مواجهة العولمة في فلسفة العلاقات الدولية

مواجهة العولمة في فلسفة العلاقات الدولية
الدكتور قاسم خضير عباس
كاتب سياسي وخبير القانون
الجنائي الدولي والعلاقات الدولية
[email protected]
نشر استانلي هافمن وهو من الفلاسفة المبتدئين، وأشهر المنظرين في العلاقات الدولية، وأستاذ مادة القانون الدولي والعلاقات الدولية في جامعه هارفارد مقالاً بعنوان (مواجهه العولمة)، في مجلة فورين افيرز (الشؤون الخارجية) الأميركية الفصلية في أغسطس عام 2002.
لقد كان هدف هافمن من كتابة مقاله هو نقد وجهه النظر التفاؤلية في مقال توماس فريدمان (العولمة)، المنشور في صحيفة نيويورك تايمز، والتي وصفها بأنها: بمثابة خداع للعقل وأوهام غير منطقية، كالذي وضع سترة من ذهب على أكتاف الجماعات المتمردة والمقاتلة الإرهابية، وصار يجبرهم أن ينساقوا إلى منطق العولمة الذي تشيد كذباً على ركني الديمقراطية والسلام!!.
في البدء حاول هافمن في مقاله النقدي أن يشرح وجهه نظر توماس فريدمان التفاؤلية، ثم انتقدها نقداً موضوعياً مستنداً إلى حقائق التاريخ ومنطق العلاقات الدولية، وقواعد القانون الدولي العام والمعاهدات الشارعة والثنائية، ولذا فقد طرح سؤاله الحيوي في مطلع مقاله: في أية ظروف ومناخ تعيش العلاقات الدولية الآن؟
وأجاب هافمن على هذا التساؤل بصوره عامه، من خلال شرحه للعلاقات الدولية في التسعينيات، حيث ظهر أنَّ معظم البلدان التي دخلت لعبة التوازنات الدولية، اكتشفت أنه بدون وجود مؤسسات قوية ومتينة، وبدون وجود سيادة، وتماسك داخلي، ووعي وطني، وثقافة محلية منطقية فإنها: ستكون حكومات فاشلة ودكتاتورية ولا تعبر عن مصالح شعوبها.
ويضيف هافمن بأنه: بعد انتهاء التهديد الشيوعي للغرب من جانب الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا، ظهرت التوترات العرقية التي كانت مستترة تحت غبار الزمان. وكانت هذه التوترات تأجج من قبل الغرب باسم العولمة مستندة للفكر القومي للأقليات العرقية والإثنية في الشرق الأوسط، بسبب ضغوط الميول إلى الاستقلال، في العراق وسوريا ومصر والسودان وأفغانستان، وفي هايتي التي قام حكامها بإشعال الحروب والصراعات ضد شعوبهم.
وتم إشعال هذه الحروب والتوترات بتشجيع من الغرب، الذي أظهر أهمية استراتيجية لتدخلاته الخارجية وأسماها تدخلات إنسانية، وهذا ولدَّ انتكاسة لمبادئ السيادة المقدسة التي أقرتها مبادئ ميثاق منظمة الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية. ويصف هافمن مميزات هذه المرحلة الخطرة التي تتلخص في اصطدام ظاهرتين متضادتين: تجزئه الحكومات والعولمة.
وأتصور من خلال خبرتي القانونية في القانون الدولي العام والعلاقات الدولية أنَّ: هافمن يعرف أنَّ العولمة ضد التجزئة، ولذا يستغرب من استغلال الغرب لتجزئة الدول، في صالح العولمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في النظام الدولي الجديد بقياده الولايات المتحدة الأميركية، من خلال خلق بؤر توتر تسمى في الاستراتيجية الأميركية الخارجية (المناطق الساخنة)، أو المناطق المتنازع عليها، في الدول التي فيها قوميات عرقية إثنية متنوعة.
وقد كتب رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق (بيريز) كتاباً بهذا المعنى، شرح فيه ضرورة تغيير مصطلح الشرق الأوسط الجديد إلى الشرق الأوسط الكبير، لتجزئة وتفتيت الدول العربية والإسلامية، كالعراق وسوريا والسودان ومصر، لكي تكون ملامح المنطقة بعيون اقتصادية (أميركية إسرائيلية)؛ وهذا ما يحدث بالضبط في تنفيذ صفقة القرن، التي روج لها الرئيس الأميركي السابق (ترامب) وصهره اليهودي (كوشنير)، بمباركة من (تل أبيب).
إنَّ هوفمان تنبأ لمخاطر المرحلة التي نمر بها الآن بعقله الفلسفي المنطقي، وقد شرح بالتفصيل خلفيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي كانت مدخلاً لصنع أحداث تالية تخدم المصالح الأميركية، على حساب شعوب منطقة الشرق الأوسط ودولها. لقد حاول هوفمان بتجرد وموضوعية أن يستخلص المعاني والعبر المخبئة وراء هذا الحدث الكبير وقال: (في الاستنتاج المتعارف عليه في العلاقات الدولية، وقواعد القانون الدولي العام، تحدث الحرب بين الحكومات، أما ما حدث في شهر أيلول (سبتمبر) فقد قامت به عناصر مسلحة متطرفة، وبشكل غريب لتحدي القوى العظمى المسيطرة على العالم. وهذه الهجمات الإرهابية أظهرت بأنَّ العولمة رغم فضائلها، إلا أنها تسنح الفرصة بسهوله لمتطرفين ومتعصبين مذهبيين يائسين ليقوموا بأعمال عنف مهولة؛ الإرهاب هو الترابط الدموي بين النظام الدولي المنظم من الغرب والمجتمع العالمي المحكوم بقسوة وظلم من الغرب).
وذكر هافمن ظواهر برزت في التسعينيات شكلت معالم النظام الدولي الجديد، والانطلاق منه إلى النظام الدولي الكبير الأكثر خطورة وعنف. ويمكن من خلال هذه الظواهر لأي محلل سياسي واستراتيجي أن يتنبأ بما سيحصل للمنطقة، بسبب الدوافع السياسية الغربية لحماية (إسرائيل)، والحصول على بترول الخليج العربي بسهولة، وإقامة القواعد العسكرية الأميركية في الخليج والعراق وسوريا والمناطق القريبة منهما، لتنفيذ صفقة القرن سيئة الصيت وغيرها من الصفقات المريبة والتطبيع مع الصهاينة؛ لقد تميزت مرحلة السبعينيات وإلى الآن بوجود ظاهرتين يمكن ملاحظتهما بسهولة:
الظاهرة الأولى: وجود مقولات (نهاية التاريخ) للمفكر الأميركي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما، الذي توقع نهاية التاريخ بعد انتهاء الاتحاد السوفيتي وشطبه من الخارطة السياسية، ونادى بإيجاد عدوٍ بديلٍ عن الشيوعية لاستمرار هذا الصراع. وقد نشرت صحيفة (الفور وارد) الأميركية المتزمتة، مقالات لمفكرين أميركيين واستراتيجيين كمارتن أندك، ودينيس روس، وكيسنجر وغيرهم، حيث نظروا لشعار (الإسلامية بديلا عن الشيوعية)، لحفظ مصالح الولايات المتحدة الأميركية على حساب مصالح شعوب المنطقة.
وقد واجه فوكوياما فشلاً ذريعاً وإحباطاً، في شرح وتعليل ظاهرة استمرار النعرة القومية المتطرفة للغرب، التي تقود لتجزئة الدول إلى دول صغيرة وضعيفة، وغض النظر عن الطاقات الانفجارية للحروب الطائفية، التي اتسعت الى نطاق واسع من العالم الإسلامي والعربي.
الظاهرة الثانية: بروز المقولات الاستعلائية لصموئيل هانتيغتون، الذي يرى بأنَّ العنف هو نتيجة للفوضوية الدولية، وافتقار الدول والمؤسسات المشتركة لقيم الغرب وأخلاقياته، وهذه الفوضى الدولية ستحدث بين الحضارات بدلاً عن الحكومات، وهو صراع بين حضارة الغرب وحضارة العرب المسلمين.
وأرى أنَّ ذلك هو وهم التفوق الفكري للغرب، وتهميشه للثقافات الأخرى واقتناصها، لأنَّ مفهوم الحضارة في فكر هانتيغتون مفهوماً عنصرياً وغامضاً وضبابياً. وبهذه الضبابية وعدم الوضوح والعنصرية يعجز هانتيغتون -كما عجز فوكوياما-عن عرض دلائل مقنعه في باب الصراعات والتجاذبات، ضمن سياق ما يسميه هو بالحضارة؛ ولذا كان فاشلاً في إقامة علاقة بين حضارة ما والسياسة الخارجية للحكومات الأعضاء في تلك الحضارة.
وهكذا بواسطة التحليل الفلسفي للمقولات التنظيرية الاستعلائية في الفكر الرأسمالي الراديكالي الكلاسيكي والنيوكلاسيكي، يتبين لنا أنَّ هاتين الظاهرتين اللتان تكلمنا عنهما بشي من الإيجاز تتحكمان في العلاقات الدولية، التي لم تحصل فيها أية تغييرات إيجابية منذ زمن ميكافيلي وتوسيديد.
ومن المفيد أن نذكر بأنَّ توسيديد يرى بأنَّ: التوازن الدولي لا يكون إلا عن طريق القوة العسكرية وفرضه عنوة وقسوة، مع وجوب تسليح الدول الكبرى نفسها من أجل إخضاع الدول الأخرى. في حين أنَّ ميكافيلي يؤمن بأنَّ الغاية تبرر الوسيلة، فالوسائل القذرة تُبَرر إذا كانت غاياتها شريفة، واحتلال الغرب للشرق ضرورة تبررها الغايات الشريفة المتمثلة بالمصالح، وإن رافقها جرائم بيولوجية وتطهير عرقي وجرائم حرب وإبادة جماعية !!
والمعروف أنَّ هذه الاتجاهات الفكرية الاستعلائية العنصرية جاءت لتنمية القدرة العسكرية والاقتصادية للغرب، على حساب شعوب ودول المنطقة، وتحديد مصير الدول الضعيفة في العلاقات الدولية. بلحاظ أنَّ العلاقات المتقابلة للدول الضعيفة في المؤسسات والمنظمات الدولية، تعتبر ظواهر هشة وثانوية، في قبال القوة العسكرية للدول الكبرى. فهذه القوة هي التي تحدد أهداف هذه المؤسسات الدولية وترسم سياستها، وتحدد أيضاً نسبة التهديدات التي تواجه مصالح الغرب، وتنصح قبالها باستخدام القوة المسلحة وإن كانت مفرطة لنهب ثروات الشعوب.
إنَّ ملامح العلاقات الدولية على وفق هذه الرؤية المتزمتة والعنصرية هو ما تم طرحه من قبل هنري كيسنجر، ودنيس روس، ومارتن أندك، الذين سعوا إلى احتلال الشرق الأوسط بالقوة العسكرية المفرطة، من أجل المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وأولها الحصول على البترول وحماية أمن (إسرائيل)؛ وأول الخطوات في هذا الاتجاه هي تجزئة الدول واقتناص ثقافات الآخرين والقضاء على ما تبقى من حضاراتهم.
وبهذا الفكر الاستعلائي الاقصائي العنصري تتوضح حجم الصعوبات التي تواجه العلاقات الدولية اليوم، مع تهديد السلم والأمن الدوليين الذي نادت به الأمم المتحدة في ميثاقها وعبر مؤسساتها ومنظماتها الدولية، والقضاء على مبدأ حُسن النية في المعاهدات والعلاقات الدولية، وإنهاء التعايش السلمي بين الدول من خلال الانتقال بحوار الحضارات إلى صراع الحضارات.
لقد همش هذا الفكر العنصري ضرورة التعاون الدولي لجميع دول العالم على وفق مبدأ المساواة، والذي فرضته التهديدات المصيرية الجديدة مثل انتشار أسلحة الدمار الشامل والأسلحة البيولوجية، وتحديات العمليات الإرهابية والجريمة المنظمة، وتجاهل العامل الأخلاقي الإنساني في حفظ حقوق البشر دون تمييز بينهم على أساس اللون أو العرق أو الجنسية.
وأرى بصفتي رجل قانون وخبيراً بالقانون الجنائي الدولي أنَّ الظواهر العنصرية الغربية، التي تحكمت بالعلاقات الدولية الآنية ظهرت نتيجة لثلاث فرضيات:
الفرضية الأولى: إنَّ التنافس والصراع لم ينته بين القوى الكبرى ذاتها بشكل نهائي؛ والحرب بين روسيا وأوكرانيا خير دليل. ولذا فإنَّ الدول الصغيرة والضعيفة في العالم الثالث وفي الشرق الأوسط يمكن أن تستفيد من هذا التنافس، والحصول على بعض المصالح الوطنية، من خلال فهم العامل الدولي وعدم الدخول في خضمه، فهناك فرق بين فهم العامل الدولي واستغلاله وبين الدخول في خضمه، فالأول يحفظ مصالح الدول والثاني يحفظ مصالح الغرب وترك المصالح الوطنية.
وهناك ملاحظة جديرة بالتأمل وهي أنَّ الدول التي تخدم مصالح الغرب وتترك مصالحها الوطنية، ستواجه من الغرب ذاته بإثارة النعرات الطائفية والعمليات الإرهاب فيها، لكي تبقى هذه الدول ضعيفة تعيش في صراعات داخلية وإقليمية، من أجل السيطرة على ثرواتها ونهب خيراتها، وضمان بقائها في محور الذل والمهانة.
الفرضية الثانية: إنَّ الحرب أصبحت أقل عمومية بين دول العالم الثالث وبين الغرب، بحيث تحولت إلى صراعات وحروب داخلية في دول الشرق الأوسط تحديداً، واحتجاجات شعبية مطلبية وتظاهرات ضد الحكومات العميلة، كما في الربيع العربي المخطط له غربياً، بتشجيع من الناشطين المدنيين المرتبطين بالسفارات الأجنبية وتجنيدهم كجواسيس.
والدول الغربية في هذه المرحلة تظهر وكأنها غير راغبة بهذه الحروب الداخلية، وحامية للحقوق المدنية وحقوق الإنسان، لكنها عندما تحس بأنَّ مصالحها مهددة تتدخل عسكرياً باسم العولمة السياسية، بحجه إيقاف جرائم الإبادة الجماعية وحماية الحريات الأساسية وحقوق المرآة.
الفرضية الثالثة: تدور حول طبيعة السياسة الخارجية للدول، وتأثرها ليس فقط بالعناصر (الجيوبولوتيكية) بل أيضاً بقدرتها وقوتها العسكرية والاقتصادية، وتأثرها بقوة السياسة الداخلية وأثرها على الخارج. ولذا فإنَّ الغرب يسعى لأنَّ تكون سياسته الداخلية والخارجية قوية باتجاه حفظ المصالح الاستراتيجية، وتدفق البترول، وحماية أمن (إسرائيل)، وهذه الأسباب دعت واشنطن لإيجاد مجاميع إرهابية إسلامية متطرفة كالقاعدة وداعش، وقد اعترف بذلك الرئيس الأميركي السابق ترامب.
إنَّ الرأسمالية النيوكلاسيكية مبنية على العولمة ونظام الحكومة المتمتعة بالقوة والحيوية، لكنها تختزل عناصر غير واضحة ومبهمة وخيارات صعبه في مواجهه تحدي التهديد الإرهابي. خصوصاً وأنَّ المقولات العنصرية للغرب تتجنب ذكر مبادئ القانون الدولي العام في العلاقات الدولية، كمبدأ حسن النية والرضا والمساواة وعدم استعمال القوة العسكرية المفرطة. وهذا التوجه مستوحى من كتاب هوبس (الدولة ذات النظام الدكتاتوري)، الصادر عام 1961 والذي وصف العالم بأنه: عبارة عن غرائز نرجسية ولا وجود للقانون، وطالما لا وجود للقانون فلا وجود للظلم، ومن واجب الدول أن تعتدي على غيرها لحماية مصالحها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here