ذكريات ايام الشباب طافت في خيالي، قصة ذهابي الى القطب الشمالي!

ذكريات ايام الشباب طافت في خيالي، قصة ذهابي الى القطب الشمالي!

د. رضا العطار

حينما اشتدت درجة حرارة الصيف عام 1974، بدأت افكر في الأجازة السنوية، وانا طبيب عيون في مستشفى الرمد ببغداد، والتهيئ للسفر، فبدأت أتسائل مع نفسي، الى اي بلد ممكن الذهاب اليه لقضاء فترة الاستجمام والراحة ؟ ، مرهونا ان لا يكون ذلك البلد ضمن الاماكن التي زرتها في السابق، هكذا بقيت اتقلب بين الخيارات المطروحة، وطال زمن البحث والتقصي، واستعرضت الخرائط الجغرافية ومناطقها السياحية فيها، حتى وجدت نفسي ضائعا في متاهات الحيرة، انتهت اخيرا باختياري جزيرة غرين لند، الواقعة ضمن الدائرة القطبية الشمالية للكرة الارضية، وهي موطن قبائل الاسكيمو.

كنت وانا صغير تستهويني صور الاسكيمو، اهفو الى رؤية عالمهم الغريب الذي يتفردون به عن غيرهم من عالم البشر، كونهم يعيشون في اكواخ ثلجية، وعندما كبرت، استبدت فيً هذه الرغبة اكثر فاكثر، حتى وضعت فكرة المحاولة ضمن برنامج حياتي القادمة. وفي اواسط السبعينيات من القرن الماضي وجدت نفسي في مرحلة عمر وظروف شخصية ملائمة، تشجعني للخوض في غمار المخاطرة والقيام بمهمة التنفيذ، محاولا الوصول الى موطن الاسكيمو لارى بنفسي كيف ان هؤلاء القوم يعيشون في تلك الاصقاع المغطاة بالثلوج طيلة ايام السنة، نعم لاقف هناك على اطر حياتهم ومستوى بدائيتها وكيف انهم تكيفوا مع مناخها، قارس البرد، و الحياة داخل بيوت الثلج، خاصة وان هؤلاء القوم يعيشون شتاء يدوم ستة اشهر يمضونها في ظلام دامس !

كانت هذه الملاحظات قد ازدحمت في رأسي وبدأت تشغل بالي وتتبلور تدريجيا الى ان انتهت بقراري الحازم والعزم الاكيد للاقدام على تحقيق حلم الطفولة المنشود ! مجازفا بالمخاطرة، هكذا غادرت بغداد في الاول من تموز وهي تتلوًى في درجة حرارة 50 فوق الصفر متوجها نحو القطب الشمالي ودرجة حرارته 50 تحت الصفر بل اكثر.

لم يكن امر الانتقال الفجائي من منطقتنا الساخنة الى المنطقة المتجدة سهلا وميسرا، انما كان عسيرا وشاقا، بل شاق جدا، محفوفا بمصاعب جمة، تمت على عدة مراحل. كانت لندن، مرحلتها الاولى تلتها بلاد ايسلندة التي تبتعد عن اوربا بطيران طويل وهي كائنة تحت الدائرة القطبية الشمالية، ومن هناك وبعد انتظار دام ايام واصلت الرحلة عبر رحلة غير مريحة بواسطة طائرة صغيرة خاصة للخدمات الاستكشافية حتى بلغت الهدف، بعد معاناة نفسية مضنية لم اكن اتحسبها.

ففي لندن، المحطة الاولى، جهزت نفسي بكل مستلزمات الرحلة من تجهيزات خاصة تتطلبها ظروف المناخ في المناطق القطبية، من ملابس وحذاء وغطاء راس. بعد ذلك واصلت الطيران جوا بأتجاه الشمال في رحلة مريحة حتى بلغت مدينة ريكافيك العاصمة الايسلندية، فأقمت فيها اربعة ايام، كانت حافلة بالمفاجئات السارة، والمشاهدات الفريدة، لمناظرها الطبيعية الجذابة.

لم تكن نية الاقامة الطويلة في ايسلندة امرا مطروحا في بدأ الامر لكن ظروف تهيئة الطائرة الاستشكافية الخاصة للخدمات القطبية هي التي فرضت عليً هذا الانتظار.

وفي صباح اليوم الاخير من اقامتي في ايسلندة، كان كل شيء يخص الرحلة جاهزا، ففي اليوم نفسه وفي الوقت المحدد نقلتني سيارة شركة الطيران من الفندق الذي اقيم فيه الى المطار. وبعد تأكد ضابط السفر من وجود سمة الفيزا في جواز سفري، امتطأت الطائرة ( كانت غرينلند يومذاك مستعمرة دانماركية).

كانت الطائرة صغيرة الحجم، وذات محرك واحد، تحوي على خمسة مقاعد فقط، وتاريخ صنعها قديم، واظن انها كانت تفتقد الى جهاز التكييف، فكان علينا نحن المغامرين الاربعة ان نسعف انفسنا بأغطية الصوف المطروحة بين المقاعد، فإلتحفنا بها صاغرين.

بيد ان معاناتي الذاتية كانت اكثر من غيري من رفاق السفر، بسبب مقعدي المحاذي لباب الطائرة والتي لم تكن محكمة السد، تحدث صريرا مزعجا، والادهى من ذلك شدة برودة الهواء النافذ داخلا، فكنت الف اطرافي بمزيد من الاغطية تحاميا، فقد وجدت نفسي امام مشكلة لا تجد سبيلا للحل. فلم يخطر بالبال ان يجد المرء في الطائرة الاستكشافية هذا الكم من الاهمال وقلة الاهتمام براحة المغامر، فضاق صدري استياء.

كان الطيران منذ البدأ طيرانا مضطربا غير مستقرا، كانت الطائرة كثيرة الحركة لا تخلوا من مطبات، فلم تهدأ في سيرها طيلة الرحلة الطويلة، كان تحليق الطائرة على ارتفاع خفيض، فلم اشاهد في ساعات الرحلة، اثرا للملاحة البحرية، فمعظم المسطحات المائية كانت متجمدة، تعج بجبال ثلجية، هائلة الاحجام، غريبة الاشكال، كانت اشعة الشمس المنعكسة عن سطح المحيط، تملأ الدنيا ضوءا وهاجا، شديد السطوع والانبهار. كان المشهد مهيبا حقا، يكتنفه الغموض ووحشة المجهول، وشعرت بالرعب والضجر، فاضطربت دون ان اهاب، وقد ذهلتُ بما رأيت، وكان فكري بعض الوقت شاردا، جعلني لم أعر بمخاطر الرحلة ومصاعبها، لكنني افقت من شرودي بعد حين بسبب شعوري بتيبس حنجرتي، فلم اكن اقوى على بلع ريقي وعطشت، دون أن يتيسر لي جرعة من الماء.

كانت ظروف الرحلة بالغة القسوة، وفي غمار هذه الشدة، حاولت التعلق بشيء يصرف انتباهي، فعمدت التمعن والتركيز في كنه المشاهد الطبيعية وروعة جمالها الصادق ومهابة الوجود من حولي ينسيني واقعي النفسي، ولم يمض وقت طويل حتى وجدت نفسي منغمرا بفيض غامر من الخشوع الروحي يملأ جوارحي، ساجدا في اعماق نفسي امام خالق الكون العظيم.

وبينما انا بهذه الحال من الطيران (الأكشر)، بدأت طائرتنا المهلهلة تهبط تدريجيا،

بيد ان خط سيرها قد تغير، ولم يخطر ببالي ابدا، من ان الطائرة سوف تتوجه نحو جبل ثلجي شاهق، قائم امامنا، فتسائلت مع نفسي القلقة عن السبب، لكن الطائرة استمرت في سيرها الحثيث حتى اقتربت من الجبل المذكور، فحبست انفاسي واصبت بالذعر وبدأ قلبي يخفق خفقانا قويا. وخشيت النهاية.

لكن كان اشد اندهاشي واعظم ذهولي حينما شاهدت الطائرة في لحظة خاطفة (توكًر) فوق قمة ذلك الجبل، تستقر عليه وتهدأ، فتنفسًت الصعداء.

كانت مساحة البقعة التي هبطت عليها هذه الطائرة، لا تتجاوز مساحة ملعب كرة القدم، انها هي اليابسة الوحيدة في تلك المنطقة القطبية، التي تكشف نفسها للعيان بعد انحسار الجليد عنها خلال اشهر الصيف الثلاثة من كل عام.

لم اجد هناك احدا، ولا أثرا لكائن حي، بل وجدت نفسي واقفا وسط المغامرين الامريكان الثلاث في ذروة ذلك المرتفع، تحيطنا الثلوج من جميع الجهات، وكان البرد في شدته مثلجا، رغم ان الوقت كان ظهرا والشمس مشرقة، كان الجليد القريب من اقدامنا صلبا صقيلا، فحذرنا القبطان من الحركة، تفاديا من خطر الانزلاق.

كانت الدنيا من حولنا تسبح في بحر من النور الوهاج، يسطع بشدة، يخشع الابصار، فكان كل شيء فيه يتلألئ، كان الجليد البراق، ناصع البياض يغطي وجه الارض على امتداد الافق البعيد، وكانت مسطحات الصقيع القريبة متناغمة في قوة لمعانها لدرجة كان من الصعب على المرء ان يعرف اين ينتهي البحر و تبدأ اليابسة، علما ان مكان وقوفنا كان محاذيا للساحل الغربي للمحيط المتجمد الشمالي.

كان منظر الطبيعة في بهائها و صفائها آسرا، وقد تجلى سحرها الفتان في حلة من الجمال المطلق، وهي السمة التي تنفرد بها البيئة القطبية.

.

لكننا صُعقنا وطاش صوابنا، عندما ابلغنا القبطان بعدم السماح لنا بمقابلة جماعة الاسكيمو، رغم انهم الان امام اعيننا على بعد عشرات الامتار، كون ان قبائل الاسكيمو يتحاشون الغرباء، حرصا على صحتهم، فالاسكيمو يعتقدون ان غيرهم حمال امراض.

فقد نشأ عندهم هذا الاعتقاد، بعد ان قدم الى بلادهم تجار فرو اوربيون لأول مرة خلال القرن التاسع عشر، وتم تبادل البضائع معهم عن طريق المقايضة، لان الاسكيمو لا يعرفون العملة، الاوربيون حصلوا على كميات كبيرة من فرو الحيوانات القطبية، مقابل حصول الاسكيمو على بنادق صيد وحاجيات اخرى. وخلال التماس الذي جرى بينهما، نُقلت امراض الوافدين الى شعب الاسكيمو، ولم يستطع هؤلاء مقاومتها، مما تسبب الى هلاك أعداد غفيرة من شعبهم. ومنذ ذلك الحين يتفادى الاسكيمو لقاء الاجانب !

وبعد ان تلقيا هذه المعلومات، صار يقينا اننا سنمكث في مكاننا واقفين، ومن موقعنا فقط، يُسمح لنا رؤية مجتمع الاسكيمو في منطقة سكناهم وملاحظ ما يجري فيه من نشاطات اجتماعية خارج نطاق بيوتهم الجليدية، كما يمكننا ان نستنبط عبر المظاهر الحياتية التي نراها، طبيعة علاقاتهم مع بعضهم، فقد شاهدناهم وهم منشغلون في ممارسة اعمالهم، وقد علمنا ان طبيعة هذه الاعمال كانت متعلقة بامور الصيد وتهيأة الغذاء اليومي، وهو في الغالب يشمل على ما يحصلون عليه من صيد البحر في الاكثر والبر في الاقل.

كانت منطقتهم تتكون من مجمعات (سكنية) وهي عبارة عن قبب ثلجية، تناثرت على مساحات واسعة من السفوح الشمالية، تفصل المجمعات عن بعضها ممرات متقاطعة، ولم نجد هناك ما يمت بالحياة العصرية من صلة. يكفي ان نعرف ان منطقتهم خلت من اصغر بناء. انهم قبائل بشرية مقطوعة عن العالم الخارجي، ولم يتسنى لنا معرفة ما يجري داخل قببهم الجليدية من عادات وتقاليد، لكن دليلنا السياحي المتمثل بشخص القبطان كان يزودنا بالمعلومات المتعلقة بحياة هؤلاء البشر بشكل متواصل.

كانت بيوت الاسكيمو، عبارة عن اكواخ ثلجية قبوية الشكل تدعى (Igloo). والأجلو عبارة عن قطع من المكعبات الجليدية تكوًن جدران الكوخ من الخارج، ثم يبطنون الكوخ من الداخل بمخلفات الصيد البري من جلود الحيوانات كالوعل والدب القطبي، فيصبح اقرب الى الخيمة ثم يفرشون ارضه بالفراء. فتصبح درجة الحرارة في الداخل مقبولة لديهم. ولا يوقد الاسكيمو النار داخل الكوخ. ومدخل الكوخ الثلجي هذا يُسد ليلا بغلاف جلدي محكم لمنع دخول الحيوانات السائبة و الدببة القطبية اخطرها.

يصعب على المرء ان يتصور قسوة حياة الاسكيمو وتأثيراتها السلبية على نفسيتهم، فمنطقتهم لا تحصل إلا على كمية محدودة من اشعة الشمس، فخلال فصل الشتاء الذي يدوم ستة شهور في القطب الشمالي للارض، يخيم عليها الظلام الدائم طيلة هذه الفترة، فتتعقد حياة القوم وتتعسر سبل توفير الغذاء. ففي مثل هذه الظروف القاهرة تقوم بعض قبائل الاسكيمو بالاحتفاظ بالحوت المصداد، تطمره بكميات كبيرة من الثلوج الهشًة، حتى يبدو من بعيد وكانه هضبة ثلجية، هذا هو مؤونهم الوحيد لجميع اشهر الشتاء، يكفي لأشباع افراد الأسر لقرية كبيرة ، يغتذون من لحمه كل يوم. هذه الحقيقة تصوًر لنا سعة المعاناة التي يكابدها افراد الاسكيمو، بغية الحفاظ على استمرارية الحياة !

ينحدر شعب الاسكيمو اصلا من المناطق القطبية لشمال سيبريا، فأجدادهم نزحوا منذ آلاف السنين وتفرقوا في سواحل المحيط المتجمد الشمالي، فسحنتهم آسيوية. واصولهم منغولية، فهم قصارى القامة، اجسامهم ضخمة واكتافهم عريضة ووجوههم واسعة ووجناتهم بارزة والبشرة داكنة والعيون منحرفة ضيقة والشعر اسود.

رأيت الاسكيمو رجالا ونساء في ملابسهم التقليدية الخاصة بهم، انها لم تكن في ثقل ملابسنا التي كانت لا تقل عن معاطف فرو سميكة، رأينا اطفالهم يلعبون ويمرحون خارج اكواخهم الثلجية. وقد تكيفوا في محيطهم القطبي مع قسوة مناخه منذ الصغر. هذا المناخ الذي لا نطيق شدته نحن.

يصنع الاسكيمو ملابسهم من الجلود والفراء، فيلبسون شتاءا ردائين من الفراء، يتجه فراء الرداء الداخلي نحو الجسم في حين يتجه فراء الرداء الثاني نحو الخارج، وهذه الملابس متقنة الصنع تفصيلا وخياطة فلا تسمح للماء بالنفاذ من مواضيع الخياطة منها.

كلمة اسكيمو تعني ( آكلي اللحم النيء ) وقد اعتمدت جماعات الاسكيمو في غذائهم على ما يصطادون من الحيوانات، وفي مقدمتها الوعل والدببة وحصان البحر ولحم الحوت والفقمة ومختلف انواع السمك والطيورالمائية.

كما انهم يصنعون من جلود الصيد البري اغطيتهم وافرشتهم، كما بستفادون من صيد الحوت، زيته في الطبخ والاضاءة. ومن عظامه يصنعون الاقواس والسكاكين والرماح والحراب. ومن جلود حيوان الرن يصنعون الزلاجات التي تجرها الكلاب، وهي سائل النقل الوحيدة عندهم، تنقل لهم حاجياتهم بين قراهم.

قد يظن البعض ان محدودية الغذاء ونوعه الذي يتناوله الاسكيمو قد يؤدي الى مشاكل صحية، لكن العكس هو الصحيح، حيث ظهر ان فرد الاسكيمو الذي تتمتع رئتيه بانقى هواء على سطح الارض، مصان من المتاعب الصحية، فانسان الاسكيمو نادرا ما يتمرض، وبذلك يُعد الاسكيمو من اكثر الشعوب التي تتمتع بصحة جيدة في العالم.

اما في النواحي العاطفية فنقول: : اذا اراد شخصان من افراد الاسكيمو ان يقبلا بعضهما، اظهارا للمشاعر، فانهما يكتفيان بملامسة الانفين فقط، لأن اللعاب اثناء التقبيل يجمد، مسببا التصاق الشفتين.

اما اذا اراد الافراد ان يتعرف احدهما على الاخر، اكتفيا بشم الخدود ليس اكثر.

اما عن معتقداتهم، فإن شعب الاسكيمو يعتقد انه سيعيش حياة ثانية بعد الموت.

وان للبحر والشمس والقمر ارواحا تتحكم في مصيره، هذا كل ما سمعناه من دليلنا السياحي.

وحينما حان وقت الرجوع لا زال النهارا مشمسا، بدأ اليوم يكمل بقية ساعاته ويدخل تدريجيا في نصفه الثاني (الليل) دون رؤية اية اشارة تشير الى ذلك، عدا اشتداد البرد، وهذه سمة المناطق القطبية، سببها الميل المحوري للارض.

هكذا انطلقت جماعات الاسكيمو تختفي تدريجيا في قببهم الثلجية بعد انقضاء (نهارهم).

في هذا الوقت بالذات أخبرنا القبطان بنفاذ مدة اقامتنا في بلاد غرينلند والتي حددت بسويعات معدودة، ودعانا للصعود الى الطائرة، وبعد دقائق من الاقلاع، كنا نحلق ثانية فوق المحيط المتجمد الشمالي ونحن في طريق العودة الى ايسلندة، متمتعين بمناظر جباله الثلجية الزاهرة، فجمالها كان يهز الخيال. انها كانت طافحة بفيض من المشاهد الجغرافية خارج عالمنا المألوف فريدة النوع، لا يرقي الى جمالها وصف.

· ان ما ذكرته اعلاه عن جماعة الاسكيمو، يعود تاريخه الى قرابة نصف قرن من الزمان، ولا علم لي بمدى ما هبت رياح التغيير والتطور على هؤلاء القوم خلال الفترة الماضية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here