وادي الارواح / رواية الفصل الخامس

وادي الارواح /رواية الفصل الخامس
ذياب فهد الطائي

كنت في القاهرة ،فقد قررت أن أشهد إحتفالات المصريين الصاخبة بليالي رمضان ، وقد وجدت اني أميل الى مثل هذه الاحتفالات حيث يعبّر الناس عن مشاعر الفرح متجاوزين ما يعانوه في واقعهم اليومي،

بعد إنحسار الخوف من كورونا عادت الزينةتتلألأ أضواء حبال الزينة كالنجوم في السماء، وتتدلى المصابيح اليدوية البديعة أعلى أبواب البيوت؛ وتجد الأقمشة الملونة بألوان الطيف تغطي الصفوف اللانهائية من المناضد والكراسي في جميع أنحاء المدينة، يتردد صدى تلك الأجواء الإحتفالية كالنبض في كل شارع وكل زقاق،

همس (صديق الانبياء )- انت تتجول لاخرساعة تملك فيها قدراتك كملاك ، أنت الان انسان من الكون الأرضي وعليك أن تتدبر أمورك ، ولن تتاح لك بعدها أن تتواصل معي أو مع بقية الملائكة ، هذه مشيئة (القدير)

رغم أني شعرت ببعض الحيرة والإكتئاب إلا إن الصخب في الشارع المحيط بمبنى ضريح الحسين أخذ كل اهتمامي ….جلست على كرسي خشبي في مقهى على ناصية الشارع ….كان المقهى ضاجا بالحركة ، تتعالى الاصوات متقاطعة فيما دخان كثيف ينعقد في فضاء المقهى …بعضهم كان يغني غير مبال بالاخرين …كان الغناء بشعر صوفي ولكن كالعادة يستهله المغني بغزل واضح الحرارة والشغف.

دخلت المقهى إمرأة بجلابية سوداء بنصف كم رغم ان الجو كان يميل الى البرودة ،كانت سافرة شعرها يعاني من إهمال واضح فبرغم قصته القصيرة كان يتناثر بغير انتظام ، كانت سمراء ربما تجاوزت الستين من عمرها الذي كان يوحي بأنها قاست الكثير من المتاعب ، مدت يدها فأخرجت لها دولارا .حين رأته انتشر فرح على ملامح وجهها المتغضن وأطلقت زغروطة طويلة جلبت انتباه الحضور ، قام أحد الزبائن من مقعده وهو يترنح فقد كان تحت تأثير نشوة المخدر الذي كان يتعاطاه في ألأركيلة …لوح بيديه لجلب الانتباه،

-حيّوا معي أشهر راقصة في شارع الهرم …لا في كل شوارع القاهرة التي تسهر في كل الفصول ، الراقصة التي كانت متالقة قبل ثلاثن سنه

أخرج من جيبه ورقة فئة عشرة جنيهات ودعاها لأستلامها ، ركضت نحوه وهي تتثني بغنج

-تحية للعمدة الكبير

صرخت وهزت وسطها وهي تتناول الورقة

قال الرجل الذي بدت شواربه الكثيفة تغطي فمه – أري هؤلاء الذين لا يعرفوك كيف يكون الرقص البلدي

وقفت المرأة وسط المقهى وهي تربط عمامة احد الجالين حول خصرها ، قال الرجل –ليس هنا …على طاولة الخواجا

أشار نحوي

قالت –أمرك ياعمدة

حين اقتربت قلت لها –لا أوافق أن تصعدي على طاولتي

بدت الحيرة في عينيها

-أبوس يديك تفاهم مع العمدة لأنه يقتلني

تقدم الرجل نحوي- ليس بمزاجك ، انت ضيف وغريب ، ويقول المثل( ياغريب كن أديب)

-ولكني لم افعل شيئا وانت تعتدى عليّ دون مبرر

-قلت سترقص على هذه الطاولة

قالت المرأة –خواجا إذهب انت الى الداخل ويجلس العمدة مكانك

قال الرجل –لا …. منظرك وانت ترقصين والخواجا يتطلع اليك سيكون موضع إهتمام كل زوار الحسين

أخذ الرجل بتلابيبي وهزني بقوة ، كان قوي البنية ومتعود على الدخول بمشاحنات بالايدي ،استطعت ان اتخلص من تمسكه بالجاكيت ودفعته الى الوراء،وقف كل رواد المقهى بانتظار نتائج المعركة التي ستنشب لامحالة،ولكن أي منهم لم يتدخل لفض النزاع ، دخل ثلاثة من افراد الشرطة ونفخ احدهم بصافرة بقوة فجلس الجميع ،توجه الرجل الى الشرطي الذي بدا انه مسؤول المجموعة

قال- حضرة الصول الخواجة إعتدى علي ويشهد كل من في المقهى … أنظر

لقد تسبب في هذا الجرح بوجهي

شعرت بالدهشة وأنا أرى خيطا من الدم يجري على خده …صمتّ

قال الصول –جميعا الى مركز الشرطة …إمشوا أمامنا

أمسك شرطي بمعصمي وسحبني لنكون في مقدمة الركب السائر لمركز الشرطة الذي لم يكن بعيدا ، في الطريق كان العدد المرافق لنا يتزايد وكان العمدة يرفع يده الملطخة بالدم ليريها للمتحلقين على امتداد سيرنا الى المركز.

الدخول الى المركز يتطلب صعود ثلاث دكات من الإسمنت ، وعلى الباب يقف شرطي لم يهتم بالنظر الينا وبدا كتمثال يقف للزينة…طلب الصول أن أدخل والعمدة والمرأة واثنين من زبائن المقهى ، في باحة المركز الداخلية أمرنا بالانتظار وبالصمت وإلا …أرفقها بشتيمة بذيئة ، دخل على الضابط المناوب كما أخبرنا وبعد برهة خرج وأمرني

– أدخل…. علىيك أن تسلم كل ما لديك والساعة والهاتف النقال للشرطي الجالس الى منضدة في ركن الباحة وأمامه حاجز خشبي.

كان الضابط شابا برتبة نقيب في عينيه كمية كبيرة من اللؤم يمكن أن ألمحها في حركتهما الدائرية وكأنهما تبحثان عن طريدة ، وجهه أكثر بياضا من الأشخاص الذين كانوا يملأون مقاهي ومطاعم حي الحسين ،

-ماهي جنسيتك

لم يسأل عن إسمي ..الجنسية تحكم المعاملة والاسم لا يعني شيئا

-أنا امريكي

-وماذا يعمل السيد الامريكي في حي شعبي

-الأحياء الشعبية بمواصفاتها المتميزة هي التي تشدني

-حسنا إعطني جواز سفرك

-ليس معي …إنه في مكتب الإستقبال في الفندق

-أطلب مكتب الاستقبال ليؤكد لي ذلك

في الحقيقة لم يكن معي جواز سفر ، لقد استخدمت اخر فرصة لي كعزرائيل لأصل القاهرة ، عيناه الماكرتان اكتشفتا إني أكذب

-اسمع أنا لا أريد الدخول في حوار معك….ابلغني كاتب المركز انك سلمته مائتان وتسع دولارات ……تنازل عن النصف واغلق الموضوع وتذهب الى فندقك أيا كان

فكرت إنها عملية ابتزاز رسمي وتحت العلم المصري من مسؤول في الدولة ، ساورتني دهشة كما هي عند مواطن مبدئي لم يتعرف بعد على البراكماتية، لهذا رفضت،

لم يعلق الضابط ، طلب المدعي المتعاطي وكاتب المركز لتدوين افادته كمشتك، سأله أولا عن إسمه وعمره وعنوان اقامته ،ثم انتقل الى الاستماع لشكواه ….بعد ان وقع على محضر الشكوى أمر الضابط الكاتب الذي كان يدون الافادات بأن يرسله للطب العدلي لتقدير الضرر الذي أصابه بسبب إعتدائي علية، التفت نحوي

– نبدأ الان بالاستماع الى إفادتك لاحقا،

نودي على المرأة التي أكدت الواقعة وفقا لافادة العمدة وزادت عليها إنها رجتني أن أتساهل ولكني تماديت في شتم العمدة والسخرية منه ثم وجهت اليه لكمة على وجنته اليمنى مما أدى الى تذفق الدم ،

قال لي الضابط- سترسل الى النظارة حتى يوم السبت ، أي بعد غد لأن يومنا هذا هو الخميس وستوجه اليك تهمة الاعتداء على مواطن مصري والتسبب باضراروجروح في وجهه فضلا عن عدم وجود أية مستمسكات تعرّف بشخصك …. من يدري قد تكون جاسوسا اسرائيليا ….التحقيق سيكشف ذلك.

أخذني الشرطي من غرفة الضابط ممسكا بذراعي بقوة ، مشينا عبر ممر شبه معتم الى غرفة النظارة ،كنت بين الحين والاخر أزور زنزانات النظارة أو زنزانات المعتقلات والسجون في مختلف أنحاء العالم ، ولكن ما يميزتلك في البلدان التي تحكمها مجموعات او أفراد مستبدين عن مثيلاتها في البلدان الاوربية على وجه الخصوص ، إن الأولى تمثل نموذجا لمجتمع الرذيلة والقهر والاحتكار أيضا ،حيث يتسيّد واحد أو أكثر بالاتفاق مع الإدارة علي بيع سلع معينة أو تأمين الحماية لصغار المعتقلين ، لهذا حين فتح باب الزنزانة وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلا ، لم أفاجأ بأن معظم النزلاء يدخنون وبعضهم يتطلع الى السقف ببلاهة وذهول ، كانت رائحة الزنزانة عطنة والنزلاء يرتدون جلابيات قذرة ، الزنزانة ربما لاتسع أكثر من خمسة عشر نزيلا ولكن العدد كان اكثر من خمسة واربعين,بعضهم كان يقف مستندا الى الحائط ،قال الشرطي : هكذا في رمضان بسبب تزايد أعداد الذين يتجولون في حي الحسين مما يوفر فرصة للنشالين والسراق والمتحرشين.

لم أرد عليه لأني كنت أتفهم ذلك.

حين دخلت وقف الجميع بدهشة وصرخ أحد المتعاطين وهو يلوح بيده نحوي

-الخواجا معانا !!!!!

كنت بهيئتي وسحنتي طائرا غريبا في قفص الغربان، في اخر الزنزانة كان شابا ربما لم يتجاوز الثانية والعشرين يجلس مقرفصا الى الزاوية وفي عينية كمية من الخوف والهلع وكأنه يتوقع باية لحظة أن يصفع بقوة ، معظم الموجودين كانوا وكما يبدو محترفي سرقة لتأمين شراء المخدرات ….تقدم نحوي رجل طويل القامة بوجه عابس قال –محسوبك شاكوش …وأنا المسؤول عن النظام هنا.

حين مددت يدي لأصافحة تجاهلها وقال –الخواجا من اي بلد …فأنت لن تكون مصريا

-صدقت ..انا أمريكي

رفع يديه فوق رأسه وتوجه الى النزلاء-صلاة النبي أحسن….الدفع سيكون بالدولار وستاكلون هذالمساء الكباب من فرحات !!!

شعرت بإحراج فأنا لا أملك دولارا واحدا، ولأبين لهم ذلك دسست يدي في جيبي البنطال ، شعرت بقشعريرة تهزني فقد اصطدمتا باوراق نقدية …..لقد فعلها !!!

أخرجت مجموعة من جيبي الأيسر وحاولت أن أعطيه بعضها ولكنه سبقني وأخذ كل ما أخرجته.

-خواجا أنت لا تحتاجها هنا وغدا يحلها الله بمعرفته ، لا تفكر فلها مدبر،

التفت الى النزلاء

-ليس العشاء فقط وانما الإفطار غدا فالجمعة مباركة

قال أحد النزلاء –شاكوش انا اشتهي بيض شكشوكة وجبن حلومي وشاي بالخمسين

-أنت تؤمرني … الان كل طلباتكم مستجابة

توجهت الى الداخل باحثا عن مكان اجلس فيه فقد شعرت بالتعب

التفت نحوي –خواجا ….أنت ضيفي الشخصي واّذا لم يتوفر المكان أفرش لك عيوني ،أنت ضيفي وضيف كل النزلاء فأنت هنا أمير مستورد ،

رغم المداهنة شعرت بشيء من السرور ، قادني الى بساط ملون عليه ثلاث وسائد وقال ، تستريح هنا حتى يوم السبت ،

قدم لي شايا أسود مر المذاق ، قلت له لا أشربه على هذا النحو ، ضرب بكفه على رأسه ونادى

-أنت يامور … شاي طازج خفيف للخواجا

التفت نحوي – لأني أحببتك تصورتك صعيدي !!!الله على شعور الاخوة والجدعنة …..

كنت على وشك أن أنهي كأس الشاي الذي استمتعت به حين جاء الشرطي ، ضرب الباب الحديدي بالمفتاح الضخم الذي يحمله في محاولة لجلب الانتباه ثم نادى باسمي

-جاكوب فشر مان

قال شاكوش –خواجا إنه يناديك ….ربما اخبار من السفارة الامريكية !

حين مثلت امام الضابط ، طلب مني أن أجلس

-هل تدخن ؟

-لا

-حسنا … يبدو انك لم تسلّم كل ما لديك من الدولارات …أين قمت بإخفائها ؟

– لم اخف شيئا فأنا نفسي لم أكن أعرف إن لدي المبلغ

– سأصدقك …يبدو إنك رجل جاد …هل تعلم إن ملف الدعوى لم أرسله بعد …كنت أفكر ما الذي يدعو رجلا محترما مثلك الى الإدعاء بانه في فندق لا يتوافر اسمه في قائمة نزلائه ، كما إنه لايحمل جواز سفر ولا أية وثائق تعريفية، كيف إذا دخلت مصر ….وكيف وصلت الى حي الحسين ؟ وما هي الدوافع لجلوسك في مقهى شعبي ؟ صدقني إن هذه الاسئلة وغيرها تدور في عقلي … وأخيرا توصلت الى استنتاج هو إنك ستخرج من مكتب قاضي التحقيق فور اتصال السفارة الامريكية …ولهذا ولتجنيبك مرارة النظارة ليلتين لا يعرف الا الله ما ستواجه فيهما هنا ، فإني أدعوك لأن تدفع 2000 دولار وستجد نفسك وبسيارتي الخاصة في الفندق الذي تطلبه !

فكرت بشكل عملي ، وتوصلت الى الموافقة ، دفعت المبلغ ، هكذا ينزلق الناس الى الخطيئة تدفعهم الحاجة،

وضع المبلغ في الجرّار وتناول غطاء الرأس العسكري وأخبر الصول إنه سيغيب نصف ساعة في واجب

حين تركني عند فندق صغير منعزل بعد ان أخبرهم إني من طرفه وجوازي معه، كنت قد استوعبت الدرس الإنساني الأول وشعرت بأسف إن حقوق الناس تضيع لأن السلطة تهتم بالمال قبل الحق ،داخلني شعور بالقلق لأني أنزلق في طريق ليس معرفا الى أين يوصلني.

نمت ليلتي …وفي الصباح كنت ثانية بحي الحسين …ذهبت الى مطعم فرحات وطلبت ان يهيء شكشوكة وكباب لأربعين شخصا ويرسل الطلبية الى النظارة في مركز شرطة حي الحسين وناديت على الشخص الذي سيوصلها لأعطية عشرة دولارات اكرامية عن التوصيل .

نظر مسؤول المطعم باستغراب ولكنه لم يعلق ،سلمني فرق العملة بالجنيه المصري ،ذهبت أتجول في السوق المليء بالملابس الشعبية، شعرت بأني جائع فعدت للمطعم ، استقبلي عامل التوصيل مهللا.

-خواجا لقد دعولك بطول العمر وبالتوفيق … هل ترغب في شيء

-نعم أود ان تحضر لي طبق شكوشة خاص

-بعيني خواجا

قادني الى طاولة تطل على الشارع وبدأ بمسحها وقال للنادل القريب – شكوشة للخواجة وكوب شاي بدون سكر

لم أعلق

قلت –ارغب برغيف خبز ساخن

-تؤمر

اقترب مني وهمس وهو بادي الحذر- خواجا إذا رغبت بتحويل عملة أستطيع ان أحصل لك على سعر جيد …اولاد الحرام في السوق يستغلون السواح

أخرجت ورقة فئة مئة دولار

-الان بحاجة الى هذه فقط

وضعها بجيبة وقال للنادل –إذا احتاجني الحاج ،سأعود بعد خمس دقائق ، مشوار سريع

الى الطاولة أمامي مباشرة فتاة في العشرينات سمراء ملامحها دقيقة ومتناسقة وشاب ربما تجاوز الثلاثين ، كانا يتحدثان بصوت خافت ويبتسمان ، مع رشفات الشاي بدأ صوت الفتاة بالإرتفاع.

-لقد تعبت …هذه السنة الثالثة وأنت تخلق الأعذار للتاجيل

-حبيبتي أنت تعلمين إن عملي يتطلب مني السفر لفترات طويلة وأنا لا استطيع تركه الان لأن ما أحصل علية سيوفر لنا حياة مريحة وحينها أعود للعمل في القاهرة …من يدري ربما في هذا المطعم…..

-اقسم باسم الله هذه اخر فرصة …والان أنا مضطرة للمغادرة لأن دروسي تبدأ في الحادية عشر والمديرة متشددة

-سأبقى بعض الوقت وأغادر الى بور سعيد حيث ترسو الباخرة … سنبقى على تواصل ، هل ترغبين بشيء من بنسلفانيا

– سلامتك

غادرت الفتاة مغيظة تكزّ على أسنانها ، بعد ان عبرت الشارع الى الجانب الاخر أستوقفت تاكسي، كان الشاب يجلس قبالتي

قلت –هل تسمح لي بالجلوس الى طاولتك أو تتفضل أنت معي

-نعم …..لماذا ؟

-لدي عرض عمل لك قد يسهل المصاعب التي تواجهها

قام من كرسيه وهو يحمل كأس الشاي وجلس الى جانبي

-أسمعك

-لن اخذ الكثير من وقتك …لقد سمعتك تتحدث عن عملك على باخرة مغادرة الى بنسلفانيا ،ماهي طبيعة عملك على الباخرة

– انا الشيف …ولكن ماهو المقصود ؟

-أنا أمريكي ولكن بدون جواز سفر وافكر بترتيب سفرة تهريب

-غريب… لماذا هذه المناورة غير المأمونة…يمكنك ان تتصل بالقنصلية الامريكية وهم يرتبوا لك جواز سفر أو حتى جواز مرور !!

– الامر معقد بعض الشيء

– من يضمن انك صادق وقد تكون تعمل على توريطي بامور ابعد من سفرك غير القانوني

-ليس لدي ما يثبت صدقي الا ما اود عرضه عليك …..ادفع لك الان عشرة الاف دولار وفي بنسلفانيا خمسة الاف

أخذ جرعة كبيرة من كأس الشاي الذي بدا باردا وتطلع الى المارة في الشارع وحكّ رأسه

-الموضوع بحاجة الى دراسة ، ما رأيك أن نلتقي بعد صلاة الظهر عند باب سيدنا الحسين

– لامانع …وهذه الفي دولار لتساعدك باتخاذ القرار

أمضيت الوقت اتسكع في الأزقة المجاورة وجلست في ثلاث مقاهي استمع الى أحاديث متنوعة ، كانت النساء اللواتي يرافقن ازواجهن او اللواتي جئن مجموعات لزيارة الحسين يتكلمن بصوت مرتفع ولا يتركن موضوعا لا يتحدثن عنه ، أمور البيت والأطفال ومشاكل الجيران ونكات ترمب والمسلسلات التركية ….دخلت ضريح الحسين وتجولت ببعض الاقسام حيث يلقي رجال دين من الأزهر محاضرات مفتوحة بعضها في تفسير القران وبعضها في اللغة او في السنة النبوية، استهواني شيخ ربما في الاربعين من عمرة ، كان يمتلك قدرة متميزة على خلط الحديث الجاد بالهزل وعلى النكتة السريعة والمفاجئه وكإنها كانت عفوية …جلست على البساط في اخر الصفوف الثلاث التي كانت أمامه ….وأثناء حديثه عن زواج الرسول من زينب بنت جحش …سكت وهو يصوب نظره نحوي وسألني –السيد من اي بلد ؟

-أمريكا

– الاسم الكريم

-جاكوب فشرمان

-يعني مسيحي …. حسنا سأسمح لك بالبقاء شرط ان تتحفنا بنكتة عن المحترم ترامب

-رغم ان ترامب هو نكتة إلا أني سأحكي نكتة مصرية سمعتها في أحد مقاهي حي الحسين….

ترامب كان يريد استخدام المصعد الى مكتبه وكان بواب المصعد عامل جديد فسأل ترامب سيد أنت طالع لمين ، رد ترامب طالع لبابا ، أنا ولد حلال

ضحك الشيخ وقال-حسنا نواصل الموضوع

عند باب مسجد الحسين وفي تمام الساعة الثانية جاء صاحبي ،جلسنا في مطعم صغير ….

-اسم الاخ

-جاكوب فشرمان

– أنا جمال الاسكندراني…لدي عرض أفضل من طلبك السفر بالباخرة …لدي صديق موثوق يسلمك جواز سفر امريكي وعلية تأشيرة الخروج من مطار امريكي وتأشيرة الدخول الى القاهرة

-هل لديه نماذج يمكن معاينتها

-النموذج الذي تعاينه هو جواز سفرك ، إذا لم تقتنع به تدفع خمسمئة دولار وإذا قبلته تدفع خمسة عشر الفا له وعشرة الاف لي

سلمته المعلومات الشخصية كما طلبها صاحبه وخمس مئة دولار ، وفي اليوم

التالي ذهبنا سوية الى قرية على مبعدة اربعين كيلومتر تقريبا من القاهرة ،كنا نسير بمحاذات النيل ، الشريط الاسفلتي كان على امتداده مساحات زراعية خضراء ، برودة ربيعية تتسلل الينا،لم نتبادل الحديث …إنحرف بالسيارة الى طريق فرعي ترابي …..قرية صغيرة يغمرها سكون عميق ، كان بيت الشخص الذي نقصده من الطين والاجر القديم وسقوفه من الشينكو المغلف بحصران مصنوعة من البردي وملبوخة بالطين المخلوط بالتبن لتظل متاسكة أمام أمطار الشتاء ….استقبلنا رجل شديد السمرة عيناه الضيقتان حمراوان ، رحب بنا بحفاوة قال : هل صاحبنا يفهم العربية ؟

-نعم

-حسنا… اهلا خواجا

شكرته ،قادنا الى غرفة شبه مظلمة فهي بلا شباك وفي الخارج كانت غيوم رمادية تعبر الافق

قال –ما نوع الشاي الذي ترغبان به

قال مرافقي :عادي وبدون سكر

ضحك وقال- وفرّتم….الضيف الخفيف مرحب به باستمرار !

جلس الى منضدة متهالكة وأخرج محفظة جلدية بنية اللون ، فتحها بتؤدة وأخرج جواز السفر الامريكي وناولني إياه …

قلت –هل يمكن أن أتفحصه في الخارج

لم يرد وإنما نهض ،على الباب كانت فتاة في الرابعة عشر بظفيرة سوداء تحمل ثلاثة كؤوس من الشاي ، كان أحدها غامق اللون على نحو ملفت،

-ابنتي سماح …..وابتسم ثم تابع –أسميتها سماح لأسامح بها الله والزمن فقد توفيت والدتها عند ولادتها …..أنا العبد الفقير أسامح الله!!! ،لأنها كانت إرادته واسامح الزمن لأني فقدت انسانة عزيزة على قلبي !

شعرت بالاحراج وبشيء من المسؤولية فقد أخذت فراشتها عند الفجر في يوم صيفي قائض

تفحصت جواز السفر ، كانت صنعته مدهشة والرجل حرفي الى حد لايمكن تصديقه لو وصفوا عمله دون معاينته

لم اتكلم ، سلمته المبلغ ، في السيارة سلمت مرافقي عشرة الاف دولارحسب طلبه ، لكني اردت معابثته،

قلت –أنا اعرف إنك طلبت أن أسلمك المبلغ في السيارة لانك ستأخذ منه عمولتك خمسة الاف دولار

أوقف محرك السيارة ونظر الي بدهشة ثم ابتسم وعاود المسيرولكن ببطء ليسمح لي بالتمتع بشمس أذار المسترخية و التي غمرت الطريق بأشعة ذهبية تتلألأ فيها حبات المطر على الاشجار والنخيل الممتد على طول الشارع

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here