مدينة أكد وسيرة ملوكها

مدينة أكد وسيرة ملوكها

عضيد جواد الخميسي

لا أحد يعلم أين تقع مدينة أكد ، وكيف اشتهرت أو لماذا سقطت ! . رغماً من ذلك ؛ فقد كانت ذات يوماً مركزاً للإمبراطورية الأكدية التي سيطرت على مساحة شاسعة من بلاد الرافدين القديمة . ومن المعروف تخميناً ؛ أن أكد ( أگيد Agade) ، مدينة تقع على طول الضفة الغربية لنهر الفرات ؛ ربما بين مدن (سيپار) و(كيش) ، أو بين (ماري) و (بابل) ، أو في مناطق أخرى على طول نهر الفرات . وحسب الأسطورة ؛ فقد تمّ بناؤها من قبل الملك سرگون (عام 2334-2279 قبل الميلاد) ؛ الذي وحدّ بلاد الرافدين تحت حكم إمبراطوريته الأكدية ؛ ووضع معايير نموذج الحكم فيها .

الملك سرگون (أو من كتب عنه) ؛ زعم أن الإمبراطورية الأكدية قد امتدّت من مناطق العراق والكويت ، والأردن وسوريا ؛ وقسماً من لبنان (الجزء السفلي من آسيا الصغرى إلى البحر الأبيض المتوسط ) ؛ ثمّ إلى قبرص . وهناك بعض الألواح تشير الى أنها امتدّت حتى جزيرة كريت في بحر إيجة . حيث أن حجم ونطاق تلك الإمبراطورية الكبيرة كانت تتخللها الكثير من الثورات والانتفاضات .

وليس هناك أدنى شك في أن الملك سرگون قد أسس أول إمبراطورية متعددة الأعراق في العالم القديم .

ملك أوروك وبروز سرگون

لغة المدينة هي اللغة الأكدية ، وكانت مُتداولة فعلياً قبل ظهور الإمبراطورية الأكدية ؛ لا سيّما في مدينة ماري الغنية بالآثار. وقد ساعدت الألواح المسمارية التي عُثر عليها في تسهيل مهمة العلماء للتعرّف على تأريخ اللغة . ومن المحتمل أن الملك سرگون كان قد أعاد إعمار مدينة أكد بدلاً من بنائها . كما تجدر الإشارة أيضاً ؛إلى أن الملك سرگون لم يكن أول حاكم قد وحّد المدن وقبائلها المختلفة تحت حُكم واحد ؛ بل أن ملك أوروك ( لوگال ـ زاكيسي ) قام بهذا الإنجاز في ظل حكمه وإن كان على نطاق أضيق . ولكن بعد هزيمته على يد الملك سرگون ؛ أخذ الأخير بتطوير هذا النموذج في التعايش عندما بسط سيطرته على المدينة وجعل سلالته أكبر وأقوى .

كتبت البروفيسورة گويندولين ليك التعليق التالي حول تلك المقارنة :

” وفقاً للنقوش الخاصة ؛ فقد شنّ [سرگون] حملات واسعة خارج بلاد الرافدين ؛ وقام بتأمين جميع طرق التجارة الرئيسية في البرّ والبحر؛ بينما نجح لوگال ـ زاكيسي فقط ؛ في إخضاع مدن سومر لحكمه ” (ص 8).

كان الملك سرجون عازماً على غزو العالم القديم بأكمله . كتب المؤرخ “ديورانت “حول هذا الموضوع ؛ في المقطع التالي :

” في الشرق والغرب ؛ والشمال والجنوب ؛ سار المحارب الجبّار العنيد بجيشه ؛ فقهر إيلام ( عيلام ) ؛ ونظّف أسلحته في أنهارها بعد انتصاره ؛ ثمّ عبر غرب آسيا ؛ إلى أن وصل البحر الأبيض المتوسط ​​، ومن ثمّ أسس أول إمبراطورية عظيمة في التاريخ .” (ص121-122)

لقد استقرّت تلك الإمبراطورية الرافدينية عندما سمحت بتطوّر الفنون والآداب ؛ وتقدّم العلوم والزراعة ؛ وتغيير مفاهيم الدين .

وحسب قائمة الملوك السومريين ؛ كان هناك خمسة حكّام أكديين وهم : سرگون ؛ ريموش ؛ مانشتوسو ؛ نارام ـ سين (المعروف أيضاً باسم نارام- سوين) ؛ و شار- كالي- شاري . وجميعهم قد حافظوا على السلالة ولمدة 142 عاماً قبل انهيارها .

الملك سرگون

وهو الملك الذي أسّس أو أعاد إعمار مدينة أكد ؛ وحكم من عام 2334 حتى عام 2279 قبل الميلاد . وقد اجتاح ما أسماه “جهات الأرض الأربعة ” ؛ كما حافظ على استقرار البلاد في إمبراطوريته من خلال حملاته العسكرية المتكررة .

أدى الاستقرار الذي وفرّته هذه الإمبراطورية إلى بناء الطرق ؛ وتحسين الري ؛ وتوسيع التجارة ؛ فضلاً عن التقدم في الفنون والآداب والعلوم . كما ابتكرت الإمبراطورية الأكدية النظام البريدي الأول ؛ حيث الألواح الطينية المنقوشة في اللغة الأكدية المسمارية كانت محفوظة في ظروف بريدية خارجية طينية تحمل اسم وعنوان المستلم وختم المُرسل . وهذه الرسائل لا يمكن فتحها إلا من قبل الشخص المقصود ؛ لأن لا توجد طريقة لفتح الظرف الطيني إلاّ عن طريق كسره .

ومن أجل الحفاظ على سلطته في جميع أنحاء إمبراطوريته وضع الملك سرگون استراتيجية جديدة في منح المناصب الحكومية إلى مقرّبيه من هم أكثر ثقة في مختلف المدن وتوابعها . إذ كان “مواطنو أكد ” ؛ وكما يسميهم نص بابلي قديم ؛ “قد شغلوا مناصب سياسية وادارية لأكثر من 65 مدينة مختلفة تابعة للإمبراطورية “.

كما جعل الملك سرگون من ابنته (إنهيدوانا ) ؛ الكاهنة العليا لمعبد الإلهة إنانا في أور، والتي كانت قادرة على التعامل مع الأمور الدينية والثقافية وفق الأساليب الجديدة في فهم الدين . والمعروف عن حياتها ؛ يبدو أنها كانت كاهنة ذات شخصية قوية جداً بالإضافة إلى نشاطها الأدبي في تأليف الترانيم الرائعة للإلهة إنانا .

الملك ريموش

حكم الملك سرگون لمدة 55 عاماً ؛ وبعد وفاته خلفه ابنه “ريموش” (عام 2279-2271 قبل الميلاد) ؛ الذي اتبع سياسة والده في إدارة دفّة الحكم . ولكن بعض المدن قد انتفضت بعد وفاة الملك سرگون ، لذلك ؛ فقد قضى ريموش السنوات الأولى من حكمه في استعادة السيطرة على النظام ، وقام بحملة عسكرية ضد عيلام ، فحقق انتصاراً كبيراً عليها. وقد بيّن أحد النقوش ؛ أن ريموش قد جلب ثروة كبيرة إلى أكد .

حكم الملك ريموش تسع سنوات فقط قبل وفاته ؛ وجاء من بعده شقيقه “مانشتوسو” (عام 2271-2261 قبل الميلاد). وهناك بعض الآراء تؤيد بأن مانشتوسو قد تسبب في وفاة شقيقه كي يتولى هو العرش .

الملك مانشتوسو

أعاد التاريخ نفسه بعد وفاة ريموش ؛ واضطر مانشتوسو إلى قمع الثورات المنتشرة عبر الإمبراطورية قبل الانخراط في إدارتها . وبعد سيطرته عليها ؛ توجّه إلى تنمية التجارة . وحسب ما ورد في الألواح الطينية ؛ تمكن من توسيع التجارة الخارجية لتصل إلى منطقة “ماجان”( يُخمّن انها دولة الإمارات العربية وسلطنة عمان) ؛ و”مَلَيوخا ” (يُخمّن أنها صعيد مصر والسودان) .

قام الملك مانشتوسو بتنفيذ مشاريع كبيرة في الإعمار لتشمل جميع أنحاء الإمبراطورية . ويُعتقد أنه أمر في بناء معبد عشتار في نينوى ، والذي كان يُعتبر نموذج معماري رائع .علاوة على ذلك ؛ فقد قام بإصلاح الأراضي الزراعية ، وتطوير نظام الرّي .

والمعروف عن الملك مانشتوسو أنه قد قدّم للإمبراطورية الأكدية أكثر مما قدّمه والده وشقيقه .

تصف مسلة الملك مانشتوسو المحفوظة لدى متحف اللوفر في باريس ؛ توزيع قطع الأراضي على المواطنين ، وبعض التشريعات التي تنظّم حياة الناس في جميع أنحاء الإمبراطورية .

كانت وفاة الملك مانشتوسو غامضة إلى حد ما ، ولكن حسب رؤية بعض العلماء من بينهم ليك ، كان لها هذا الرأي :

” قُتل مانشتوسو على يد حاشيته بأختامهم الأسطوانية ؛ على الرغم من عدم وضوح الدوافع ” (ص111) .

الملك نارام ـ سين

جاء بعد مانشتوسو ابنه ” نارام ـ سين ” (عام 2261 ـ 2224 قبل الميلاد) ؛ الذي سلك طريق والده وعمّه في قمع الثورات والانتفاضات التي حصلت في أنحاء الإمبراطورية ؛ وحتى قبل أن يبدأ فعلياً في إدارة الحكم . ولكن بمجرّد أن بدأ ؛ ازدهرت الامبراطورية في عهده .

في السنوات الست والثلاثين التي حكمها الملك نارام ـ سين ؛ وسّع حدود الإمبراطورية ؛ وحافظ على النظام في الداخل ، وطوّر طرق التجارة ؛ وقام شخصياً بحملات عسكرية خارج منطقة الخليج ، وربما وصل حتى مصر .

لوحة النصر للملك نارام ـ سين (الموجودة حالياً في متحف اللوفر) ​​؛ تُجسّد انتصار الملك الأكدي نارام ـ سين على ملك اللولوبيين ” ساطوني ” (قبائل قاطنة في مناطق جبال زاگروس) ؛ إذ يظهر الملك نارام ـ سين على سفح الجبل يدوس بقدمه قتلى أعدائه.

ومثل جدّه ؛ فقد ادّعى لنفسه “ملك الجهات الأربع” . ولكن في خطوة أكثر جرأة منه ؛ بدأ في كتابة اسمه بإشارة تدل على أنه إله من آلهة بلاد الرافدين .

على الرغم من حكمه المشهود في إنجازاته الكثيرة والتي تُعتبر الذروة في عظمة الإمبراطورية الأكدية ، إلاّ أن الأجيال اللاحقة أقرنته بـ” لعنة أكد “؛ وهو نصّ أدبي نُسب إلى سلالة أور الثالثة ولربما كُتب في فترة أبكر من ذلك .

تدور أحداث هذه القصة الرائعة ؛ عن محاولة رجل طلب من الآلهة إجابة على أسئلته ؛ وهذا الرجل كان الملك نارام ـ سين . وحسب النصّ ؛ فإن الإله السومري العظيم (إنليل) قد رفع حمايته عن مدينة أكد ، ومنع الآلهة الأخرى من دخول المدينة ومباركتها . لكن الملك نارام ـ سين لم يكن يعرف ما يجب فعله لمواجهة ذلك الموقف الصعب ؛ فأخذ يصلّي ويطلب العون والبشارات من إلهه . واستمرّعلى هذا الحال لمدة سبع سنوات ولكن دون استجابة . أخيراً ؛ وبعد أن سئم الانتظار ؛ حشد جيشه وسار به إلى معبد إنليل في (إيكور) عند مدينة نيبور ودمرّه .

” جعل معاوله تحت جذوره ، وفؤوسه على أساساته ؛ حتى انهار المعبد كمحارب ميّت” (ليك ، ص 106) .

هذا الفعل المُشين بالطبع ؛ قد أثار غضب ليس الإله إنليل فقط ؛ بل الآلهة الأخرى الذين بعثوا (الگوتيوم Gutium ) ” قبائل لا تعرف الخوف ، تمتلك غرائز بشرية ؛ ولكن بذكاء الكلاب وطبائع القرود” ( ليك ص 106) ؛ لغزو مدينة أكد وجعلها رُكام . إذ انتشرت المجاعة الكبيرة بعد غزو الگوتيين ، وجثث الموتى المتعفنة كانت منتشرة في الشوارع والمنازل ؛ والمدينة في حالة خراب . وتستمر الحكاية بسقوط أكد وتفكك الإمبراطورية ؛ بسبب غطرسة ملكها في وجه إلهها .

رغماً من ذلك ؛ فلم يُعثر على أدلّة أثرية تؤكد قيام الملك نارام ـ سين بمهاجمة إيكور في نيبور، ولا عن تدمير معبد إنليل . حيث يُعتقد أن “لعنة أكد” ؛ هو نصّ كُتب في زمن متأخر للتعبير عن اهتمام عقائدي يركز على العلاقة التي يُفترض أن تكون صحيحة ما بين الآلهة والملك. وعندما اختار مؤلفها مدينة أكد وملكها نارام ـ سين ؛ كان بسبب مكانتيهما الأسطورية في ذلك الوقت . وكما تؤكد النقوش الأثرية على تقديس نارام ـ سين للآلهة عندما وضع نقش صورته بجانب صورهم في المعابد .

الملك شار ـ كالي ـ شاري

تولى العرش الإمبراطوري بعد وفاة الملك نارام ـ سين ؛ ابنه “شارـ كالي ـ شاري ” (عام 2223-2198 قبل الميلاد ) ؛ الذي كانت بداية حكمه صعبة جداً ؛ لأن توجّب عليه بذل قدر أكبر من العزم في إخماد الثورات بعد وفاة والده . ولكن على عكس أسلافه ، فقد بدا ضعيف القدرة في الحفاظ على النظام ؛ ومنع المزيد من الهجمات الخارجية على الإمبراطورية . كتبت البروفيسورة ليك التعليق التالي :

” على الرغم من جهوده وحملاته العسكرية الناجحة ؛ إلا أنه لم يكن قادراً على حماية دولته من التفكك ؛ وبعد وفاته شحّت المصادر المكتوبة ؛ في وقت ازدادت فيه الفوضى والاضطراب.” (ص 159)

من المثير للاهتمام كان أهم مشاريع الملك شار ـ كالي ـ شاري ؛ إعادة بناء معبد إنليل في نيبور ، وربما هذا الحدث إلى جانب غزو الگوتيين وانتشار المجاعة ؛ قد أدى إلى كتابة الأسطورة ( لعنة أكد ) .

لقد شنّ الملك شارـ كالي ـ شاري حروباً مستمرة ضد كل من العيلاميين ، الأموريين ، والگوتيين الغزاة ؛ ولكن اجتياح الگوتيين كان على الأكثر قد عجّل في انهيار الإمبراطورية الأكدية . ومع ذلك ترى الدراسات الحديثة ؛ أن تقلبات المناخ كانت سبباً محتملاً في حصول المجاعة ؛ وربما اضطراب خطوط التجارة أيضاً قد أسهم في ضعف الإمبراطورية لدرجة أن طبيعة الغزوات والثورات التي تم سحقها في الماضي ، لم يعد من الممكن أن يستمر التعامل معها بسهولة .

آخر الملوك الأكديين بعد وفاة الملك شارـ كالي ـ شاري ، كان “دودو” ؛ وابنه “شوـ تورول” ؛ وكان حكمهما قد شمل فقط ؛ المنطقة المحيطة بمدينة أكد . ونادراً ما ذُكِروا ضمن سلسلة ملوك الإمبراطورية في الألواح الطينية.

أخيراً ؛ فإن نهوض مدينة أكد وسقوطها ؛ بقي لغزاً حيّر علماء الآثار والباحثين كثيراً. كما أن هذه المدينة التي حكم ملوكها إمبراطورية مترامية الأطراف ؛ كانت تُعدّ أول إمبراطورية في العالم القديم قد خلّدها التأريخ .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صموئيل نوح كريمر ـ السومريون ؛ تاريخهم وثقافتهم ـ مطبعة جامعة شيكاغو ـ 1971 .

گويندولين ليك ـ بلاد الرافدين ؛ اختراع المدينة ـ بينجين للكتاب ـ 2002 .

ويل ديورانت ـ قصة الحضارة ؛ تراثنا الشرقي ـ سايمون وشوستر للنشر ـ 1954.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here