أجرة، زد له الأجرة تحصل على مرتبة أكبر، ضاعفها تصبح طليعة الشعر، ضاعفها مرة أخرى يصبح محمود درويش متأثراً بشعرك قبل ولادتك وقبل ان تمسك القلم… مثل هذه القناعات يسهل إسقاطها رغم شهادة الناقد المدفوعة الثمن. ولكن تخيلوا خرافة تسيطر على ملايين الناس، مثل حكاية ظهور العذراء في مصر ثم في لبنان ومرة في الناصرة وأخرى في الرامة.. واحدة تدمع دماً وأخرى زيتاً من زيت الرامة الممتاز.. وأخرى تظهر مضيئة.. هل يمكن بالعقل وضع حد لهذه التخيلات؟

هذا وهم لا علاقة له بالإيمان ولا بنص الدين، ومع ذلك يشد الملايين، وتقوم مؤسسات لترعاه وتروجه، وخلال زمن طويل، يصبح بحد ذاته قوة مادية، تؤثر على ملايين الناس. وينسجون حولها قصصاً عن حدوث عجائب.. بالأساس شفاء من الأمراض، ولو حسبنا ان 20 مليون إنسان سحرتهم قصص ظهور العذراء في مختلف أنحاء الأرض، وشفي من مليون مريض جاؤوا خصيصا بطلب الشفاء 50 شخصاً.. ما هو المؤكِّد ان الشفاء كان بسبب ظهور العذراء؟ لماذا لا ننسب الشفاء الى الأدوية التي كانوا يبلعونها أيضا أثناء تعرضهم للعجيبة؟ لأنه من الناحية الإحصائية، العجيبة لم تشفِ الا عدداً ضئيلاً جداً من الناس، والطب قادر على إشفاء نسبة كبيرة جداً تزيد بمئات النسب، قد تصل الى 85% حتى من الأمراض المستعصية والقاتلة. أي من مليون شفت العجيبة 50، ولكنهم 50 ضمن العلاج الطبي، ولكن الطب يشفي 800 ألف حالة. اذن من نصدق؟ الطب، العلم، العقل.. أم الوهم والتخيل والخرافة؟

بالطبع هذه حالة قائمة في مختلف العقائد… ولا فرق بين مجتمع متقدم ومجتمع متخلف. بين إنسان متعلم او إنسان غير متعلم. للخرافة مؤسسات عظيمة القوة والتأثير تروجها وتنظم لها الطقوس، وتعطيها مصداقية. والزمن يجعلها أكثر ثباتاً وقوة، لدرجة ان محاولة نفيها من شخص، ينظر اليه بأنه غريب الأطوار وغير متزن.

والآن تعالوا نفحص قصة أخرى…

وصلتني رسالة قبل أسبوع، من دكتور في علوم التربية.. يقول فيها ان الرسام الذي رسم صورة النبي محمد، احترق ودفن سراً، وان الحكومة الدانماركية تخفي هذه المعلومة، وان مسلمَين يعيشان في الدانمارك اكتشفا الأمر بالصدفة، أثناء مرورهما بجانب المقبرة التي دفن فيها الرسام. إذ سمعا صراخه وعذابه من داخل القبر. ودعاني الدكتور المحترم لتوزيع هذا الخبر، لان توزيعه، كما يعتقد المحترم، يكسب موزعه أجراً كبيراً عند الله.. الى آخر هذه الكلمات التي يعرفها كل الناس غيباً..

هل عقلكم يشتري هذه الحكاية؟

انتبهوا: المرسل ليس شخصاً عادياً، دكتور في التربية… لا أعرف ماذا يربي.. لا تضحكوا.. في مسيرتكم التعليمية حشوا رؤوسكم بأوهام وخرافات لا تقل جنوناً عن رسالة دكتور التربية… حالته لست نادرة للأسف، بل هي السائدة. انتم اخترتم موضوعاً لا يقبل أحكاما تخيلية. تعالوا نفكر بعقلانية..

أسئلة كثيرة يطرحها هذا الخبر.. سأساعدكم على طرح بعضها.

لماذا مسلمان فقط اكتشفا ذلك، وفي دولة نسبة المسلمين فيها قليلة جداً؟

ألم يسمع عابرون آخرون، من الدانماركيين الذين يشكلون الأكثرية المطلقة من السكان، صراخ المسكين من القبر؟ أم خلا الشارع الا من الشخصين إياهما؟

ما الذي يؤكد ان الصراخ من القبر، اذا صح.. هو صراخ الرسام وليس صراخ كافر آخر؟

هل قال في صراخه انه فلان ابن فلان وانه يعاقب بسبب الرسم إياه؟

دفن سراً، كما تقول الرسالة… يعني لا توضع أية إشارة تشير الى قبره. او الى المقبرة التي دفن فيها. هل فحص الشخصان اللذان سمعا صراخه، حقيقة الصارخ، وكيف تأكدوا من شخصيته، ومن قبره ومن مقبرته؟

هل يحدث حقاً في العالم الذي نحياه، ان يصرخ الميت صراخاً مؤلماً يصعد من القبر ليسمعه الناس؟

بالطبع لا أطرح موقفي من الرسام وما قام به.. ليس هذا موضوعي ولا موضوعكم. موضوعنا ان نصل الى موقف من المعلومة التي يوزعها دكتور التربية.. وهو بالطبع يعترف انه تلقاها من آخرين، أي انه اشترى الحكاية وتحمس لها، لأنها وقعت في نفسه موقعاً حماسياً وقبلها عقله بدون فحص، وبدون تفكير وبدون منطق بسيط، كما تعود وهو طفل ولم يتغير رغم الدرجة العلمية في التربية. ويوزعها ليسكب أجراً عظيماً. هل هذا تصرف عقلاني؟

نحن هنا نواجه صراعا بين العقل وبين الخرافة.. بين الحقيقة وبين الوهم.. أليست معانقة الحقيقة خير من حكاية زائفة، من وهْم روجه مختلَّين، او ربما شخص لا علاقة له بالدانمارك ولا يعرف اذا كانت الدانمارك في أوروبا او شمال أمريكا؟ او شخص أراد إنجاز فكرة ما خدمة لما يظن وجوب حدوثه؟.. فاشترى الحكاية كل من اعتاد عقله على الآمال الزائفة وعلى الحقائق غير المثبتة، حتى لو كان دكتوراً في التربية او الاقتصاد او الفلسفة؟

الفلسفة أيضا لا تخلو من مروجي مواضيع لا منطق فيها ومنهم أصحاب أسماء معروفة.. ولكن الفرق ان الفلاسفة يفسرون ويحاولون طرح منطق لقناعاتهم، نقدها قد يكون سهلاً على المختصين، وسهلاً على كل إنسان طور قدرات عقلية مستقلة، لا تضلله الخرافات والقصص غير العقلانية.

لو قلت لكم اني اكتشفت دواء فعالاً يقضي على السرطان؟ وانا لا أفهم في الطب أكثر من استعمال الأسبرين لوجع الرأس. ماذا ستقولون عني؟

– سنقول الأستاذ فقد عقله.. انطلق صوت فؤاد. ابتسم المحاضر:

– لن ألبي لك هذه الأمنية يا فؤاد. نعود لموضوعنا، طرحت أسئلة، الجواب عليها يساعد على استخلاص موقف.. لكم حرية التفكير، لا ألزمكم بموقف، ألزمكم فقط بتقديم المبررات لمواقفكم..

– المنطق يقول ان المعلومة لا عقلانية.

ارتفع صوت من مقعد في وسط القاعة. بعد تردد وابتسامة خفيفة قال المحاضر:

– هذا استنتاج مبني على الإحساس.. أريدكم ان تبرروا بالتفصيل لماذا هو غير عقلاني.. لا أريد جوابكم اليوم.. أريد تبريراتكم.. ان تظهروا قدرات عقلكم على التحليل وطرح أسئلة الشك او مبررات صحة الحدث، والوصول الى جواب مبرر بمنطقكم. اتركوا ما أقوله لكم ولا تتأثروا بموقفي لإرضائي. ما يهمني. كيف تستعملون دماغكم. كيف تبنون حججكم. كيف نقرر ما هو عقلاني وما هو غير عقلاني بالاعتماد على التفكير المجرد. هذه هي قوة الفلسفة. وهذا هو أكبر تجلي لمفهوم ان تكون إنسانا بالمضمون والعقل، وليس بالشكل فقط، مع أهمية الشكل وعلاقته بالمضمون، وهو موضوع آخر لن نخوض فيه اليوم.

أجال نظره في الطلاب، وقال:

– ستجدون ان عدد الذين يصدقون دكتور التربية، أكثر بمليون مرة من الذين يرفضونها ويقولون انها غير عقلانية. لكن هذا المقياس لا يخصنا. لأنه يرتبط بسيطرة الخرافة على العقل بنسبة أكبر من سيادة العقل في جميع المجتمعات البشرية، وفي جميع العقائد التي ظهرت في التاريخ البشري، منذ بدأ الإنسان مسيرته مستقلاً عن سائر المخلوقات في الطبيعة.

طلابي الأعزاء، لا توجد أدوات لفحص العقلانية او اللاعقلانية مثل سماعة القلب مثلا.. او تصوير بالأشعة.. او فحص في مختبر الدم.. لنعرف مستوى الدهنيات والسكر وبالتالي هل يوجد عقل ام مجرد مادة خام غير مستعملة!

هنا تحتاجون الى تجرد كامل من التأثيرات الشعبية، او ما يسود الفكر الدارج في الشارع. التزموا بعقلكم الذي ينمو اليوم جديداً نقياً منفتحاً متحفزاً للنشاط… لا تخذلوا عقولكم. انتم أمام تحدٍّ.. اما ان تجتازوه، او تعلنوا استسلامكم وعودتكم الى الحظيرة الطافحة بالعقول الخاملة.

انظروا الى طاولتي.. ماذا ترون؟ حقيبة جلد سوداء؟ لا شيء آخر على الطاولة.. لو قلت انها ليست حقيبة بل لوحة شطرنج، لسخرتم مني حتى بدون تفكير.. ولو قلت لكم انها كتلة ذهب ربما تتهموني تلقائياً بفقدان العقل.

انفجر الطلاب بالضحك.. وضحك المحاضر. وانطلق صوت طالبة من المقاعد الأمامية.

– ما هي أدواتنا الأخرى عدا العقل لنثبت صحة او عدم صحة هذا الادعاء؟

– هناك حالات فحصها متيسر.. مثلا، عبر المناهج العلمية، التي تقوم على مبدأ الشك البناء، واستنتاجات العلوم هي وليدة العقل والمعرفة والمنطق. بينما حكاية الصارخ من القبر، قائمة على إسقاط القدرات النقدية والشك، وتحويل حكايات غير مثبتة الى حقائق لا يجوز التشكيك فيها. فحص حقيقة حقيبتي هي من الحالات البسيطة، من الصعب ان نفحص مسائل ذهنية تتحدث عن الخوارق، هذه لا يتيسر لنا فحصها باللمس والرؤية والفحص المخبري والشم والذوق والتحليل الكيماوي والمقارنة.. فقط بالبراهين العقلية والعلمية.

سألت الطالبة:

– كثرة المصدقين لحكاية الصارخ من القبر، ألا تشير الى إمكانية صحتها؟

– هذا جواب غير مبرر، ويعتمد على عقلك التاريخي المتواصل في سيطرته على ذهنك ومشاعرك.. دربي عقلك على التفكير، حتى بصراعك مع ذاتك، ومع ما تعتبريه حقائق لا يجوز التشكيك فيها. التفكير العقلي له اتجاه يقول ان الإنسان عبر المحاكمة الواعية، بعيداً تماماً عن سيطرة موروثاته العقلية، التي شكلت وعيه، وبعيداً عن العواطف التي قد تجر العقل الى الشلل والى موقف عاطفي غير مبرر، حتى لو كان بالصدفة صحيحاً، يجب ان يسعى الى تفسير الحدث وإقرار مدى عقلانيته، او مدى لا عقلانيته، بدون اعتبار لرأي الأكثرية السائد. الفلسفة هي نقيض الأفكار الفطرية الموجودة في أذهانكم حتى هذه اللحظة. ليس من السهل التخلص من الأفكار التي نشأنا عليها. وليس من السهل ان نستوعب الواقع الموضوعي الذي يتشكل خارج وعينا وخارج إرادتنا. يجب القطع بين العقل وبين النفسية الوضعية التي نشأنا عليها كلنا.

– من أين اذن هذه القوة الهائلة لما تسميها الأفكار غير المثبتة؟

– سؤال ممتاز.. قوة الأفكار، أية أفكار كانت، او التخيلات الوهمية، تحصل على قوة هائلة من المؤسسات القوية التي ترعاها وتروجها عبر ملايين الدعاة، وبتوظيف أموال هائل، وعبر صمودها التاريخي الممتد آلاف السنين الذي يعطيها مصداقية وقوة ليس من السهل مواجهتها، وأمامكم خياران، فإما ان تنطلقوا نحو المستقبل بوضع العقل كبوصلة للحياة، او تحصلوا على شهادة عليا بامتياز، وتظلوا بعقل يقبل حكايات خرافية مثل حكاية الصارخ من القبر. او الوهم الشخصي بأني أهم شاعر وأهم قائد عسكري وأهم عاشق.. ولكنه وهْمٌ لن تجدوا من يدعمه الا بعض المنتفعين، وسيسقط سريعاً وقد يسقطكم معه.

العقلانية هي انتصار لإنسانيتكم وتعزيزها، ويجب إثرائها بالعلم.. بالرياضيات بالفيزياء وبسائر العلوم.. والأهم بالبراهين الصحيحة والمثبتة، ويجب تنمية التجربة الحياتية، وتحويل العقل الى الأداة الوحيدة في المعرفة. وهذا لعلمكم ينفي المبدأ الذي يدعي ان الأحاسيس او التجارب الحسية، هي الطريق الأساسي للمعرفة.

ربما أثقلت عليكم في هذا الدرس.. اسمحوا لي باضافة صغيرة قبل الخروج للاستراحة، علمياً تبث ان الأحاسيس، المشاعر الحسية.. غير موثوقة، وان المعلومة المبنية على المشاعر الحسية، غير مؤكدة، ولا أقول خاطئة، تحتاج الى إثبات عقلاني.

سأروي لكم حكاية رمزية حول المنطق العقلاني او غير العقلاني، لعلها تساعدكم في التفكير، او تساعدكم في التخلص من الضغط العقلي الذي أدخلتكم به:

جاء لاعب كرة قدم مشهور الى قارئة البخت ليعرف ما ينتظره في الموسم الجديد من مكاسب مالية ومجد وألعاب وتسجيل أهداف.. دفع الرسوم الكبيرة لمساعدة القارئة، ودخل. كانت عجوزاً شمطاء تضع فوق أنفها نظارات سميكة تثير الشك بقدرتها على الرؤية الكاملة. جلس أمامها، نفخت بموقد فحم صغير بجانبها، فارتفع دخان أخضر.. قامت بحركات بلا معنى فوق الموقد، وطلبت منه ان يفتح كفيه أمامها. مسحت بيديها على كفية مرات عدة.. نفخت، وطأطأت رأسها تقرأ كفيه وتهز رأسها يساراً ويميناً وتهمهم، ثم تمتمت بكلمات غير مفهومة.. وصرخت: “أجل.. أجل” وقالت للمسكين الجالس أمامها: “هم.. هم.. هم.. أرى أخباراً جيدة بكفة يدك الشمال.. لك مستقبل باهر في السماء، حيث أعدَّ لك الملائكة ملعباً رائع الجمال، لا مثيل له في الأرض، وستكون ملك اللعب فوق، اما في كفة يدك اليمين فأرى خبراً صعباً.. اعذرني على صراحتي: ارى ان عزرائيل قد حجز لك دوراً للعب غداً في الساعة الرابعة بعد الظهر”.

وقطع ضحك الطلاب صوتُ فتاة تجلس في المقدمة:

– استاذي اسمح لي أن أرد على قصتك بقصة أخرى تخرجنا أيضاً من اللخبطة العقلية التي أدخلتنا بها… كان لنا معلم رياضيات عبقري، مات والد أحد الطلاب، ولم ينفك الطالب يبكي والده يومياً. في درس الرياضيات لسبب لا نعلمه انفجر بالبكاء المر. بعد ان تمالك نفسه، قال انه تذكر والده فبكى. قال له الاستاذ: “هل تعلم يا صديقي انه يوجد في الحياة ما هو أسوأ من الموت؟” فسال الطالب: “ما هو يا أستاذ؟ “فرد المعلم: “مثلا ان تقضي ليلة كاملة مع فيثاغوروس!!”

وانطلقت ضحكات المحاضر أعلى من ضحك طلاب الفلسفة…

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here