أين موقع الشرق الأوسط في النظام الدولي الجديد؟

أين موقع الشرق الأوسط في النظام الدولي الجديد؟
حميد الكفائي

النظام العالمي يتشكل من جديد للمرة الثالثة منذ انتهاء الحرب الباردة، فبعد أن كان ثنائي القطب لأربعة عقود، أصبح أحادي القطب لعقدين، ثم عاد ثنائي القطب بعد صعود الصين الاقتصادي، بينما يتجه الآن نحو التعددية القطبية، مع استمرار الزعامة الأمريكية للعالم الحر.

ولكن أين الشرق الأوسط من كل هذه التغيرات العالمية المتلاحقة؟ ولماذا ظل التعاون والتقارب العربي مجرد شعار بعد مرور أكثر من مئة عام على رفعه؟

أوروبا الغربية بدأت منذ عام 1945 السعي الجدي للتكامل السياسي والاقتصادي، برعاية الولايات المتحدة، كي تحمي مصالحها وتصون أنظمتها السياسية وحرية شعوبها، وتتجنبَ الحروب المدمرة، خصوصا وأنها تسببت في اندلاع حربين عالميتين خلال أربعة عقود.

وقد ازداد التكامل الأوروبي تماسكا وقوة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 عندما تطورت المجموعة الأوروبية إلى “الاتحاد الأوروبي” الذي تبنى عملة “اليورو”، ماضيا نحو التوحد بخطى حثيثة، الأمر الذي شجع على سعي دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق على الانضمام إليه.

وتسعى الدول الأوروبية منذ عقود إلى تأسيس قوة عسكرية تضطلع بالدفاع عنها، كي تقلل من اعتمادها على حلف الناتو، الذي تقوده الولايات المتحدة. وقد لاقت هذه الفكرة اهتماما كبيرا وأصبحت أكثر إلحاحا بعد الحرب الروسية-الأوكرانية الحالية. وقد تنبه الأوروبيون إلى ضرورة أن تكون لهم قوة عسكرية مشتركة تلبي حاجاتهم الأمنية والدفاعية، بعد أن عجزوا عن إيقاف الحرب في البلقان، التي دارت رحاها لأربع سنوات في مطلع التسعينيات، والتي راح ضحيتها آلاف المدنيين، ما اضطر الولايات المتحدة إلى إرسال طائراتها عبر الأطلسي لردع صربيا في حربها ضد مسلمي البوسنة والهرسك، وما كانت تلك الحرب لتنتهي لولا تدخل الولايات المتحدة العسكري المباشر.

دول أمريكا الجنوبية شكلت هي الأخرى عام 1991 تكتل “ميركوسور”، للتعاون الاقتصادي والسياسي، الذي يضم 15 دولة، بما في ذلك نيوزلندا التي تحمل صفة مراقب حاليا، (تناقص العدد إلى 14 عضوا بعد إلغاء عضوية فنزويلا عام 2016 إثر عدم توقيعها ميثاق المنظمة). لقد سعى أعضاء ميركوسور إلى تطوير هذا التكتل ليصبح سوقا حرة وكتلة سياسية واقتصادية متماسكة تخدم شعوب أمريكا الجنوبية، وتجنِّبها الصراعات، وتساهم بفاعلية في الاقتصاد العالمي.

وفي آسيا، شكلت دول جنوب شرق آسيا تجمع “آسيان” عام 1967، الذي قام هو الآخر على أسس اقتصادية، لكنه في الحقيقة عمل بنجاح على تجنيب المنطقة الصراعات المحتملة، إذ كانت تلك المنطقة تُقارَن سابقا بدول البلقان، من حيث شدة الاختلافات واحتمالات اندلاع الصراعات والحروب فيما بينها، لكنها أصبحت دولا متماسكة وتحولت في ظل “آسيان” إلى دول صناعية مستقرة ومتعاونة. ولا ننسى أن بين أعضائه فيتنام وكمبوديا ولاوس، التي عانت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من حروب راح ضحيتها الملايين من مواطنيها.

وقد ظلت الولايات المتحدة تراقب هذه التجمعات الدولية وترعاها كي لا تنزلق للتحالف مع خصومها، وتعمل على تعزيز علاقاتها معها، خصوصا مع دول الاتحاد الأوروبي وميركوسور، إضافة إلى تعاونها الوثيق مع الدول الصناعية السبع التي تضم اليابان وكندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، والولايات المتحدة.

كما سعت الدول الافريقية إلى التقارب مع بعضها فأسست الاتحاد الأفريقي عام 1999 ليكون نواة للتكامل الاقتصادي والتفاهم السياسي وحل الخلافات بين أعضائه الـ55.

وتتفاوت العلاقات بين أعضاء هذه التكتلات في قربها ووثاقتها، فهناك علاقات ثنائية متطورة بين بعض أعضائها ودول خارج عضويتها، أكثر تطورا مما تتمتع به الدول الأعضاء. هناك مثلا تحالفات من نوع آخر، مثل حلف الناتو، الذي يرتبط أعضاؤه بعلاقات متطورة مع بعض أعضاء هذه التجمعات، وأخرى خارجها، اعتمادا على القرب السياسي والاقتصادي والسياسي والمصالح المحتملة والمواقف الجيوسياسية.

دول أوروبا الغربية واليابان وكندا وأستراليا مثلا هي الأقرب إلى الولايات المتحدة ثقافيا وسياسيا، حتى من أعضاء حلف الناتو الآخرين. تركيا، مثلا، وهي عضو في حلف الناتو، لكنها ظلت لسنين عديدة في صراع مع اليونان وهي عضو آخر في حلف الناتو، وكذلك في الاتحاد الأوروبي، الذي كانت تركيا تطمح أن تنضم إليه.

ولا يمنع أن تبرز الخلافات والتنافسات بين أعضاء هذه التكتلات، فهذا أمر حتمي وطبيعي بين الدول، لأن التنافس هو الأساس الذي تقوم عليه دول العالم، فقد تتطلب مصلحة دولة ما أن تعرقل مصلحة دولة أخرى، أو تقف ضدها، وهكذا، لكن الهدف من إقامة مثل هذه التجمعات الدولية هو التباحث حول أفضل الطرق المؤدية إلى حل الخلافات سلميا بما يخدم مصالح الجميع.

في العالم العربي، تأسست الجامعة العربية أثناء الحرب العالمية الثانية، قبيل انتهائها بستة أشهر، وكانت الدول المؤسسة لها ستّا، وهي مصر والعراق والمملكة العربية السعودية وسوريا والأردن ولبنان، ثم انضمت اليمن بعد شهرين من التأسيس، بينما انضمت الدول العربية الأخرى تباعا، حتى أصبح عدد الأعضاء 22 عضوا.

لقد بدأت الجامعة وكأنها تجمع أخوي للدول العربية، يلبِّي طموحا جياشا بين الشعوب العربية، وشكلت أملا للجماهير العربية بتقارب عربي وثيق، أو ربما وحدة عربية عند البعض، لكنها لم ترتقِ إلى الطموحات العريضة للشعوب العربية، بل لا يمكن القول إنها تمكنت أن تنجز شيئا يذكر، على مدى 77 عاما من عمرها المديد. وقد يتساءل المرء، ما السبب في هذا الفشل؟ وهل هو فشل فعلا، أم أن الجامعة أساسا لم تؤسس من أجل التقارب السياسي والاقتصادي بين الدول العربية، بل هي مجرد هيئة للتباحث في الشؤون المشتركة والطارئة؟

مع ذلك فلابد من الإشارة إلى وجود أسباب موضوعية وأخرى طارئة ساهمت في عدم تطور الجامعة العربية وبقائها على حالها منذ التأسيس. أهم هذه الأسباب هو النظرة الطوباوية عند بعض الأنظمة الثورية التي اجتاحت العالم العربي في فترة الخمسينيات والستينيات، والتي شرَّعت لنفسها التدخل في شؤون الدول الأخرى بحجة القومية والوحدة العربية وما إلى ذلك من شعارات.

وحينما تتدخل أي دولة في شؤون دولة أخرى، فإن الجهود سوف تتجه نحو التصادم ودرء الأخطار بدلا من التعاون والتماسك وجلب المنافع. يضاف إلى ذلك التصورات المفرطة في تقدير الإمكانيات والاحتمالات عند شرائح معينة في المجتمعات العربية، مثل العسكر وبعض الطبقات المتعلمة الحالمة بمستقبل متخيَّل، التي صورت للشعوب العربية أن هناك إمكانياتٍ هائلةً لدى الأمة العربية، وأن بإمكانها القفز إلى مقدمة العالم بمجرد القيام ببعض الإجراءات الشكلية!

غير أن الدول العربية متفاوتة اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، وهذا التفاوت كان يتطلب أن تسلك كل دولة طريقا مختلفا عن الأخرى، سياسيا واقتصاديا، كي تبلغ التقدم وتحقق التنمية الاقتصادية التي ينشدها شعبها. فالدول التي عملت بالممكن واستثمرت الإمكانيات الطبيعية والبشرية المتاحة لها، نجحت وتطورت واستقرت، بل وتقاربت كما حصل في دول الخليج العربي، التي حققت نجاحات مبهرة في التنمية الاقتصادية والتطور في مجالات التعليم والصحة والنقل والخدمات والبنى الأساسية، وكذلك في مجال النشاط الاقتصادي والحريات العامة والخاصة لمواطنيها.

والأمر نفسه ينطبق إلى حد بعيد على دول عربية أخرى حققت استقرارا وتقدما وتنمية اقتصادية وبشرية ملحوظة، كالمغرب والأردن ومصر وتونس. أما الدول التي اجتاحتها الموجات الثورية وكان لها طموح جامح، وسعت لأن تختصر المراحل وتقفز من القاع إلى القمة، كالعراق وليبيا وسوريا واليمن والسودان (ومصر حتى مطلع سبعينات القرن الماضي)، فلم تحقق غير التراجع والخيبة لسكانها، والأذى وعدم الاستقرار لجيرانها.

العالم يتشكل الآن مرة أخرى، وهناك أخطار تتهدد المنطقة العربية، خصوصا وأن جارتيها الكبيرتين، الشرقية والشمالية، إيران وتركيا، تسيران في مسارات أيديولوجية مختلفة، بل متعاكسة، مع المسارات العربية التي تسعى نحو الاستقرار والتنمية الاقتصادية والانسجام مع المجتمع الدولي، بينما تسعى كل من تركيا وإيران إلى الهيمنة عبر التشدق بأيديولوجية دينية، تقوم على زعزعة استقرار المنطقة وإضعاف دولها بهدف جعلها تابعة لها. ومقابل هذا الخطر، أصبح ضروريا على الدول العربية أن تنسق جهودها وتستثمر إمكانياتها من أجل أن تسند بعضها بعضا، اقتصاديا وسياسيا، وربما عسكريا في المستقبل.

الدول العربية الكبرى، يمكنها أن تشكل تجمعا اقتصاديا وتحالفا سياسيا وحتى عسكريا، قائما على احترام سيادة كل منها وعدم التدخل في الشؤون السياسية الداخلية لبعضها البعض، ولكن في الوقت نفسه، التباحث والتنسيق حول أفضل السبل للتعاون الاقتصادي والثقافي والأمني، وكيفية تحقيق الاستقرار في المنطقة والتماسك بين دولها، سواء عبر توثيق العلاقات الثنائية، أو عبر اتخاذ مواقف دولية موحدة أو متقاربة، يمكنها أن تخدمها جميعا.

لقد تأخرت الدول العربية كثيرا في أن تنشئ تجمعا أو تكتلا قابلا للحياة والتطور خلال المئة عام المنصرمة، لكن هذا التأخر يجب ألا يكون عائقا الآن أمام البدء بخطوات حثيثة نحو التقارب والاستفادة من الإمكانيات المتاحة لكل منها. المرحلة تتطلب مراجعة للمسيرة السابقة، والاستفادة من الأخطاء، والاستعداد لدخول مرحلة جديدة تفرضها التطورات الدولية المتسارعة.

لا شك أن الدول العربية بمجموعها تمتلك إمكانياتٍ بشريةً وطبيعيةً وصناعيةً وعسكريةً واقتصاديةً كبيرة، إن أُحْسِن استغلالُها بعقلانية، وقد حان الوقت لاستثمارها من أجل الحفاظ على الكيان العربي العام من التشتت أو التفكك، وحماية المصالحة المشتركة للدول العربية، مع الإبقاء على التنوع السياسي والثقافي الحالي، الذي لا يؤثر على التعاون وتنسيق الجهود لمواجهة الأخطار والاحتمالات المستقبلية بكل أشكالها، بل سيكون عامل ثراء وقوة وتخصص لتحصين الشرق الأوسط من الأخطار في عالم يعج بالمتغيرات.

لم يعد الانتظار والتفرج على الأوضاع الدولية المتسارعة في مصلحة أي من الدول العربية، الكبيرة منها والصغيرة، والمطلوب هو الشروع في إجراءات التقارب والتعاون المشترك والوثيق والعمل بالممكن من أجل تحقيق الطموح. الجهود المنفردة التي تبذلها العديد من الدول العربية حاليا للحفاظ على استقلالها ومصالحها الاقتصادية، يمكن أن تتضاعف فائدتها إن كانت مشتركة ومنسقة مع الدول العربية الأخرى، التي لها اهتمامات مماثلة. الجهود المنفردة لن تصمد أمام التحديات الكبيرة التي تواجه العالم العربي حاليا.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here