صفحة من خواطر سجنية إيرانية

صفحة من خواطر سجنية إيرانية
عادل حبه
في عام 1970، لم يبق من فترة محكوميتي البالغة سبع سنوات سوى سنة واحدة قضيت ست سنوات منها مع رفاقي في سجن قصر- طهران. وقد أنهى الرفاق العراقيون مدد محكوميتهم التي تراوحت بين سنتين وأربع وخمس سنوات وأطلق سراحهم، حيث جرى تسليم كاظم المالكي ومحمد الحمداني إلى السلطات العراقية عبر معبر الشلامجة في البصرة لكونهما يحملان الجنسية العراقية، في حين أطلق سراح محمد علي سيادت ومحمد حسن عيدان وسعيد المسعودي، إذ تمكنوا قبل إعتقالهم من الحصول على جنسيات إيرانية.
في ذلك العام إمتلأت السجون الإيرانية بمعارضي الحكم من الإيرانيين، وكان ذلك مؤشر على تململ وحراك شعبي ضد الوضع القائم. وتراوح المعارضون بين منتسبي تيارات يسارية مختلفة أو وطنية أو دينية أو من المثقفين وحتى من أنصار الحركات الفلسطينية. وضم قاطع رقم ثلاثة وأربعة في سجن قصر الضيوف الجدد. وإقتصر قاطع رقم ربعة على السجناء المخضرمين من ذوي المحكوميات الثقيلة بشكل عام، وجُلّهم من منتسبي حزب توده إيران، وخاصة أعضاء تنظيم الضباط التابع لحزب توده إيران والفرقة الديمقراطية الآذربايجانية والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وحزب نهضة الحرية بزعامة آية الله سيد محمود الطالقاني الموالي للزعيم الوطني الراحل الدكتور محمد مصدق،علاوة على أنصار التيار الديني المتشدد الموالي لزعامة روح الله الموسوي الخميني وتيارات دينية أخرى مثل حزب الأمم الإسلامية الذي يضم غالبيه من الشباب، وتيارات متطرفة دينية من بقايا أنصار منظمة “فدائيان إسلام” التي نشطت في عقد الاربعينيات والخمسينيات والتي تأثرت بحركة الأخوان المسلمين في مصر. في عام 1969 و1970 جرى تغير ملحوظ في التركيبة العمرية للسجناء حيث طغت فئة الشباب بشكل ملحوظ على تركيبة السجناء السياسيين في إبران.
التركيبة الجديدة من المعتقلين والسجناء الشباب الجدد بغالبيتهم متأثر بتجارب الحركات السياسية التي سادت في العالم خاصة في حقبة الستينيات من القرن العشرين. فمثل هؤلاء الأعلى هي التجربة الكوبية والصينية والفيتنامية والألبانية والفلسطينية، بما يعني الميل صوب إسلوب الكفاح المسلح والعنف الثوري. هذه التنظيات التي يغلب عليها فئة الشباب بالطبع وقفت على مسافة من التنظيمات السياسية التي انتعشت في فترة الأربعينيات والخمسينيات مثل حزب توده إيران والجبهة الوطنية الإيرانية وغيرها من الأحزاب التي عملت في تلك الفترة والتي تجنح نحو النضال السلمي بشكل عام.
ما أن وطأت أقدام هؤلاء الشباب قاطع 4 في سجن قصر في العاصمة طهران، حتى تحول السجن إلى منتدى للبحث والنقاش وتبادل الآراء بشكل ملفت. ودار النقاش بالأساس حول مسؤولية الأحزاب في تتابع الأحداث في إيران خاصة عشية إنقلاب وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والإطاحة بحكومة الدكتور محمد مصدق عام 1953، ما تبعته من تصفيات واسعة للأحزاب الوطنية واليسارية، إضافة ألنقاش حول سبل تغيير الوضع القائم وحكم الشاه، الطريق السلمي أو العنفي. لقد شكل السجناء والمعتقلون حلقات نقاشية لم تخلو من الحماوة والحدة أحياناً، وكان يحد منها شعور الجميع بأنهم جميعاً أسرى النظام الشاهنشاهي المستبد، وما عليهم إلا الجنوح إلى النقاش الهادىء للوصول إلى الوسيلة والطريق لتحقيق أهدافهم. وتولى محور النقاشات سجناء التنظيم العسكري لحزب توده ايران وبعض قادة الحزب الذين اعتقلوا في مطلع الستينيات وهما علي خاوري وبرويز جكمت جو المحكومان بالحكم المؤبد. كما شاركت في هذه النشاطات والحوارات على قدر إمكانياتي وتجربتي.

به آذين فريدون تنكابني
ولم تخلو هذه الحلقات من الإستماع إلى محاضرات بعض السجناء والمعتقلين حول مواضيع تتعلق بالثقافة والأدب والعلوم، خاصة وقد كان من جملة المعتقلين الروائي والمترجم الإيراني الشهير به آذين ( محمود إعتماد زاده) والكاتب الساخر فريدون تنكابني الذين أعتقلا بسبب نشاطهما في إتحاد الكتاب الإيرانيين المحظور من قبل الحكومة الإيرانية. هذا إضافة إلى محاضرات علمية قدمها المهندس مهدي بازركان من قادة حزب نهضة الحرية والدكتور يد الله سحابي الذي قدم محاضرات في موضوع البلنتولوجيا. كما طلب مني تقديم محاضرة علمية حول “تكون النفط وهجرته في منطقة الشرق الأوسط” ومحاضرة طلبها الشيخ الجليل سيد محمود الطالقاني حول “أسباب هزيمة العرب في حزيران عام 1967”.

سيد محمود الطالقاني في سجن قاطع 4 قصر
وهكذا تحول قاطع 4 في سجن قصر إلى منتدى سياسي وثقافي وعلمي، الذي أمتدت أصداؤه إلى خارج السجن، مما أثار حفيظة الحكم في إيران، خاصة وإن العديد من المعتقلين والسجناء الشباب شرعوا يإعادة النظر في مواقفم المتشددة بإتجاه تبني مواقف أكثر واقعية بعيداً عن التطرف الديني أو التطرف اليساري. إعتبر الحكم إن ما يجري في السجن يلحق الأذى السياسي والمعنوي والفكري بالحكم الشاهنشاهي. وكان أول إجراء إتخذته هو تشتيت هذا الجمع عن طريق نقلهم إلى مختلف السجون الإيرانية في المدن والمواقع خارج العاصمة الإيرانية. وكان من نصيبي الإنتقال إلى سجن مدينة يزد، وهي مدينة تقع في قلب الصحراء الإيرانية، وتحتفظ بالكثير من مواقع الطائفة الزرادشتية الأثرية.
أثارت قضية إبعادي، وأنا الذي لم يبق من مدة محكوميتي سوى بضعة أشهر، الكثير من الغضب والتساؤلات قي صفوف السجناء. وقد كتب عنها الروائي به آذين (محمود إعتماد زاده) في مؤلفه “مهمان آن آقايان”(ضيف أؤلئك الرجال)، وهي يوميات إعتقاله كما أشرت آنفاً.

كتاب “ضيف أؤلئك الرجال”
وردت في تلك اليوميات السطور التالية:” في إحدى الأمسيات، صدرت الأوامر لسجينان عراقيان بالاستعداد للإنتقال إلى سجن آخر، وهما سجين يعرف بتميم (إعتقل لعلاقته بالمخابرات العراقية وخرج من السجن عام 1978-ع) وآخر عادل حبه. الأول رجل نحيل، خشن، عبوس، عادة بلحية لبضعة أيام، يعيش بمفرده ولا أعرف عنه شيئاً أكثر. أما الآخر، عادل، فهو مهندس شاب هادئ ومنفتح وصادق ومطلع ويعيش في غرفة معنا، وما رأيته هو أنه يحظى بصداقة واحترام الجميع.
انتشر الخبر على الفور في السجن. وبدأ فتح وغلق الباب تباعاً في الغرفة لإستطلاع الأمر. وفتحت العيون على مصراعيها تعبيراً عن الدهشة والقلق نتيجة لهذه الأخبار:
“لماذا ؟ ماذا حدث؟ هل يتم إبعادهم ؟ أين يتم إرسالهم؟”.
لايمكن لأحد ان يعرف. ذهب رضا شلتوكي ممثل السجناء (سجين منذ 17 سنة آنذاك وعضو تنظيم الضباط التابع لحزب تودة وقضى في السجن ما يقرب من 30 سنة في عهد الشاه وفي عهد الملالي ثم توفي في السجن جراء إصابته بمرض السرطان-ع)، إلى إدارة السجن دون أن يحصل على أية توضيحات سوى تبعيد ثلاثة آخرين من القاطع الثالث السياسي في سجن قصر. وحدد موعد المغادرة الساعة الثالثة والنصف صباحاً.
دب النشاط بين السجناء بحماس بدم بارد مع حزن ذكوري مكبوت. وجرى العمل في عدة اتجاهات. قامت مجموعة بإعداد مراسيم الوداع تحت عريشة السجن. وراح آخرون لتأمين تفاصيل ما يحتاجه عادل في الطريق. وتم اختيار الكتب وتبادل الصور التذكارية، وتم تمزيق بعض الوثائق أو ترك بعضها في أيد أمينة. لا شيء ينسى. قام إسماعيل ذو القدر(عضو تنظيم ضباط حزب توده إيران، أمضى قرابة 30 سنة في سجون الشاه وسجون الملالي إلى أن تم إعدامه في حملة تنظيف السجون عام 1987-ع) بتهيئة الفاكهة والحلويات والمكسرات. وتولى عباس حجري(عضو تنظيم الضباط التابع لحزب توده إيران، وأمضى قرابة 30 سنة في سجن الشاه وسجون الملالي ثم أعدم في عام 1987-ع) بجمع مشبك الغسيل الخاص بعادل بنفسه، وبالإضافة إلى ملابسه وأثاثه ( وأهداه سجادة جميلة مصنوعة من وبر الجمل مازلت أحتفظ بها حتى حين اللجوء إلى بريطانيا-ع). وجراء برودة الطقس، زُوّد عادل ببعض الملابس الداخلية والبطانيات والبلوزات الصوفية وضعت في حقيبة يد واسعة. وزُوّد بترمس ماء مثلج وترمس آخر بالشاي. وتم توفير عصير الليمون لعادل الذي غالباً ماكان يصاب بنزلة برد في تلك الأيام الباردة. وقام الدكتور هاشم بني طرف بتزويده بعدة أنواع من الحبوب الطبية (عضو حزب توده إيران من أهالي الأهواز وقضى مدة 20 سنة في سجن الشاه-ع). أخيراً ، لم ينس رفاق الدرب الإيرانيين من جمع بعض المال لتغطية حاجاته في أول شهر أو شهرين من الترحيل.

عباس حجري رضا شلتوكي

هاشم بني طرف اسماعيل ذو القدر
ماذا يمكن أن يقال؟ هل هذا الاستعداد لمواجهة الوضع المفاجئ للسجن هي أقل ما يقدمه السجناء؟ إن هؤلاء الأصدقاء مهيئون وخبيرون في كل شيء، من تفاصيل سياستهم العملية فيما يتعلق بسلطات السجن إلى إمكانية التثقيف الذاتي والعمل والرياضة ومقابلة السجناء، أو من ما يعتبر عادة من عمل ربة المنزل مثل الطهي والتنظيف اليومي وشراء وتخزين الرز والفاصوليا، وتحضير معجون الطماطم أو المخللات للاستهلاك السنوي، وكذلك مربى الجزر، وهو رخيص جداً ويتم طهيه لفترة من الوقت لتناول العشاء.
ما هذا الوقت والصبر في تأمين كل هذه الأمور البسيطة! إنه أمر لا يصدق. لقد رأيت مرات عديدة أنه يتم توفير المنتج اليومي من الفلفل الأخضر الذي يزرعه عباس حجري في باحة السجن وجلبه إلى الغرفة لتقسيمه، حيث يجلس وأمامه أوعية بلاستيكية صغيرة وكبيرة، بالإضافة إلى عدد قليل من المناديل والصحون لتقسيمها لمن يعيشون بمفردهم أو في شكل ثنائي. ويقوم عباس حجري بتأمين حصة كل واحد على حسب العدد في العبوات ويقيسها بيديه وعينيه، والأفضل أن نقول إنها توزن مثل الميزان المخبري. أحياناً يلتقط فلفلة من هنا ويتردد لفترة وينظر حوله ليرى أين ستقع يده. من بعيد وقريب لا يتم نسيان أحد، ولا حتى ضابط الحراسة والشرطي. كما يضع الفلفل الكبير في أطباق لمن يعرف كيف يأكلها.
هكذا تسير الحياة، يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، مع استمرار شعلة الأمل في الاشتعال. وهذا هو أعظم فن، أصعب فن عندهم ، والذي يرقى ببساطة إلى مستوى المعجزات. ليس نفس الأمل للمثل السياسية فحسب، بل الأمل في كل ما يجعل الحياة تستحق العيش على الأرض: البر ، المعرفة ، العمل ، الأسرة. هؤلاء الرجال المسنون، الذين سُجنوا في أوج مراحل النشاط والحيوية الشبابية، يتخيلون المستقبل مع زوجاتهم وأطفالهم في أحلامهم. وللأسف، مثل هذا المستقبل غير موجود بالنسبة لهم. إنهم لا يريدون ذلك. إنهم لا يريدون السعر المعروض. إن المثير للدهشة هي مثابرتهم الواعية، أنهم يتجاوزون بسهولة عقوبة السجن لمدة ستة عشر عاماً. شلتوكي يقول بروح الدعابة المرّة وبريق مظلم في عينيه:
كل واحد يسألني كم أبلغ من العمر، وأجيبه ستة وعشرين عاماً. أنا أبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً (وهي سنة إعتقاله والحكم عليه بالسجن المؤبد من قبل المحكمة العسكرية الإيرانية”.

البناء التراثي في مدينة يزد “باد گير”
انتقلنا إلى محطة الحافلات الرئيسية في طهران، وإستقلينا الحافلة وأنا مكبل اليدين برفقة إثنين من الجندرمة الإيرانية متجهين إلى الجنوب مروراً بمدينة قم وإصفهان حتى وصلنا صبيحة اليوم التالي إلى مدينة يزد الواقعة في وسط إيران.
للوهلة الأولى، بدت المدينة صحراوية لكثرة العواصف الترابية التي تعصف بها على غرار ما تتعرض لها بغداد بين الحين والآخر، كما لاحت لنا أبراج الطائفة الزرادشتية وكذلك بناء “بادگير” الشبيه بالأبنية التراثية البغدادية التي تخفف من درجة الحرارة في تلك المناطق. وصلنا إلى سجن يزد واستقبلنا “بحفاوة” وكأن سجين خطير قد حل في هذه المدينة. وكان في استقبالنا مدير السجن وهو من أهالي همدان وهو “سيد”، والسادة يعتبرون من أصول قرشية عربية، ولذا كان يبدي قدر من التعاطف معي كما بدا لاحقاً. لم يفسح لي المجال الاستقرار في السجن العام “بإعتباري “سجين خطير”، بل إختاروا لي مكاناً وغرفة صغيرة في سجن النساء، علماً إن هذا السجن كان خالياً من السجينات. ومن المفارقة أن هذا السجن كان مستقراً لرجل الدين العراقي الشيخ محمد الخالصي الاسدي الذي نفته سلطة الإنتداب البريطانية بسبب مشاركته في ثورة العشرين ورفضه ولاية الملك فيصل الأول على عرش العراق.

الشيخ محمد مهدي الخالصي الأسدي
1888-1925
بدأت برتيب أموري في هذا الجب، وقدمت إدارة السجن موقد نفطي لطبخ الطعام إلى جانب حصة متواضعة من الرز والخضار والجبن وأرغفة الخبز؟ بقي مدير السجن وحرس السجن على حذر من تصرفاتي، ويبدو أن التقرير الذي أرسل لهم كان حافلاً بالتحذير مني. مرت الأيام ولم يبدر مني أي تصرف يثير الريبة والشبهات لدى مدير السجن. في أحد الايام كنت جالساً على دكة الغرفة، لا حول ولا قوة، ولا كتاب، ولا جرائد ولا شيء سوى النظر إلى السماء الصافية والطيور الجميلة التي تسرح في سماء المدينة. زارنا مدير السجن وسأل عن الأحوال وعن حاجتي، وهل أحتاج إلى أي شيء. نعم أحتاج إلى نسخة من القرآن، لعلمي أنهم لن يسمحوا بأي كتاب آخر بالمرور عبر أسوار السجن. علت البسمة على وجه مدير السجن، وخاطبني بصوت خافت..لدينا مجموعة من كتبكم!! باللغة الفارسية، فهل أجلبها لك؟ على الرحب والسعة. يبدو أن المدير وبعد مرور الوقت لم يلاحظ أية خطورة في وجودي في السجن. وما أن مرت بضع دقائق حتى عاد المدير يرافقه أحد الحرس محملاً بمجموعة كبيرة من الكتب التي يبدو أنها من الممنوعات التي تمت مصارتها من قبل الأجهزة الأمنية، وسلمني إياها كي أتسلا بها. شكرته، وأبديت عجبي وحيرتي من خطوته. ما أن خرج حتى شرعت بتصفح الكتب التي كانت بغالبيتها كتب تقدمية مترجمة إلى اللغة الفارسية. ومن الملاحظ أن الحكم في إيران على الرغم من استبداده لم يقف حجر عثرة أمام ترجمة الأدب التقدمي العالمي، على خلاف الأنظمة الإستبدادية في بلداننا التي تحرم على العرب الإطلاع على نتاج المبدعين الأجانب، ولذا هناك فقر في حركة الترجمة في بلداننا ولحد الآن مقارنة بحركة الترجمة الواسعة في إيران.
في أحد الأيام تناولت أحد الكتب المترجمة من اللغة التركية إلى اللغة الفارسية لمؤلفه الكاتب التركي الساخر عزيز نسين. في الحقيقة هي المرة الأولى التي أسمع عن هذا الكاتب ولم تسنح لي الفرصة لي للإطلاع على مؤلفاته لأنها لم تترجم إلى اللغة العربية.القصة قصيرة، تحمل عنوان “الحاج”، وما أن بدأت بقراءتها حتى إستولت علي موجة من الضحك المتواصل أثارت وجلبت إنتباه حرس السجن. يبدو أن أحد الحراس سارع إلى كتابة تقرير عن هذا “الحادث” وسلمه إلى إدارة السجن. بعد سويعات فتحت بوابة سجن النساء ودخل مدير السجن برفقة إثنين يرتديان الصدرية الطبية البيضاء. وخاطبني مدير السجن “شما مريضى؟”..( هل أنت مريض) …والمريض باللغة الفارسية هو الشخص الذي يعاني من مشاكل نفسية وعقلية. ابتسمت وقلت له لا أعاني من هذه الأنواع من الأمراض. وسأل لمذا كنت تضحك؟ أجبته ..أنت من تسبب في هذا الضحك بعد أن جلبت لي هذه المجموعة من الكتب الطريفة وخاصة حكايات عزيز نيسين. ضحك المدير وتوجه بالشتائم على كاتب التقرير، وطلب مني الضحك ولكن بصوت لا يثير فضول الحرس ويلجأوا إلى كتابة التقارير.لقد بدا لي أن مدير السجن وهو برتبة عقيد في الشرطة غير راض عن مهنته وهو في هذه البقعة النائية الصحراوية، ولذا فهو غير جدي في تنفيذ واجبه المهني.
مرت الأيام وأنا مشغول بين تهيئة الطعام وبين تقليب صفحات الكتب أو بين التفكير في مرحلة إطلاق سراحي والعودة إلى الوطن. وبينما أتأمل في كل ذلك سقط على حين غرة طائر جميل وهو مضرج بالدماء. كان قد جرح من بطنه جرحاً عميقاً بعد تعرضه لهجوم من أحد الصقور، والمنطقة مشهورة بصقورها. سارعت إلى إسعافه، وقمت بخياطة بطنه بالإبرة والخيوط المعتادة واستفدت من المضادات الحيوية التي قدمها لي الدكتور هاشم بني طرف في سجن طهران. ووفرت للطير الماء وقليل من حصتي من الرز والخبز علها تسارع في شفاء هذا الطير الابيض الجميل. بعد أيام لاحظت أن طيراً من نفس الفصيل يحوم حول السجن ثم استقر به المقام قرب الطير الجريح. يبدو أنه ذكر الأنثى المصابة، ولم يغادر المكان وظل إلى جانبها. بعد مرور إسبوعين تقريباً إلتئم الجرح، ولكن بقي الطيران في مكانهما ولم يبرحا المكان، خاصة بعد أن قمت بترتيب عشاً لهما، إضافة إلى شراء بعض الحبوب بمساعدة أحد الحراس الطيبين. وما أنم مرت فترة وجيزة حتى وجدت في العش بيضتان، فقستا ثم بدء التكاثر، واستفدت من معلوماتي حول مبادىء مندل في الوراثة في تحسين نسل الطيور والحصول على طير أحمر في النهاية بعد أن وجدت ريشة حمراء عند الأم. وهكذا أصبح لدي مهمة وتسلية أخرى في السجن أخذت المزيد من الوقت والاستمتاع.
لم أبق وحدي في سجن النساء، إذ سرعان ما جلبوا امرأة بائسة إلى السجن وحجزت في الغرفة الكبيرة المخصصة للنساء السجينات. إستفسرت من الحارس عن التهمة الموجهة إليها، وتبين أنها قد سرقت قماش أخضر عادة ما يتم به تغطية الأضرحة الكثيرة في إيران لأولاد الأئمة “إمام زادها”!!! يبدو أن المرأة فقيرة الحال، وأحتاجت إلى غطاء لإبنتها الوليدة وجنحت إلى سرقة غطاء ضريح أحد أولاد الأئمة!!! بدا لي أن المرأة كانت مصابة بالصرع أيضاً. ففي أحد المرات وأنا أتخطى في باحة السجن، لفت نظري حركات غير عادية من قبل المرأة وكادت أن تقع على عتبة الباب وسارعت إلى الإمساك بها خشية أن تقع على عتبة الباب مما يلحق الضرر برأسها. جرى إسعافها، وقد أطق سراح هذه المرأة بعد عدة اسابيع وخلا سجن النساء من رواده.
مع مرور الوقت، وبعد أن لاحظ مدير السجن وشرطته أنني لا أشكل أي تهديد لنظامهم ودولتهم، نسجت علاقت ودية بيني وبينهم، أحد فراد الشرطة يملك بستان لزرع الفستق الإيراني الشهير، راح يزويدني بالفستق الفاخر في تلك المنطقة، إضافة إلى إستعدلده على الدوام شراء ما أحتاجه من المواد التي تباع في المخازن المجاورة للسجن. وهكذا سارت الأمور على ما يرام دون حدوث أية مشاكل. وفي أحد الأيام وبينما كنت منهمكاً في تقديم يد العون للطيور سمعت ضجيجاً وفتح باب السجن بقوة وإندفع حوالي عشرين سجيناً بثياب رثة صوب باحة السجن. تم سوق الجمبع إلى غرفة النساء. لم أعلم في البداية سر إعتقال هؤلاء البائسين، إلى أن تحدث لي أحد حراس السجن عن قضيتهم. فهم مجموعة من الفلاحين الفقراء الذين يحصلون على قوتهم من الزراعة التي تشكل مصدراً قليلاً لهم بسبب شحة المياه. فهم تارة وخاصة في فصل الشتاء يقومون بنسج السجاد طوال فصل الشتاء ويبيعون منتجاتهم إلى أحد الشركات الإحتكارية لتجارة السجاد كي يسدوا النقص في واراداتهم. ومن أجل الحصول على قدر من المياه، فهم يعمدون على إنشاء شبكة من الآبار تتباين في عمقها كي يترشح الماء ثم تزداد كميته في أعمق بئر من الآبار المحفورة يدوياً ويتم الإستفادة من الماء المترشح للزراعة وللحاجات اليومية. هذه المنظومة تعرف بـ”الكهاريز”، وهي منظومة قديمة يستفيد منها الفلاحون في إيران وأفغانستان وفي نواحي كردستان العراق وهي قائمة حتى الآن. في تلك الأثناء قام أحد المتنفذين في المنطقة الذي يحظى بدعم الحكومة بحفرآبار عميقة مما أدى إلى جفاف الكهاريز وحرم الفلاحين الفقراء من الحصول على أي قدر من المياه وغلقت الأبواب بوجه الحصول على رزقهم. وهذا ما دفع الفلاحين إلى الإنتفاضة وراحوا يردمون البئر العميق للشخصية المتنفذة بالإسمنت مما أدى إلى تدخل الأجهزة الأمنية وإعتقال “الفلاحين المشاغبين”.
كنت كالعادة أتخطى في باحة السجن الصغيرة وأنا أراقب هؤلاء الفلاحين البسطاء وهم يدققون في حركاتي وخطواتي بشكل فضولي كأني قادم من كوكب آخر. لا أدري كيف عرفوا بعد مدة قصيرة أنني عراقي. والعراق بالنسبة لهؤلاء البسطاء يعني كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء، المدن التي تحظى بقدسية عندهم. مع مرور الوقت، تطورت أواصر العلاقة والحديث معهم ولم يعترض الحرس على ذلك بعد أن أطمئنوا على سلوكي الذي لا يشكل أي خطر على أمن النظام الشاهنشاهي. كان جل أسئلتهم تنصب على مراقد الأئمة في كربلاء والنجف، وكنوا يستمعون بصبر مصحوباً بأحلام أثناء سرد التفاصيل. وبمرور الوقت أصبحت من حيث لا أدري أشبه بداعية وشيخ ديني وعارفة يحظى بإحترام هؤلاء البسطاء، علماً إنني لم أكن أملك في بعض الأحيان جواباً على أسئلتهم واستفساراتهم خاصة تلك المتعلقة بالشؤون الإيرانية، الحقوقية منها أو القانونية. ومما زاد الطين بلة هي إصابة هؤلاء الفلاحين بالإنفلوزا مصحوبة بالإلتهابات الصدرية وإرتفاع درجة الحرارة. ولم تقوم إدارة السجن بأي إجراء لتقديم العلاج لهم، مما حدا بي إلى تقديم كل خزيني من المضادات الحيوية والفيتامينات التي زودت بها من قبل الدكتور هاشم بني طرف في سجن قصر في طهران. وبعد أيام بدأت ملامح التعافي على وجوههم، عندها تحولت أنا في ذهنهم إلى شخص أقرب إلى حلال المشاكل وإلى حد تحقيق المعجزات. وهذا ما زاد من “الطلب” علي رغم عدم إستطاعتي تقديم كل ما يرمون إليه. سارت الأمور على هذا المنوال لأسابيع عديدة إلى أن حل الفرج عندما قرر المسؤولون تقديمهم إلى المحكمة وتم الإفراج عنهم وأطلق سراحهم وتحررت من حالة الإحراج والمسؤولية الأدبية تجاه هؤلاء البسطاء.
دارت الأيام وحل الربيع وخفت شدة البرد والعواصف الترابية، ليبدأ العد التنازلي لمحكوميتي البلغة 7 سنوات والتي ستنتهي في الأول من أيار عام 1971. وبحسب القانون الجنائي العسكري الإيراني، هناك تخفيض يوم واحد عن كل سنة يمضيها السحين في السجن، وهكذا كان علي أن أقضي سبع سنوات إلاّ سبعة أيام وأغادر السجن ويطلق سراحي. مرت الأيام بسرعة وشارفت على عتبة التحرر من قبضة السجانين ودوائر الأمن الإيرانية.عشية ذلك اليوم، جاء مدير السجن وأخبرني عن موعد إنتهاء محكوميتي، وقال عليك أن تقابل مدير جهاز الساواك قبل خروجك من السجن. في اليوم التالي جهزت كل امتعتي البسيطة، خاصة السجادة التي أهداها لي الرفيق العزيز عباس حجري، واستعد جنديان من الجندرمة الإيرانية لمرافقي إلى أين لا أدري. وجلب مدير السجن قفصاً كي أجمع الطيور التي زاد عددها إلى تسعة أو عشرة طيراً. ضحكت وإعتذرت منه على حمل هذه البضاعة معي وأنا لا أدري إلى أين سيكون مقصدي، وشكرته على هذه الإلتفاتة الجميلة.
حان الوقت كي أقابل مدير الساواك في مدينة يزد. قادوني إلى مقره، وكان جالساً في مكتبه الفخم، رجل ذو وجه عبوس وصارم وصوت خشن شأنه في ذلك شأن رجال الأمن من أية جنسية كانت. وأخذ يتلفظ عبارات لاتخلو من التهديد والتنديد. وأخيراً قال كلمته، وأعلن أنه سوف لا يطلق سراحك اليوم، وتعود إلى السجن حيث يطلق سراحك في اليوم التالي لأسباب أمنية؟؟؟ كما أعلن أنه سيجري تسليمك إلى السلطات العراقية في معبر المنذرية العراقي المقابل للمدينة الإيرانية الحدودية قصر شيرين. وقد عرفت لاحقاً إن السبب هو قيام الشهبانو فرح بهلوي زوجة الشاه بزيارة إلى الآثار الزرادشتية في المدينة، ولذا تم تأجيل إطلاق سراحي خشية أية تهديد أمني للملكة!!!
أرجعوني إلى السجن من جديد، واستقبلني مدير السجن بغضب بإعتبار ذلك إجراء مخالف للقانون، فما علاقة زيارة الشهبانو بإطلاق سراحي؟ أمر مضحك. رفض مدير السجن إرجاعي إلى الزنزانة‘ وقادني إلى مكتبه بإنتظار صبح غد . تناولنا الغذاء غير السجني بعد سبع سنوات المكون من الوجبة الإيرانية اللذيذة “چلو كباب”، وما أن غربت الشمس حتى خاطيني مدير السجن وطلب مني بالإستعداد للذهاب إلى سفرة صحراوية إلى أحدى الواحات القريبة. استقل سيارته من نوع مرسيدس الألمانية وإتجهنا إلى الواحة القريبة من مناجم الحديد التي يعمل بها الخبراء الروس حيث تحولت الواحة الجميلة إلى منتجع للعاملين في المناجم في وسط الصحراء وزودت بكل وسائل التسلية والراحة ومطعم وبار حديث وفرقة غناء وموسيقى تراثية إيرانية. بعد سبع سنوات تم دعوتي إلى مطعم ومن قبل من؟ من قبل مدير سجن يزد…يا للعجب!!!. لم أصدق ما يحدث. إنه ضرب من الأحلام والاساطير صعبة التحقيق والتصديق.
حفلت المائدة بكل ما لذ وطاب من الوجبات الإيرانية، ولم يغفل المدير من طلب المشروبات الكحولية‘ فطلب الفودكا له وسألني إن أشرب البيرة فإعتذرت وإكتفيت بالكوكاكولا. عم الضجيج والغناء والموسيقى في مطعم الواحة، وبالغ المدير الغريب بتناول الفودكا حتى تحول بعد ساعات إلى حالة من الثمالة حيث أسرف بشرب الفودكا الروسية. لاحت بواكير الفجر، وخشيت أن لا نستطيع العودة إلى المدينة في الوقت المناسب، لذا رافقت المدير الثمل إلى المغاسل كي أسكب الماء على رأسه ووجهه ليعود إلى رشده ليستطيع سياقة سيارته. شرب القهوة التي فعلت فعلها في الحد من “دوخة” المدير العتيد. وعاد إلى وعيه وإستعاد نشاطه وتوجهنا إلى سيارته ليقودنا إلى السجن.
كان في إنتظارنا إثنان من أفراد الجندرمة الإيرانية، والجندرمة هي القوة الأمنية المسؤولة عن الأمن خارج حدود امدن والحواضر الإيرانية. وبدأنا بالتوجه إلى الحافلة التي ستنقلنا إلى طهران، وما أن شرعت الحافلة بالحركة وسط توصيات المدير للجندرمة بالعناية بي حتى جلب قفص الطيور وأطلقها في الهواء . وسارت الحافلة على الطريق صوب إصفهان وقم حتى طهران. وهنا حصل ما أقرب إلى الخيال، فقد رافقنا رتل الطيور إلى مسافة بعيدة عن يزد ثم وإختفى قبيل وصولنا إلى مدينة إصفهان.

الطيور في وداعنا
وصلنا طهران عند الفجر، وطلب الجندرمة الذهاب إلى أحد مطاعم الوجبات الصباحية المفضلة للإيرانيين والعراقيين على حد سواء وهي وجبة “كله پاجه”. سألت الجندرمة إن كان بالإمكان زيارة خالي الحاج مصطفى محسن الصفار وعائلته المقيمين في طهران؟ جرى الإتفاق على أن نفترق ثم نلتقي مساء نفس اليوم في محطة الحافلات المتجهة إلى غرب إيران، كرمنشاه وقصر شيرين الحدودية. وهكذا أفترقت عن الحرس، وذهبت إلى بيت الخال الذين فوجؤا بإطلاق سراحي، وبعد حين ذهبت لزيارة العزيزة سهام حسن محسن الصفار بنت الخال الآخر التي قدمت لي الكثير أثناء وجودي في السجن. وأخيراً عدت في الغروب إلى محطة الحافلات وكان ينتظرني أفراد الجندرمة حسب الإتفاق.
شرعت الحافلة بقطع الطريق الجبلي الوعر متجهة صوب الغرب، إلى مدينة قصر شيرين بالقرب من الحدود العراقية الإيرانية. وصلنا صباح اليوم التالي، وقادني الجندرمة بالقرب من الحدود وأشاروا إلى الطريق المؤدي إلى المنذرية العراقية. الطريق يمتد إلى مسافة تتراوح بين كيلومترين إلى ثلاثة، وكنت أحمل متاعي، وقد نقص وزني من 80 كيلوغراماً إلى 55 كيلوغراماً، ولم يعد السروال مناسباً لي، ويهطل بين الحين والآخر خلال توجهي إلى الأراضي العراقي، وصادف أن عثرت على سلك كهربائي في الطريق واستخدمته كحزام للسروال لكي يكف عن التدلي. على مشارف المنذرية استقبلني رئيس عرفاء في الشرطة العراقية متوسط العمر والحجم، وسألني باللغة العربية عن إسمي وتفاصيل أخرى. وأجبته باللغة الفارسية حيث إعتدت خلال السنوات الماضي على تبادل الحديث مع الآخرين باللغة الفرسية. عاد رئيس من جديد العرفاء وسألني هل أنت عراقي؟؟ فأجبته بحماس نعم إنني عراقي. فضحك وقال لماذا إذن تتحدث باللغة الفارسية؟ عرفت عندها إنني مازالت في هوس الأجواء الفارسية. قادنا رئيس العرفاء إلى مدينة خانقين وتحديداً في سجنها، وهناك أخبرني إن شقيقتك في إنتظارك!!! من هي؟؟؟ أم علي الحبية ( سعاد حبه) وقفت أمامي وهي تحمل حزمة كبيرة من الكباب الخانقيني اللذيذ. وكانت لحظة من العمر لن أنساها وأنسى ملامح شقيقتي الطيبة والحنينة. كنت قد أرسلت في طهران برقية إلى أخي زيد الذي كان يتلقى الدراسة في لندن كي يخبر الأهل بأني سوف أصل إلى العراق عبر معبر المنذرية، خلافاً لبرقية سابقة أرسلتها والتي أشرت فيها إلى أن التحويل سيتم في الشلامجة- البصرة على غرار رفاقي الآخرين. ولكن مدير الأمن في يزد أخبرني أن التسليم سيتم في المنذرية. البرقية الأولى دفعت شقيقي المحامي قاسم حبه إلى التوجه فوراً إلى البصرة للقائي، في حين أن البرقية الثانية دفعت العزيزة أم علي إلى التوجه صوب خانقين. في أول كلمة تفوهت بها أم علي بها هي خبر إعتقال العزيز ثابت حبيب العاني في يوم إطلاق سراحي من السجن الإيراني، الأول من أيار عام 1971، وقد أثار ذلك دهشتي وتساؤلي لأن عزيز شريف، العضو القيادي في الحزب الشيوعي العراقي، كان قد تم إستيزاره كوزير للعدل من قبل القائمين على إعتقال ثابت العاني!!. وأشارت أم علي إلى أبو حسان نقل إلى قصر النهاية وهناك إحتمال بنقلك إلى قصر النهاية أيضاً. وقع الخبر علي كالصاعقة.
وضعت أقدامي في سجن خانقين، ووجدت هناك صنفين من المحتجزين، مجموعة عراقية، وأخرى إيرانية. كنت في أشد حالات التعب، وما أن تلطف المحتجزون الإيرانيون وفرشوا البطانيات حتى سلمت حزمة الكباب إليهم ثم غرقت في سبات عميق. لا أدري كم مر من الوقت حتى أفقت على صراخ ومناوشات بين المجموعة العراقية والإيرانية. وتدخلت الشرطة لفك الإشتباك، وسألت أحد أفراد المجموعة الإيرانية عن السبب، فقال إن أحد العراقيين حاول حرق رجلك بشوكة طعام بعد تسخينها. ويبدو أن هؤلاء، من باب العبث، يعمدون على القيام بهذا العمل ليصبح علامة على مرور أي سجين بسجن خانقين والتي يطلق عليه تعبير “چطل زني” (الكي بشوكة الطعام).
ما أن حل الصباح حتى أبلغت بالإستعداد للإنتقال إلى سجن بعقوبة. وقد جرى الإتفاق مسبقاً مع الشرطة على أن يقوم قريبي العزيز أحمد جعفر الشيباني، شقيق زوجتي الحبيبة المقبلة ورفيقة العمر إقبال جعفر الشيباني، بنقلي في سيارته بمعية أفراد من الشرطة إلى سجن بعقوبة. وطأت قدمي السجن وكان يعج بزبائنه، وبعد دقائق تقدم أحد المعتقلين وعرف نفسه بأنه شيوعي وقام بلطفه بتأمين المكان المناسب ودعاني إلى وليمة سجنية مشكوراً. وعرفني بتركيب السجناء والمعتقلين، وكان من ضمنهم فؤاد الركابي سكرتير البعث السابق!! وعبرت عن دهشتي …لماذا الركابي وهو البعثي، وأجاب لم يعد الركابي في عداد البعث. وقد قتل الركابي في السجن في اليوم التالي.
مضت عدة ساعات حتى أبلغت بالإستعداد للإنتقال إلى سجن آخر في بغداد في اليوم التالي. هذه المرة كان سلوك الشرطة تتسم بالحدة والخشونة تصحبها كلمات بذيئة وشتائم غير مبررة. صباح اليوم التالي أصطف بعض السجناء وأنا منهم في طابور للركوب في سيارة البوكس المخصصة لنقل السجناء والمعتقلين، وبعد قرابة الخمسين دقيقة وجدنا أنفسنا في بغداد مقابل القصر الأبيض وهو قصر الضيافة المخصص لضيوف الدولة العراقية. أدرت بوجهي كي أعثر على منتزه السعدون المقابل للقصر الأبيض الذي كان المنتزه المفضل لنا في مقتبل عمرنا، ولكني افتقدته وحلت محله أبواب حديدية إذ تحول من منتزه كنا نمضي أوقاتاً جميلة فيه في صبانا، إلى بؤرة رعب وتعذيب بأسم مديرية الأن العامة. فحكامنا لا تعجبهم المناظر الطبيعية ولا المنتزهات الجميلة إذ يحولونها إلى مسالخ، وهذا ما حل ببارك السعدون الذي كان المنتزه الوحيد للعوائل العراقية وللشباب كي يمارسوا لعبة “السكيت” في الباحة المخصصة لهذه اللعبة في بارك السعدون. وحولوا جزء كبير من منتزه الزوراء إلى ساحة للعروض العسكرية ونصب قبيح يكرس العنف والعسكرة والعدوان، ولم يرمموا قصر الرحاب كي يتحول إلى قصر للثقافة والإبداع بل تحول على يد البعثيين إلى مسلخ بشري مرعب للشيوعيين والوطنيين من شتى الإنتماءات. هذا النط من أدارة الدولة هو الذي أشاع الدمار والعنف والفساد في بلاد الخصب والسواد وإلى الآن.
حُشرنا في أحد الغرف الصفيرة في أجواء حارة، وتسلطت علينا من سقف الغرفة أمواج الهواء الرطب من الكولر بصوته المزعج. وفي اليوم التالي حشرت قافلة أخرى من المعتقلين صغاراً وشباباً وشيوخاً بحيث لم يعد للمعتقلين أي مكان للإسترخاء أو النوم. تبين أن أن هذه الجمهرة من أهالي تكريت قد شاركوا في مراسيم أربعينية إغتيال حردان التكريتي أحد رموز السلطة على يد صقور السلطة في مدينة الكويت. وحكى أحد الشباب عن المعاملة التي تلقوها على يد أبناء مدينتهم بشكل يثير الشكوك حول الشعارات التي رفعها إنقلابيي 1986 حول ثورتهم البيضاء. تقدم نحوي أحد الشباب ورأى لحيتي الطويلة، وأسرني بهمس أن لديه الشلفة ولوازم حلق اللحية. وهكذا شرعت وتحت حراسة عدد من الشباب في حلاقة لحيتي، ولكن ما أن حلقت النصف الأيمن حتى جرى إستدعائي للتحقيق. حاولت أن أكمل الحلاقة دون جدوى، وأن أنزع بجامتي وأرتدي ملابسي ولكن الأوامر صدرت بالبقاء على هذا الزي. خرجت من الجب لأضع قدمي لأول مرة على أرض بغداد الحبيبة مرتدياً البجامة ونصف لحية ونعال بلاستيكي لأعبر الشارع المقابل للقصر الأبيض متجهاً صوب بيوت اليهود المصادرة في البتاويين التي سطت عليه الأجهزة الأمنية والمخابراتية التابعة لحزب البعث.
بلغنا أحد البيوت التابعة للمخابرات أو الأمن، وجلست على دكة في مقدمة البيت بإنتظار تشريف المسؤولين للبت في أمري. خرج ضابط شاب من البيت ودقق في لحيتي وإبتسم، وطلب من أحد الأفراد جلب ماكنة الحلاقة لإستكمال حلاقة الجانب الآخر من اللحية. وعلى حين غرة تعالى أصوات سيدة معتقلة مصحوبة بالشتائم وخرجت من باب البيت وعليها علائم التعذيب وقد إنتفخت قدميها جراء ضربها بالفلقة كما يبدو. ومن المحتمل أنه قد وجه إليها الإتهام بالتجسس، وهو الإتهام المحبب للأجهزة الأمنية ضد كل من بشك في ولائهم لهذا الحكم. لم يصل المعذبون إلى نتيجة، وحاروا في كيفية إطلاق سراحها بإقدام منتفخة جراء التعذيب. ما هو العلاج؟ أثار ذلك ذلك فضولي وعطفي على تلك السيدة وأشرت إلى الضابط إلى أنه بالإمكان إزالة الإنتفاخ فلدي تجربة في ذلك. إقترحت عليهم جلب كافور من إحدى الصيدليات. جلبوا الكافور وبدأت بدهن رجل السيدة بمساج الكافور وبعد ربع ساعة بدأ الإنتفاخ بالضمور تدريجياً. بدأت هذه السيدة البائسة بالدعاء لي وتوجيه الشتائم إلى كل من سبب كل هذه الآلام. عندها أمر الضابط بإطلاق سراحها بعد أن أنتفت آثار جريمتهم.
جاء دوري وبعد إستجوابات شكلية تم إطلاق سراحي، ووفرت أجهزة الأمن سيارة لنقلي إلى بيتنا في الجادرية الذي غادرته منذ أكثر من عشر سنوات. لم يتدخل الحزب في إطلاق سراحي خشية أن تتعقد أموري، خاصة في وقت شن البعث هجوماً على الحزب وخاصة منظمة بغداد في عام 1970-1971 وأخيراً وليس آخراً إعتقال الرفيق ثابت حبيب العاني. ولذا أخذت العائلة تبحث عن طريق آخر لإنقاذي من مخالب الأجهزة الأمنية. القضية بما فيها إن شقيقتي الكبرى شعاع، زوجة المرحوم عبد الرزاق الأزري، كانت على علاقة عائلية بعائلة آل قدو الموصلية المعروفة. ووقعت عين عضو القيادة القطرية المغدور محمد محجوب على أحد بنات وطلب يدها، ولكن رفض الطلب. وراح محمد محجوب يبحث عن أصدقاء للعائلة ووجد في شعاع خير شخص مناسب للتوسط، وزارها في بيتها، وتوسطت وتكلل الطلب بالنجاح. وشكر محمد محجوب شقيقتي ووعدها بتقديدم أية مساعدة( تعرض محمود محجوب وأفراد في عائلة قدو للإبادة في مجزرة قاعة الخلد عام 1979 على يد صدام حسين). وهكذا وجدت شعاع الفرصة للإتصال بعضو القيادة القطرية لإخراج شقيقها عادل من المأزق. وهذا هو سر إطلاق سراحي بسهولة كم جرى.

شقيقتي شعاع حبه
وصلت إلى البيت وعثرت عليه بالكاد جراء التغييرات التي طرأت على المنطقة. وشرعت بفترة نقاهة برعاية الوالدة والأخت العزيزة فخرية والأخوات فوزية وسعاد وناهدة ووديعة، كي أستعيد قوتي ولياقتي. ولم تتوفر لي الفرصة لإعادة الصلة بالحزب تفادياً لأية محذورات. زارني فقط الرفيق باقر إبراهيم وطلب مني عدم الإفصاح عن هويتي أو علاقتي بالحزب لإبعاد شر الأجهزة الأمنية. ولذا بعد حين عاودت العمل بمهنتي كجيولوجي في دائرة المياه الجوفية إلى أن قدمت إستقالتي بعد تنسيب الحزب لي كي أعمل في مجلة قضايا السلم والإشتراكية في براغ وللحديث صلة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here