قراءة في كتاب علي الوردي والمشروع العراقي (5)

قراءة في كتاب علي الوردي والمشروع العراقي (5)

عبد الرضا حمد جاسم

يتبع ما قبله لطفاً

ورد في ص13 من التقديم/ المقدمة/ كتاب علي الوردي والمشروع العراقي التالي: [ لقد تبارت الكتب بعدد ونوع من يقرؤها فكانت الغلبة لكتب الوردي ليس لكونه عراقياً قحاً و قريب من هواجس الناس او من طبيعة أسلوبه السردي الممتع ولغته المبسطة المفهومة الممتعة. لكنه كان دقيق الرصد عميق التحليل ومتسقط العلة قبل المعلول والمضمون قبل الشكل و الوسائل قبل الغايات كل ذلك جعله مقروء من قبل جل الطبقات والاطياف الفكرية وبالرغم من منهجه البحثي ومن عدم مداهنته او موالاته لأي قوى متسلطة في تلك الحقبة من محافظة ملكية ودينية طائفية ومثقفة كما قومية عروبية او يسارية او ليبرالية] انتهى

تطرقتُ الى هذا المقطع في السابقة ولكن ليس بالكامل حيث بقيت قضايا/نقاط مهمة يكررها محبي الوردي ومن كَتَبَ عنه وهي:

أولاً: ورد: [….وبالرغم من منهجه البحثي ومن عدم مداهنته او موالاته لأي قوى متسلطة في تلك الحقبة من محافظة ملكية ودينية طائفية ومثقفة كما قومية عروبية او يسارية او ليبرالية] انتهى

عن مداهنة الراحل الدكتور علي الوردي اليكم ما كتبه في ص314 من كتابه [الاحلام/1959]:

1 ـ [وصفني احد المسؤولين في العهد البائد باني كنت في كتبي السابقة “أدس السم في العسل” ولست بحاجة الى تفسير المقصود من هذا القول في عرف ذلك العهد فالسم يعني يوم ذاك كل ما لا يرضى عنه الحكام من آراء واعترف اني كنت لا اتوانى عن دس “السم” في جميع ما كنت اكتبه او احاضر فيه ولكني اعترف كذلك باني كنت ادس ” السم” دساً خفيفاً يكاد لا يبين له طعم او ينتج الأثر المنشود منه] انتهى

*تعليق: هل هذا السم اقوى من السم الذي طرحه بعض النواب او الشعراء او بعض رجال الدين في تلك المرحلة او هو اقوى من السم الذي كانت تشيعه وتقدمه الأحزاب السياسية الشيوعي منها و القومي وحتى الإسلامي عن قصائد الشعراء و لافتات التظاهرات و شدة الانتفاضات التي كانت تقودها تلك الأحزاب والشخصيات السياسية؟ هل كانت مقالات الوردي وكتبه تُسْقِطْ او أسْقَطَتْ حكومة من حكومات الفترة/ المرحلة الملكية التي وصل حالها إلى ان لا تُعَّمِرْ اشهر؟ هل كان احد من المساهمين في حركة/انقلاب/ثورة1936 او1941 من قراء مقالات الوردي الصحفية التي يقول احد مؤلفي هذا الكتاب انه بدأ بنشرها وهو في عمر(17) عام أي قبل الحدثين بسنين؟ هل تطرق الوردي بصفته عالم اجتماع الى تأثير تعليق جثامين ثوار 1941 على أعمدة الكهرباء في الساحات العامة على المجتمع العراقي وكذلك اعدام السياسيين الشيوعيين فهد ورفاقه وتعليق جثامينهم كما فعلت الحكومة مع جثامين ثوار 1941؟ هل رُفعت راية او لافته او اُلصِقَ منشور يحمل قول للراحل الوردي؟ هل شارك الوردي في نشاط سياسي او تظاهرة او اعتصام او انتفاضة؟

ركزوا لطفاً على””بأني كنتُ أدس السمَ دساً خفيا يَكادْ لا يبين له طعم او ينتج الأثر المنشود منه”

ما قيمة السُمْ الذي لا طعم له ولا يترك أثر؟ ألا يمكن أن يكون هذا السُمْ وبهذه الجرعة مخدر للناس يحد من حركتهم المجتمعية و السياسية.

تبينوا عدم مداهنة الراحل الوردي…كم عراقي في تلك الحقبة استطاع ان يميز بين سم الوردي عديم اللون و الطعم والرائحة و الأثر و بين العسل الطاغي فإذا كان السم ضد الملكية/ الحكومة كما يقول الوردي وكما يُفهم من القول فأكيد كان العسل بجانبها. وهذا اعتراف خطير من الوردي بأنه كان ينشر عسل الملكية…وفي قوله هذا كان مع الاعتذار له غير صادق حيث أراد به هنا مُدارات الظروف التي سادت في تلك الأيام حيث عام 1959 الصاخب سياسياً و اجتماعياً في العراق.

2 ـ [لقد كنت بعبارة أخرى اتبع سبيل المراوغة و المدارات في مختلف كتاباتي ومحاضراتي أي اني كنت اتبع طريقة ” كليلة ودمنه” الذي الفه بيدي في قديم الزمان وقد جابهني البعض بالنقد الشديد على الطريقة “البيدبانية” فكانوا يقولون عني اني ادور حول الفكرة دون ان ادخل في صميمها واخرج منها أحيانا بغير النتيجة…هذا كله صحيح اعترف به ولا اريد ان ابرئ نفسي]انتهى

*تعليق: هل المراوغة والمدرات احد اشكال عدم المداهنة؟

عن كليلة ودمنه…هل كان الملك طاغية حيث دفع هذا الطغيان الراحل الوردي للذهاب اليه وتقديم النُصح له، كما ورد عن كليلة ودمنة وبيدبا؟…هل غضب الملك او اتباع الملك على الراحل علي الوردي وامر بقتله قبل ان يُغَّير رأيه؟…هل طلب الملك من الوردي إعادة ما قال واعتمده؟… ثم من كان يعرف كليلة ودمنة او قرأه من أعضاء البلاط الملكي في العراق او السياسيين او عامة الشعب حتى عرفوا قصد الوردي هذا؟ الرجل الوردي يؤكد على انه كان يلف ويدور ويعترف ب(اللف والدوران) الذي سارت عليه حياته في جانبها السياسي…اليس في ذلك مهادنة؟

3 ـ[لقد كنتُ في الخمسينات مخير بين امرين اما ان افصح عن الرأي بصراحة تامة فاذهب الى السجن او اراوغ فيه واداري فأتخلص من السجن و مغبة قطع الارزاق وبعد تامل و تمحيص وجدت الامر الثاني أجدى و اصلح لي و للقراء بيد ان الوسيلة لم تعد ناجعة في عهود الثورة فتوسل المراوغة والمدارات يدل على فسحة واسعة في حرية التعبير داخل النظام السياسي نفسه….الخ] انتهى

*تعليق: كم كانت أصوات المعارضين للنظام عالية دون ان يتحمل احد من أصحابها تبعاتها؟ كم كان عدد اساتذة الجامعة من المعارضين المجاهرين في معارضتهم للنظام الملكي ولم تُقطع اعناقهم وارزاقهم؟ كم كان عدد الشخصيات السياسية المعارضة علناً للنظام وظلت معارضة وينظر اليها باحترام وتقدير وبعضها كان يُستشار؟

كل اقوال الوردي هذه كان فيها غير دقيق ويلوي فيها الصحيح واصدرها في عام 1959 تفادياً كما قلتُ لحالة قد ظن ان فيها خطورة عليه.

ومن كل ما ذكرته يظهر جلياً ان الراحل الوردي لم يكن جريئاً بنقده المجتمع العراقي…او العائلة المالكة ال “متسفلة” كما وصفها

هل أسس الوردي بكل ما اثاره من ضجة مدرسة او مجموعة تسير معه لدراسة المجتمع العراقي؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

ثم يأتي كاتب التقديم/ المقدمة ليقولَ قولاً باطلاً حيث كتب في ص17 التالي:

[ اذا كانت لومضات الفكر من تأثير في احداث التاريخ كما كان مونسيكيو في اشعال الثورة الفرنسية او الرعيل اليساري الثوري الذي اجج الثورة الروسية فان أفكار علي الوردي قد اينعت باقل من عقد وكانت الشرارة الفكرية وراء انبثاق ثورة 14 تموز1958 حينما تيقن عبد الكريم قاسم ورعيله ان لا طائل في معالجة بداوة السلطة سواء كانت عروبية او تركوية او كردوية او فارسية بعدما سخرت احاجي قومية وطائفية واسبغت حرمة على بيوتات واهية تتداول السلطة فيما بينها و تتمتع بالامتيازات العراض وتتشدق بالفضل من خلال عملية اصلاح ترقيعي تاركين للعامة رجاء ودعاء و “منتظر” بالتغيير. لقد تيقن مفجروا ثورة تموز ان الامر محوج لعملية استئصال وتغيير شامل يؤسس لقاعدة اللابداوة و الشروع بإرساء دولة المواطنة التي تساوي بين الرؤوس وتشيع التكافئ بالفرص و السعي للبناء الحضاري وتكرس الشعور بالانتماء للوطن الواحد وتلغي الانتماءات الهامشية وتستأصل مشاعر الدونية المستشرية وها نحن اليوم نئن من ذيلية و تشرذم وانانية النخب الذي لم ولن يكن ان يؤسس لدولة راسخة اذا لم يعي تلك الحقيقة] انتهى

*تعليق: أتمنى على الكاتب ان يعرض لنا قول او تصريح لاحد المساهمين في ثورة / انقلاب 14تموز1958 المباركة/المبارك يؤكد فيه انه اشترى كتاب من كتب الوردي او قَلَّبَ صفحات كتاب من كتب الوردي او قرأ صفحة واحدة من صفحات كتب الوردي او استشهد او اقتبس مقطع للوردي او قول او عبارة او مصطلح وقد كتب بعضهم مذكراته وكُتِبَ عن بعضهم؟

هل اعترض الوردي على تنصيب فيصل الثاني ؟ هل قال الوردي ان اصلح نظام هو النظام الجمهوري؟ بل هل وردت عبارة ( نظام جمهوري) في كتب الوردي في تلك المرحلة؟ هل دعا الوردي صراحة الى فصل السلطات كما مونتسيكيو؟

ثم ما هي تلك الأفكار الثورية الوردية التي اينعت خلال عقد من الزمان وكان لها تأثير في قيام انقلاب/ثورة 14تموز 1958 المبارك/المباركة فأغلب أعضاء تنظيم الضباط الاحرار من غير المهتمين بطروحات الوردي وكما ورد في هذا التقديم حيث كتبَتَ(كاتب التقديم) في ص16 التالي: [لقد كان الوردي جريئا بنقده المجتمع العراقي وتداعى الامر ان يتحالف ضده الجميع من طرف اليمين حتى طرف اليسار وتحالف الشيوعي والعروبي و الاخواني ورجال الدين وحتى الليبراليين ضده وهكذا كثر خصومه وضعفت قواه ثم خارت وانحسر وافل وترك الحلبة لمن صال وجال من مدعي الفكر ….الخ…] انتهى

وفق هذا الطرح، من بقي من الشعب العراقي و السياسيين العراقيين والعسكريين من تأثر بالوردي وطروحاته التي اينعت؟

و ما هو تأثير الوردي على قيادة الضباط الاحرار؟ وعلينا ان ننتبه الى ان ثورة تموز لم تكن ثورة شعبية انما كانت انقلاباً عسكرياً ساندته الجماهير بعد سيطرت عبد السلام محمد عارف على بغداد واذاعته للبيان رقم واحد / البيان الاول وهذه الجماهير هي نفسها جماهير من قال عنهم الكاتب انهم وقفوا بالضد من طروحات الوردي حين كتب: [تحالف ضده الجميع من طرف اليمين وطرف اليسار وتحالف الشيوعي و العروبي و الاخواني ورجال الدين والليبراليين…الخ] والجماهير التي خرجت تساند الانقلاب لتحوله الى ثورة هي جماهير هذه المسميات و الأحزاب و الإصطفافات السياسية و الدينية…فكل جماهير هذه المسميات متحالفة ضد الوردي فكيف جدحت شرارة الثورة واينعت تحت تأثير أفكار الوردي؟

كما يبدو فقد تخلص الوردي من “معادات المعادين” له…فتخلص من عداء الشيوعيين له بما كتب في كتاب الاحلام/1959 كما بينتُ ذلك أعلاه أما بخصوص “معادات العروبيين” الذين حاربوا الوردي كما يقول كاتب التقديم …فظهرت محاربتهم في عدم المساس به او مضايقته او حتى التحقيق معه او توجيه سؤال واحد له ولم يُحارب في مكان عمله بعد 8 شباط 1963؟

ثانياً: ورد في المقطع ايضاً التالي: [لقد تبارت الكتب بعدد ونوع من يقرؤها فكانت الغلبة لكتب الوردي ليس لكونه عراقياً قحاً و قريب من هواجس الناس…الخ].

اتوقف هنا عند عبارة: (…ليس لكونه عراقياً قُحاً…)…السؤال هنا هو: ما تعريف “عراقياً قحاً” او من هو العراقي القح ولماذا حَشْرَها كاتب التقديم/المقدمة هنا؟ هل هو السومري ام الاشوري ام الكلداني ام البابلي ام الكردي ام البدوي ام التركماني ام من أبناء بغداد القديمة؟ إذا كانت كل الاطياف السياسية و الدينية وجماهيريا وقفت موقف معادي للوردي فمن هم قراء كتب الوردي هؤلاء؟

ثالثاً: ورد ايضاً: [لكنه كان دقيق الرصد عميق التحليل ومتسقط العلة قبل المعلول والمضمون قبل الشكل و الوسائل قبل الغايات كل ذلك جعله مقروء من قبل جل الطبقات والاطياف الفكرية…الخ]

*تعليق: ارغب ان اتعلم من الكاتب وارجوه أن يعرض علينا نماذج مما ورد في كتب الوردي عن :دقيق الرصد…ماذا رصد بتلك الدقة؟، عميق التحليل ماذا حلل بذلك العمق؟، متسقط العلة قبل المعلول…أي علة تلك التي “تسَّقطها”؟، ومتسقط المضمون قبل الشكل… مضمون مثل ماذا ذلك الذي تّسَّقطه الوردي قبل الشكل؟ ومتسقط الوسائل قبل الغايات…مثال عن الوسائل التي تسقطها الوردي ومَثَلْ واحد عن تلك الغايات؟ كما اشعر اني و القارئ الأخر نحتاج الى نموذج لأسلوبه السردي الممتع ولغته المبسطة المفهومة فقد كَثُرَ القول عن أسلوبه السهل الممتنع الذي يردده كل محبي الوردي؟ ماذا عن بدعة” السهل الممتنع” التي تعج بها الطروحات في كل الاتجاهات؟ هل فيما طرحه الوردي ظاهِرَهُ سهل وباطنه صعب؟ هل هناك فيما قاله الوردي سهل الوصول اليه وصعب فهمه…هل كان فيما طرحه الوردي شيء فهمه الناس بسهولة؟ لوكان كذلك لسار الناس على هدي كلمات الوردي.

اليكم نموذجين من مئات بل ألاف النماذج عن تلك الدقة في الرصد وعمق التحليل وتسقطه للعلة قبل المعلول والمضمون قبل الشكل والوسائل قبل الغايات:

1 ـ ورد في خوارق اللاشعور ص 17: [وانا أعجب حقا حين أرى شخصاً يصدق بالأشعة السينية وبالرادار وبالتلفزيون ثم لا يستطيع ان يصدق بالخوارق النفسية فهو يؤمن بالة يركبها الانسان ولا يؤمن بالإنسان نفسه…الخ] انتهى

2ـ في ص49 كراسة /شخصية الفرد العراقي /الهامش كتب الوردي التالي: [روي عن النبي محمد: افضل الكسب الزراعة فإنها صنعة ابيكم ادم

وفي ص 26 من كراسة الأخلاق كتب التالي: [من الاحاديث المروية عن النبي محمد إنه مر ذات يوم ببعض دور الأنصار في المدينة فوجد فيها محراثاً فقال : “ما دخلت هذه دار قوم إلا و دخلهم الذل”] انتهى

3 ـ كتب في ص307/ مهزلة العقل البشري كتب الراحل: [الملاحظ في تلاميذنا أنهم يحتقرون القرآن رغم تظاهر البعض منهم بتقديسه. فهم يمجون ما فيه من تكرار لقصص الانبياء. شكى لي أحدهم فقال: “لستُ أجد في القرآن سوى ما قال ابراهيم و قال نوح و قال موسى و ليس فيه غير الشكوى و التذمر و إعلان الويل و الثبور أما الحضارة الزاهية التي أنتجها الاسلاف فلا ارى فيه لها ذكراً”]انتهى

4 ـ كتب في ص228 من كتاب دراسة في طبيعة المجتمع العراقي: الدَّينْ زرف [من الامثال الشائعة في الريف العراقي قولهم “الدين زرف” ولهذا تجد الديون تتراكم على الفلاح في أكثر الأحيان حتى إذا حل موعد الوفاء وجد نفسه عاجزاً عن الأداء وهو عندئذ يضطر الى إعادة تسجيل الدين عليه مع إضافة ربا جديد إليه أو هو يعمد الى الاستدانة من شخص آخر لكي يوفي دينه القديم وهذا هو ما يعبرون عنه في الريف أنه “يلبس كلاو بكلاو” أن الفلاح لا يلجأ الى بيع شيء من ممتلكاته لوفاء ديونه المتراكمة و لكنه عندما يضايقه المرابي او يطارده بوسائله المتنوعة يلجأ الى بيع بعض ابقاره او زوارقه او بنادقه او ما اشبه ليوفي به دينه كله او بعضه…الخ]انتهى

…و في ص36 من كراسة الاخلاق يقول الدين رزق:[من الامثال الشائعة في الريف العراقي قولهم “الدين رزق” و أحسب في هذا القول إشارة الى انهم يستسهلون اخذ الدين و يستصعبون وفاءه فالدين رزق ساقه الله اليهم و هو قد اصبح ملكا لهم و ليس من الهين عليهم ان يرجعوه من تلقاء انفسهم و هم في الوقت ذاته يشعرون بالغبن حين يأكل أحد الناس ديناً لهم عليه]انتهى

………………………..

يتبع لطفاً

عبد الرضا حمد جاسم

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here