الحاجـــز

ملاحظة: هذه اول قصة فلسطينية كتبت عن الانتفاضة الفلسطينية – انتفاضة الحجارة!!

الحاجـــــــز

نبيل عودة

تعكر الجو منذ بداية هذا اليوم، عندما كان احمد في طريقه الى عيادته، اعتراه شعور من القنوط والتهيب الذي لم يعرف له سببا. حاول ان يعود بذاكرته الى اللحظة التي فتح فيها عينيه هذا الصباح … عله يجد جوابا لما يعتريه الآن وهو يقود سيارته.

ساعة استيقاظه هي نفس ساعة الاستيقاظ المعتادة منذ فتح عيادته … حتى ايام الراحة يستيقظ تقريبا في نفس الوقت، مع فارق بسيط انه يتأخر في قلع البيجاما، الا إذا طلب لعيادة مريض ما .. ولكن منظر الشوارع المألوفة والمعروفة له منذ نعومة اظفاره يجعله قانطا ومتهيبا من شيء مجهول.

اغتسل وارتدى ملابسه. زوجته واصلت النوم كعادتها. سخن الماء، اعد كوب شاي بالنعنع، ارتشف ببطء وهو يسمع نشرة الأخبار، رطب وجنتيه وعنقه ببعض الكولونيا. شد ربطة عنقه، تناول حقيبته وخرج وزوجته لا تزال تغط بالنوم، تفاصيل روتينية يكررها كل يوم. اذن ما الباعث لشعور القنوط والتهيب ؟!

شغل محرك السيارة لعدة دقائق .. ثم انطلق في الاتجاه المعتاد الذي الفته عيناه.

******

الأحداث في القطاع انفجت من جديد. عدد مجهول من القتلى وعشرات الجرحى. هذا ما فهمه احمد من المكالمة التلفونية، حيث طلبوه في المستشفى للمساعدة. هذا الطلب بحد ذاته يشير الى العدد الكبير من الاصابات الصعبة.

بعد ذلك فهم الحادث بالتفصيل، “بداية” الحادث ان دورية عسكرية اعترضت مجموعة من التلاميذ المتوجهين للمدرسة، وامروهم بالتفرق وعدم السير الجماعي نحو المدرسة. ويبدو ان التلاميذ لم يبلعوا هذا الاستفزاز هذه المرة. فالتراكم يولد الانفجار، هذا مفهوم، احمد نفسه كاد ينفجر مرات امام الحواجز. ولكنه يبلعها في اللحظة الاخيرة، المؤكد ان التلاميذ لا يملكون ضوابط كالكبار. والمؤكد ايضا ان الانفجار سببه ليس الاستفزاز الوقح الجديد… انما هي سلسلة متواصلة من الاهانات اليومية المتكررة .. ان تعيش تحت طقطقة الاعقاب الوحشية، ان تعيش طفولتك وشبابك امام حواجز الجند ونظراتهم الحاقدة .. ان تعيش كل يوم في انتظار الفرج الذي لا يبدو انه قريب .. ان تعيش حالما بالفرح الانساني، بينما واقعك مليء بالترقب لرصاصة من فوهة بندقية يحملها جندي ما، كل ذلك يتجمع لينفجر في لحظة ما بعنفوان لا ضابط له. ربما قاعدة الحياة صارت تختلف. ساعات الهدوء في القطاع والضفة هو الشذوذ .. بينما الانفجار يكاد يتحول الى قاعدة.

هذه الافكار راودت احمد خلال توجهه السريع الى المستشفى. كانت تتنازعه شتى المشاعر والاحاسيس، ويحاول ان يضعها في إطار منطقي. كثير من المسائل لا يستطيع قبولها اي منطق. مثلا مسألة القتل اليومي .. القتل بمفهومه المباشر.. ان يطلق جندي ما رصاصة فيسقط فلسطيني. او القتل بمفهومه الانساني، باستمرار الوضع القائم. الحياة تحت اعقاب البنادق وتحت احذية الجنود، ومواجهة عملية الاذلال والبطش اليومي ؟!القتل بمعناه المباشر قد يبدو أكثر انسانية من مواصلة الحياة تحت حراب الجند واحذيتهم. القتل يعني نهاية المعاناة.

هل تكون عملية تخليص شعب من معاناته، بقتله، بتصفيته جسديا ؟!

قد تبدو هذه الفكرة انسانية في هذا الزمن الرديء، “ام الزمن العربي لوحده الرديء في هذا العصر؟!” سأل نفسه واستطرد مفكرا:

– الدول العربية لا تحرك ساكنا لفضح الواقع المأساوي لشعب صار القتل حادثا يوميا في حياته .. حتى رد فعل بسيط معدوم، مع انهم يدعون ان فلسطين قضيتهم الاولى ؟!

شيء يثور في اعماقه، يتمرد، يتضخم ويكاد ينفجر. صراخ غاضب يشعر به محبوسا في صدره. يهزه من الداخل فيضغط على نفسه ويضغط. وتشده افكاره مرة اخرى:

– يجب ان لا نسمح بتحويل قتلنا الى عادة .. الى روتين يومي. الدول العربية. لتذهب الى الجحيم .. انها لا تفعل سوى ان تهتم بدعم مجموعة من زلمها .. ان تكون من جماعة دولة ما لذلك ثمن تقبضه، حتى الدين صار له ثمن. ان تطلق لحيتك، وتتبع فئة معينة، لذلك اجرة معينة، ليس عند ربك، بل فئة لها مصلحة في ابتعادك عن مشاكل مجتمعك. صرنا نعيش في جحيم التفاهات، وهي للحقيقة تتلاءم مع زمن تسيطر عليه قيم واخلاق التفكير الاقطاعي، ومثل ورموز عصر النفط، الا الفلسطيني … لا ثمن له. الانسان لا ثمن له !!

هل يفقد ثقته ؟!

كان منطلقا بسيارته نحو المستشفى يعبر الشوارع شبه الفارغة الا من بقايا الحجارة المقذوفة … وهنا وهناك لا تزال المناوشات مشتعلة. ودوريات تزعق في شتى الاتجاهات. والرصاص يعوي كالكلب. تارة يشتد عواؤه وتارة يخفت. والدخان يتعالى من عدة نقاط في المدينة المتمردة…

ربما هذا التمرد هو ما يعطي لهذا الشعب هذه القدرة على الاستمرار وتحدي المعاناة. المعاناة قد تكون سببا للقنوط، الواقع المأساوي قد يكون سببا للقنوط، انتظار ما هو اسوأ هو سبب اكيد للقنوط .. ومن المؤكد ان الانفجار يحمل في طياته الرفض للتفاهات التي نمارسها دون اقتناع … نمارسها لأجل الثمن المدفوع.

يثلج الصدر ويخفف الواقع الاجتماعي ان الأجيال الجديدة تواصل التحدي، رغم الليل الذي يحيكه من حولهم بعض ذوي القربى والأعداء، رغم تباين المواقع، يواصلون التحدي في الشوارع، رغم الجند المدججين بالسلاح .. يواصلون التحدي في الشوارع .. ويرفضون الصمت على مضاضة. يؤلمهم الصمت الرسمي للأشقاء العرب. ولا ينتظرون حسنة من أحد. يدفعون دمهم ثمنا لصمودهم. استمرار الهيجان يخفف من عبئ القنوط .. يتخيل الجثث الشابة المقتولة .. والاجساد المشوهة .. فيزداد احمد قنوطا والما داخليا.

امام الحاجز لم تنفع اشارة الطبيب الملصقة على السيارة … انزلوه واجروا عليه تفتيشا وفحصا لأوراقه وسيارته، بحثوا عن اسلحة يحملها، ربما حجارة. فتحوا حقيبته الطبية وأفرغوا محتوياتها على مقعد سيارته ..وجسوها بتأني خوفا من اخفاء حجر او ربما تعويذة مضادة للاحتلال. اصوات طلقات غزيرة .. وبعض الحجارة تكاد تصل للحاجز من الشوارع المحاذية ..ومع زخات الحجارة يرعد اسم فلسطين بآلاف الحناجر .. مئات البالونات لونت بأعلام فلسطين طيرت في الفضاء .. اثارت عصبية الجنود فأمطروها بعشرات الطلقات. ولكن السماء تمتلئ بأعداد متزايدة من البالونات الملونة بلون العلم الفلسطيني. لأول مرة منذ هذا الصباح يتحرر من قنوطه. كم يود ان يقذف حجرا، ان يركض مع الاف الشباب .. وان يجهده العرق .. وان يطير بالونا ملونا بالعلم الفلسطيني، وان يصرخ بأعلى صوته باسم فلسطين. يتلذذ وهو يسمع الصدى الرهيب لتساقط الحجارة واصوات الطلقات وصرخات الجنود المتفاجئين من هذا المطر المؤذي … ينظر نحو الضابط ذو الاصابع المنتفخة .. الذي يلوك سيجارته بحقد، ونظراته تحمل الكراهية خلقة … ويتهادى في مشيته كأبطال الكاو بوي الامريكيين… ويكز على اسنانه مع كل زخة فلسطين يطلقها الشباب مع رشقات الحجارة. أجل لماذا القنوط ؟!حبس ضحكة كادت تفلت منه عندما اعترته رغبة مجنونة ان يمد ذراعه اليمنى مبرزا اصبعه الاوسط نحو وجه الضابط … وليكن ما يكون، ولكنه زجر رغبته الطبيعية، واكتفى ان يتزود من وجه الضابط المضحك المثار كلما دوى اسم فلسطين، اقوى من الرصاص والعساكر …

استغرق تفتيشه على الحاجز لدقائق قليلة ولكنها متوترة قاسية. وربما لأول مرة يعتريه شعور الفرح الممزوج بالرهبة قليلا. احساس من القوة يتسرب اليه، وتأخذه افكاره بعيدا … قال لنفسه:

– نحن اقوى منهم ,,, هذا لا شك فيه …ان تواجه قاهري كل العرب ببعض التلاميذ، وبعناد لا يعرف نهاية ولا رادع، وبإصرار على الحق لا يهتز …

– سع ( سر بالعبرية )

أمره عسكري، فانتشله من افكاره. اراد ان يقول ” تودا رباه” (شكرا) كما تعود ان يكون لطيفا، وهو يعرف انه يقولها مجبورا مقهورا …ولكن لسبب ما بدت له هذه المرة قذارة لا يستطيع التفوه بها .. وهو في مثل هذا الموقف. هل يشكرهم لأنهم احتلوا وطنه ؟!هل يشكرهم لأنهم شردوا شعبه ؟! هل يشكرهم لأنهم يقتلون شعبه منذ اربعين عاما ؟! هل يشكرهم لأنهم يحولون حياة من بقي في الوطن من شعبه الى جحيم ؟! وهل وهل عشرات الأسئلة تنهال عليه … ينظر إليهم نظرة كراهية، شاعرا انه جزء من الشباب الذين يواجهون عساكر الاحتلال بالحجارة والاعلام الطائرة، وبدوي اسم فلسطين الرهيب الوقع على اسماعهم، والأقوى من كل جبروت الاحتلال المرئية والمخفية.

لا، لن يخيفوا شعبا يتمسك بوطنه!

شغل موتور السيارة .. القى نظرة على الكاو بوي الثخين، ذي النظرة التي تحمل الكراهية خلقة .. وبدأ يتحرك نحو الامام .. حين اجفلته ضربة الحجارة.. واصوات طلقات نارية وقنابل غاز .. فتحول الحاجز الى حيص بيص .. والارض امتلأت بالحجارة وزجاج القناني .. وبزجاج سيارته والسيارات العسكرية. تسمر في مكانه ظانا للوهلة الاولى ان عساكر الحاجز يهاجمونه …التفت بشيء من الخوف نحو العساكر، فشاهد الكاو بوي منبطحا في منتصف الشارع ينزف دما، ويكاد يكون بلا حراك …احتار ان ينطلق بسيارته مبتعدا ام يقدم مساعدة ما لهذا الملقى بلا حول ينزف دما. كان زجاج سيارته الخلفي قد تطم تماما، وتركت الحجارة معالمها الواضحة على جسم السيارة. واستمر احمد في حيرته:

– هل اسعف ذلك الكاو بوي الثخين ؟!

تردد مرة اخرى هذا السؤال، ورد على نفسه:

– انه عدو حاقد..

– انه مجرد انسان ينزف ..

– أنت ضعيف امام منظر الدم البشري ؟

– اكرهه كعدو .. لا جدال في ذلك، ولكنه ينزف؟

– ليذهب الى الجحيم .

– ليس ذنبه انه وحش .. مساعدة انسانية قد تغيره.

– وهل يتحول الذئب الى شاه ؟

– لا تخلط.

– التلاميذ الجرحى بالشوارع ..الدم المسفوك في المخيمات ..احذيتهم التي تدوس كرامتنا كل يوم .. اطفالنا المقتولون بلا رحمة.

– الوقت لا يسمح بالجدال .. أسعفه ثم نرى.

– هل كانوا هم يسعفوني لو كنت انا المصاب ؟

– انت طبيب والطب مهنة انسانية!

– ولكني فلسطيني .. والحديث هنا عن عدو ..وليس مجرد عدو ..اربعون عاما ونحن نعاني مرارة الضياع والتشرد، وما زلنا !!

– كفى كفى !! سنعالج قضية فلسطين فيما بعد، انه ينزف ولا تنسى انه بشر مثلنا ..انسان !!

– انسان.. ؟ كم يضحكني هذا الوصف.

– الوقت لا يسمح للسخرية ..أنقذ الانسان الذي فيه.

– لو كان فيه بقية انسان لرفض الاحتلال . لرفض ان يمارس العنف ضد شعب مشرد اعزل؟

– ليس ذنبه…

– وهل ذنبنا اننا نطالب بحقنا ؟

– لا تفقد انسانيتك ..تذكر ان قوتنا في انسانيتنا.

– أعرف .. ولكني لا أستطيع ان أنسي انه عدو شرس، لا يرحمنا، وما يحدث الان يثبت ما اقول.

– انت طبيب وهو مجرد جندي مأمور..

– بأي وجه سألقى زوجتي ..بأي يدين سأرفع ابني ..ماذا اقول لجيراني ..ماذا اقول لمن ثكلوا عزيزا عليهم .. ؟

– انسانيتنا هي قوتنا ، اذا فقدناها فقدنا مبرر وجودنا، فقدنا مبرر دولتنا .

– وهل يصح لهم ما لا يصح لنا ؟

– لا تأخذ القطيع بجريرة الراعي .

– الانسانية الزائدة تتحول الى هبل !

– نتجادل فيما بعد .. انت طبيب، وهو ملقى ينزف دما، لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الالام.

– اعرف ذلك .. واعرف أكثر انه عدو لا يرحم. يضحكه لون دمي. جراحي تزيد شراسته. عذابي يثير هزئه، وفلسطينيتي تثير أدني مشاعر السادية في نفسه.

– الجدال الان عقيم .. تبقى حقيقة واحدة كبيرة، لن نسمح لاحد ان يسرق منا انسانيتنا .. واثبت ذلك الان .. أسعفه !!

فتح احمد باب سيارته، ونظر الى الكاو بوي الثخين الملقى بلا حركة منذ لحظات، كانت الاف العوامل المتناقضة تصطرع في نفسه، تحرك مكرها نحو الانسان الملقى .. فحصه فحصا سريعا، وفوجئ ان نبضه غير محسوس.

دوي الرصاص في اذنيه والحجارة تتساقط حوله، وهو يجري تنفسا اصطناعيا للضابط الملقى .. انسان .. عدو .. تشربت المفاهيم في دماغه، ولم يعد يفكر الا بأنه يواجه صراعا ضد الموت، وعليه ان ينتصر للحياة ضد الموت، كان يضغط عدة ضغطات قوية على صدر الضابط. ثم يعطيه نفسا من الفم للفم. ويعاود الضغط الرتيب، واعطاء النفس، والجنود حوله يطلقون النار بلا وازع. وهو، حين تعاوده الافكار يشعر بالحيرة، او الضياع في حيرته ومتناقضاته. لا يعرف. هل يعبر بذلك عن انسانيته؟ ام عن هزيمته كانسان؟ ويكاد يتيقن انه يواجه انشطارا في شخصيته، بين فلسطينيته ومهنته. لأول مرة يعتريه شعور القرف من مهنته. لماذا يسمونها مهنة انسانية؟ هل ما يقوم به هو عمل انساني؟ ام هزيمة انسانية؟ ومع ذلك يقاتل لإعادة النبض والحياة لهذا الضابط ذي النظرات الحاقدة خلقة. يرتسم في خياله ابنه، يحاول ان يرفعه بيديه فيهرب الطفل رافضا اليدين اللتين انقذتا عدوا. حتى زوجته الهادئة ترفض ان يضمها بذراعيه. يشعر بدمعتين في مقلتيه. يواصل الضغط بعناد، محاولا التخلص من افكاره، مبتعدا عن مشاعره المتضاربة، متناسيا تناقضاته وعذاباته. انه يساعد عدوا بينما عشرات ابناء شعبه ملقون ينزفون دما. ليس الان وقت هذه الافكار. ونبض الضابط لا يتحسن. يواصل الضغط الرتيب على الصدر واعطاء التنفس فما لفم. يفحص حدقتي العينين، ويواصل القتال ضد الموت. كم تمنى قبل لحظات ان يمد كفه بأصبعه الاوسط في وجه الضابط الملقى الآن بلا حول .. وها هو يقاتل لإعادته للحياة، ماذا يقول لجارته التي فقدت ابنها قبل اسبوعين؟ ماذا يقول لزملائه ومعارفه؟ هل يفتخر انه أنقذ عدوا؟

شيء من الهدوء ساد حوله، وركض نحوه أحد الجنود مستفسرا ان كان يستطيع ان يساعده بشيء. طلب منه شيئا مرتفعا ليضعه تحت الرقبة .. وما هي الا لحظات حتى كانت بطانية مطوية تضع وراء رقبة الضابط .. ليتدلى رأسه الى الخلف أكثر .. واصل احمد الضغط الرتيب بعناد اشد شالا كل صراعاته الفكرية مع نفسه، طاردا التخيلات المقلقة، مجهدا نفسه بعناد لإعادة التنفس الى الشخص المسجى على الاسفلت. لا يعرف كم استغرقه من وقت، لكنه كان في منتهى درجات الاجهاد .. ولا يستطيع ان يحكم على نتيجة تصرفه … ويعرف تماما انه سيتعذب ويتصارع مع نفسه، وصلت سيارة اسعاف عسكرية، فشكروه، يا للمهزلة، يشكرونه على امر هو نفسه لا يستطيع إدراك صوابه، شعر ان القنوط يعاوده من جديد، يحاول ان يطمئن نفسه، فلا يدري كيف يطمئنها .. فتعاوده الافكار المتباينة .. فلا يكتشف الا وهو في المستشفى. فيغرق في عمله مكتشفا ان الاجهاد والارهاق أفضل طرقة لراحة الدماغ.

******

تلك الحادثة عذبته.. فخبر ما فعله مع الضابط قد انتشر، صحيح ان ابنه وزوجته بقيا على نفس الحب والتعلق، حتى جارته الثاكل تبتسم له وتتمنى له كل خير. ينظر بوجوه الناس، فلا يجد الملامة، انما الحب الذي تعود عليه، لشد ما كان يجهل حقيقة شعبه، ولشد ما يزداد حبه لهذا الشعب. ان تكون طيبا لهذه الدرجة، ان تكون متسامحا لهذا الحد، ربما في ذلك بعض التهلكة. ربما سبب ضياعنا كل هذا العمر …. أو يكون سبب تحكم الارذال برقابنا، ناتج عن طيبتنا وتسامحنا؟ الحرب خدعة ولكنهم يلعبونها واضحة كضوء الشمس في الظهيرة.

ايام واحداث كثيرة مضت، والهدوء في السنة الاخيرة بات شبه نادر. ولكن شعبه يواصل الحياة بعناد، والنساء يواصلن الانجاب، والشوارع ملآى بالصغار، والشهداء يكرمون بشتى الوسائل، اسماؤهم تطلق على الخلق الجديد، والأزقة تسمى بأسمائهم، والمواقع تسمى بأسمائهم، عالم كامل ولد ويولد عبر الصمود. قيم جديدة تصارع العفونة المترسبة. تصارع الضياع. تصارع من يدفع ثمنا للقيم البشرية …

ولكن احمد رغم ما مر عليه لا يستطيع ان يضع ما فعله في إطار واضح مقبول. بقي شيء غريب يستفزه كلما اختلى الى نفسه من مشاغله. يستفزه ويعيده الى صراعاته الفكرية. يحاول ان يفلسف تصرفه اعتمادا على تقبل الناس. ولكن شيئا يتمرد في داخله ويرفض. عندما يقرر بينه وبين نفسه انه أخطأ، تثور في نفسه عوامل مضادة تثبت له انه تصرف كطبيب وانسان. ما كان من المعقول ان يتخلى عن انسانيته. يلتبس عليه الموقف ويؤرقه .. ربما دافعا مجهولا اورده هذا الموقف؟ يعاود محاورة نفسه .. ثم يغرق بالعمل.

صار يكثر من التأمل والتفكير، ولا ينسى حادثته الا احيانا، خاصة عندما يغرق بملاعبة ابنه الصغير .. ضحكات الطفل العذبة تنسيه صراعاته الفكرية. ترى هل عند الضابط ارتباطات عائلية مثله؟ هل له طفل كهذا، يضحك بعذوبة، ويدخل السعادة لصدر والديه؟ وهل تبقى الكراهية في نظرات الضابط وهو يلاعب طفله ؟!

في عصر أحد الايام انطلق احمد ترافقه زوجته في طريق العودة الى البيت، يحملان بالسيارة العاب وحلويات، فاليوم عيد ميلاد الصغير .. لذا أنهي احمد عمله باكرا، ورافق زوجته للتبضع، وها هما الآن في طريق العودة الى البيت. يستمع احمد من زوجته لنوادر الصغير، ويبتسم ناسيا ما يعذبه من افكار، سارحا في عالم الطفولة الجميل، وزوجته اللبقة، وصاحبه الخيال الواسع، تعرف كيف تنقل له الحديث بتفاصيله، بحيث يبدو وكأنه يحدث الان امامه.

اقتربوا من أحد الحواجز العسكرية المنتشرة كالسرطان في الشوارع. فلمح ضابطا اثار انتباهه. وسرعان ما اكتشف انه الضابط نفسه، الكاو بوي المنتفخ، ذو النظرات التي تحمل الكراهية خلقة.

تسمرت عيناه فوق وجهه .. اكيد هو، نظراته لم تتغير، السيجارة يلوكها، واسنانه صفراء. لا يعرف ان كان يسعده ذلك ام يخجله. الضابط يتجاهل نظراته، ويعطي اشارة السماح بالمرور دون تفتيش، يبدو انه اعتراف بالجميل. ولكنه جميل مرفوض. يريد ان يفتشوه كما يفتشوا غيره. يرفض هذا الشكر والاعتراف بالجميل. لم ينقذه لأنه ضابط، بل لأنه انسان. آه، ما أسخف هذا التعبير احيانا. أصر العسكري عليه ان يواصل السير. اعترته للحظة فكرة مضحكة في غرابتها. يطلقون عليه النار، ويعلن الناطق العسكري ان سيارة رفضت الامتثال للأمر بالتوقف عند الحاجز .. فأطلقت عليها النار !! هل يمكن ان يكون الاعتراف بالجميل بمثل هذا الشكل الحاقد؟ عقله يعجز عن تصور ذلك. القى نظرة اخرى عبر المرآة على الضابط، فشاهد كرشه الممتلئ والمدكوك داخل البنطال العسكري عنوة. واصل ابتعاده عن الحاجز وهو يوضح لزوجته ان الضابط اياه هو نفس الضابط الذي أسعفه وأنقذه من موت مؤكد. وحاول ان يعترف امامها بحقيقة ما يتنازعه من مشاعر وافكار حول تصرفه. لقد صدمته رؤية الضابط وأطارت من رأسه نشوة الحديث عن الصغير ونوادره، ووجد نفسه مضطرا ان يوضح لأقرب الناس اليه حقيقة مشاعره مما حدث … عله بذلك يتخلص مرة والى الأبد من عذابه وتناقض مشاعره وضغط افكاره. فجأة اهتز كل جسده .. ارتعد من اصوات طلقات حادة تخترق زجاج سيارته، داس على الفرامل هاربا في الوقت نفسه لأقصى اليمين، ملتفتا في الوقت نفسه نحو مصدر النار. كان الضابط اياه يقف امام الحاجز، شاهرا مسدسه ومنظره يوحي بالوحشية .. اثار انتباهه عدم رد فعل زوجته لما يحدث .. ربما أطلقت في بداية الحدث صوتا ما .. لا يذكر .. التفت اليها وصعق .. توسعت حدقتي عينيه لمرأى الدم المتفجر من رأس زوجته … تنازعته شتى صنوف الألم والحقد، يرفع ابنه الصغير بين يديه، فيبصق الصغير بوجهه. يحاول ان يضم زوجته فيصده دمها التفجر …يبحث عن صوته ليطلق صرخة، فلا يخرج من فمه الا لهاث متقطع، تنخرس الكلمات، وطفله يركض وراء نعش ينادي بأعلى صوته: “ماما “. لغم ينفجر بالصغير فيرتقع عمود دخان .. وحين يأخذ صوت الانفجار والدخان بالتلاشي .. يبحث عن طفله فلا يجد الا بقايا قدم بحذاء طفولي ممزق. يرتمي عاجزا فوق مقود السيارة، متخبطا في موقفه .. يخبط رأسه بالمقود حتى يشعر بالألم والدم يتفجر من رأسه ..ينظر نحو زوجته المقتولة.. وفجأة يعود اليه صوته فيصرخ بأقوى ما يستطيع … يشغل موتور السيارة، ويأخذ المقود الى اقصى اليسار. ينطلق بسيارته مشتت الذهن ودمه يسح على وجهه. نظراته مسمرة نحو الحاجز. والألم يكاد يمزقه من الداخل. والضابط الكاو بوي امامه. صلعته امامه. صدى الاصوات تتكرر في ذهنه. ساق في حذاء ممزق. طفله يضحك. ومع ضحكاته يتدفق الدم. تعابير عقيمة تتصارع في ذهنه. زوجته لا تزال تبتسم. وكأنما تقول له هذا ما جنيته علي. يضغط برجله على دواسة الوقود. حتى يجعلها تلامس ارضية السيارة. يديه تتسمران فوق المقود. ونظراته تتمغنط فوق صلعة الضابط. الكاو بوي الذي يلوك سجائره. النظرات التي تحمل الكراهية خلقة.

( الناصرة – 1978 – 12 – 12 )

**********************

قراءة في قصة “الحاجز”* لنبيل عودة

بقلم الناقد السوري: محمد توفيق الصواف

يقود تحليل مضامين بعض القصص التي ألفت، داخل الوطن المحتل، عن الانتفاضة (القصد انتفاضة الحجارة) ، إلى امكانية الزعم بأن مؤلفيها، قد أدركوا عمق الصلة بين ممارسات السياسة الاضطهادية التي نهجها الاحتلال الاسرائيلي/ وما يزال، ضد العرب في الوطن المحتل، وبين حتمية انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية، وتحولها إلى ثورة شعبية شاملة، ضد نتائج تلك السياسة العدوانية، وضد الأساليب العنصرية الوحشية التي تنفذ بها… لقد أدركوا أن تلك الثورة العارمة كانت، بالدرجة الأولى، وليدة تراكم سلبيات تلك النتائج والأساليب، على مختلف صعد الحياة التي أكره الإنسان الفلسطيني على أن يحياها في ظل هيمنة استعمار استيطاني لا يرحم… “فالتراكم يولد الانفجار”، كما يقول القاص نبيل عودة، في قصته “الحاجز”‏

ففي هذه القصة القصيرة الرائعة التي تعدّ من بواكير النتاج الأدبي الذي استلهم أحداث الانتفاضة، حسبما يستدل من تاريخي كتابتها ونشرها(1) ، وأثناء جولان مؤلفها في العقل الباطن لبطلها -الطبيب الشاب أحمد، نلاحظ شروع الأديب الفلسطيني في تلك المحاولة التساؤلية الشاقة والمعقدة.. شروعه في رحلة البحث عن أسباب الثورة العارمة التي انتظر وشعبه ميلادها، منذ عشرين سنة.

من الخطوة الأولى، في مسيرة هذه الرحلة، يتجنب نبيل عودة تأكيد الايحاء بعفوية انطلاقة الانتفاضة، هذا الايحاء الذي يثيره في الوهم، حادث الاعتداء الاستفزازي الذي قام به جنود الاحتلال الإسرائيلي ضد مجموعة من تلاميذ المدارس في مخيم جباليا بقطاع غزة، صباح يوم التاسع من شهر كانون الأول عام 1987، خرجوا يرجمون السيارات الإسرائيلية بالحجارة، تعبيراً عن احتجاجهم على حادث الشاحنة الإسرائيلية التي دهست، قصداً، في اليوم السابق، عدداً من العمال العرب، على مفرق جباليا -بيت حانون، وأودت بحياة أربعة منهم على الفور، في حين جرحت سبعة آخرين، على مرأى من عشرات العمال والأهالي العرب الذين كانوا متجمعين عند المفرق نفسه.. فقد هاجم جنود الاحتلال التلاميذ العرب بوحشية، وحين لم تفلح هذه الوحشية في تفريقهم، أطلق قائد القوة العسكرية الإسرائيلية الرصاص على التلاميذ الذين طوقوا عساكره، فقتل شاباً صغيراً، وجرح ستة عشر آخرين، استشهد أحدهم، بعد نقله إلى المستشفى.

حين هرع سكان المخيم جميعاً، غاضبين، ليحملوا جثمان الشهيدين من المستشفى، في موكب ضخم، ردت قوات الاحتلال بإطلاق الرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع عليهم، ثم فرضت نظام حظر التجول.. وكان هذا إيذاناً بانطلاق شرارة الانتفاضة التي امتد لهيبها من غزة إلى الضفة الغربية فالقدس. ‏

لقد أدرك نبيل عودة، وبعمق أن حادث الاعتداء على التلاميذ بكل ما فيه من وحشية وإثارة للاستفزاز، ما كان بقدرته أن يصنع، وحده، ثورة شاملة وعظيمة كالانتفاضة، لو لم يكن المناخ مهيأً لاستقبال شرارة انطلاقتها. إذاً فالذي صنعها ووفر لها امكانية الاستمرار، كان تراكم الحوادث المشابهة، على مدى عشرين سنة.. “والمؤكد أيضاً أن انفجار التلاميذ سببه ليس الاستفزاز الوقح الجديد.. إنما هي سلسلة متواصلة من الاهانات اليومية المتكررة.

كالباحث الموضوعي الذي يؤيد نتائج بحثه ويدعمها بالشواهد والوثائق، يقدم نبيل عودة نماذج من تلك الاهانات، ومن صور الممارسات القاسية الأخرى التي عاناها شعبه، في ظل الاحتلال الإسرائيلي، والتي تحولت إلى ضغوط أدى تراكمها، في النهاية، إلى انفجار الانتفاضة… “أن تعيش تحت طقطقة الأعقاب الوحشية، أن تعيش طفولتك وشبابك أمام حواجز الجند ونظراتهم الحاقدة. أن تبلع كل يوم مرارة انتظار الفرج الذي لا يبدو أنه قريب. أن تعيش حالماً بالفرج الإنساني، بينما واقعك مليء بالترقب المقيت لرصاصة من فوهة بندقية يحملها جندي ما، كل ذلك يتجمع لينفجر في لحظة ما بعنفوان لا ضابط له.

نعم، إن ديمومة الإرهاب، وكابوس التهديد الدائم، والاذلال العنصري المتواصل للكرامة، مع ما يصاحبه من نظرات استعلاء وحقد واحتقار، على المستويين الشخصي والقومي، والخوف من قدوم الموت المجاني برصاصة لامبالية، دون أي مسوغ جرمي معقول، واليأس من قدوم الفرج دون تضحيات؛ كل هذا، وكثير غيره مما يشبهه، يتجمع، في النهاية، ليشكل منظومة الأسباب والعوامل التي تجعل الانفجار على استمرارية هذا الجو الكابوسي، حتمياً، لا مناص من حدوثه، مهما كانت العوائق والعقبات كثيرة وقوية، ومهما كان حجم التضحيات المحتملة كبيراً.. وذلك، متى بلغت القدرة على الاحتمال زباها… متى طفح كيل الصبر وفاض…‏

وإذا أضفنا إلى ذلك كله، الرفض الفلسطيني القاطع لوجود الاحتلال الإسرائيلي منذ حدوثه، بأي صورة كان، وأياً كانت سياسته وممارساته، لأدركنا أن الثورة قد تفجرت، أصلاً، من كينونة هذا الرفض نفسه، وجاءت ممارسات الاحتلال القمعية لتغذي عوامل انفجارها…‏

******

في قصته “الحاجز” يطرح نبيل عودة هذا الموضوع، من زاوية رصده للحظة التحول التاريخية الحاسمة التي مرّ بها وعي الإنسان الفلسطيني، قبل أن ينطلق ثائراً، معلناً رفضه القاطع لاستمرارية العيش في كابوس الاحتلال العنصري… فبعد سنوات طويلة مرهقة من معاناة هذا الإنسان لشتى ضروب العسف والقمع والإرهاب، محتملاً ما يحل به من ويلات، على أمل أن يأتيه الفرج ذات يوم من خارج الحدود، يدرك، متأخراً، عبثية استمراره في موقف المنتظر لذلك الفرج… ثم يبدأ بمراجعة حصاد انتظاره خلال السنوات الطويلة الماضية، فإذا بالنتائج فادحة مرعبة… فانتظاره الطويل لم يمكنه، بعد عشرين سنة، إلا من قبض الريح،… والاستهانة بحياته وعذاباته ومستقبله، إلى درجة تكاد لا تصدق… فقد أضحى قتله، مجرد حادث عادي، لا يهز ضميراً ولا يثير عصباً، في كيان أحد… أما عذاباته وآلامه الكثيرة، فما أهونها على الناس، وكذلك مستقبله ومستقبل أجياله القادمة… وهنا، أدرك الفلسطيني، بوضوح فاجع، أن ما يعنيه ويعانيه لا يهم أحداً غيره… وبالتالي، لن يغيّر أحد غيره، أيّ وضع من أوضاعه المأساوية، أو من واقعة المتخم بالخوف والقلق، جراء عيشه في مناخ احتمالات التعرض لشتى ممارسات الارهاب والقمع والإذلال، وبشكل خاص، احتمال التعرض للقتل، في أي لحظة، برصاصة حاقدة يطلقها أي عنصري إسرائيلي، جندياً كان أو مستوطناً عادياً…‏

بتعبير آخر محدد الدلالة أكثر، أدرك الفلسطيني، داخل الوطن المحتل، أن انتقاله من موقف المتوقع لاحتمال أن يقتل مجاناً، وسط إذلالات الترقب والخوف من غدر القاتل العنصري، إلى موقف الإقدام الإرادي على الموت، ليس انتقالاً ضرورياً، من أجل غد أفضل فحسب، وإنما هو ضروري أكثر للحيلولة دون استمرار هزلية القتل المجاني، بالنسبة للأجيال الفلسطينية القادمة… تلك الهزلية التي صار قتل الفلسطيني، حسب معاييرها، مجرد حادث عادي، لا يعبأ به أو يهتز له أحد… وهذا ما قصد إليه بطل قصة الحاجز، حين قال، في معرض تعليله لحتمية انطلاقة الانتفاضة، ولضرورة استمرارها: “يجب أن لا نسمح بتحويل قتلنا إلى عادة… إلى روتين يومي..”

بالطبع، ليس المقصود بانتقال الفلسطيني إلى موقف الإقدام الارادي على الموت، أن يمارس الانتحار، بل أن يضع حداً لمجانية موته… أي أن يتحول الموت، في وعيه، من كونه تلك النهاية المرعبة لحياته، إلى التصيّر بداية لحياة جديدة… وهذا يعني أن يصير موته وظيفياً، أي فعلاً إرادياً هادفاً إلى تحقيق غاية نبيلة، أي استشهاداً… ذلك أن حيوات الشهداء الذين يقضون على دروب الوصول إلى شمس الحرية، تتحول إلى رصيد ثمين، ينمو وينمو، في خزانة المستقبل الفلسطيني، ليبزغ، في النهاية، فجر خلاص تضيئه تلك الشمس، في سماء وطن جديد، تعيش فيه الأجيال الفلسطينية القادمة، بحرية وأمن واطمئنان…‏

وهكذا، وأدراكاً من ثوار الانتفاضة لوظيفية موتهم الاستشهادي نراهم “يواصلون التحدي في الشوارع رغم الجند المدججين بالسلاح، أي على الرغم من عدم التكافؤ المذهل، بين حجارة وطنهم المحتل، وأحدث آلات القتل والتدمير التي يقارعهم بها عدوهم العنصري… وهم، في خضم هذا التحدي الصعب، يرفضون أن يقبضوا ثمن صمودهم… بل يدفعون دمهم ثمناً…”(8) للغد المأمول… لخلاص الإنسان الفلسطيني القادم… لميلاد الوطن الحر..

من متابعة تطور أحداث القصة، وتحليل محتوى مضمونها، وحتى نماذج الشخصيات الرئيسة فيها، يتبين أن مؤلفها قد قصد قصداً، إلى محاولة نفي مقولة التعايش السلمي التي يروج لها البعض، من عرب ويهود… مؤكداً عبر النهاية التراجيدية التي ختم بها قصته، أن نفي هذه المقولة يمكن أن يُعد بين أبرز بنود رسالة الانتفاضة، لأنه المرادف الوحيد والمطلق لهدف هذه الثورة العظيمة، هدفها/الغاية المتمثل بالسعي إلى التحرير الكامل للأرض الفلسطينية وشعبها…

من المثير للإهتمام والإعجاب، في آن، محاولة نبيل عودة اقناع قارئه بموضوعية نفي تلك المقولة ومصداقيته، بأسلوب يعتمد الإيحاء بدل المباشرة، وذلك من خلال عرض الموقف الهاملتي المتردد لبطل قصته / الطبيب الشاب أحمد الذي وجد نفسه، فجأة، أسير حيرة قاسية، بين رغبته في تلبية نداء واجبه الإنساني، كطبيب، أمام حالة اسعافية يعانيها عدوه، وبين الاصغاء والإنصياع لصوت واجبه الوطني والقومي، كفلسطيني، في حالة حرب مع ذلك العدو المحتاج لنجدته الإسعافية… فقد عمد عودة إلى عرض هذا الموقف الصعب والحساس، في إطار حوارية، تدور بين بطل القصة ونفسه، في تلك اللحظة الحرجة…. لننصت إلى صوت هذا الحوار الصراعي الذي أداره المؤلف، على مسرح وعي بطله أحمد؛ بين نداءي واجبين، كلاهما جليل ومقدس…‏

“…التفت بشيء من الخوف نحو العساكر، فشاهد الكابوي* منبطحاً في منتصف الشارع ينزف دماً، ويكاد يكون بلا حراك… احتار بين أن ينطلق بسيارته مبتعداً أم يقدم مساعدة ما لهذا الملقى بلا حول ينزف دماً… واستمر أحمد في حيرته…‏

-هل أسعف ذلك الكابوي الثخين؟!‏

تردد مرة أخرى هذا السؤال. ورد على نفسه:‏

-إنه عدو حاقد..‏

-إنه مجرد إنسان ينزف.‏

-أنت ضعيف أمام منظر الدم البشري؟‏

-أكرهه كعدو… لا جدال في ذلك، ولكنه ينزف؟‏

-ليذهب إلى الجحيم.‏

-ليس ذنبه أنه وحش!!..مساعدة إنسانية قد تغيره.‏

-وهل يتحول الذئب إلى شاة؟‏

-لا تخلط..‏

-التلاميذ الجرحى بالشوارع… الدم المسفوك في المخيمات. أحذيتهم التي تدوس كرامتنا كل يوم… أطفالنا المقتولون بلا رحمة…‏

-الوقت لا يسمح بالجدال… أسعفه وبعد ذلك نرى..‏

-هل كانوا هم يسعفونني، لو كنت أنا المصاب؟‏

-أنت طبيب… والطب مهنة إنسانية!‏

-ولكنني فلسطيني، والحديث هنا عن عدو… وليس مجرد عدو… أربعون سنة ونحن نعاني مرارة الضياع والتشرد، وما زلنا!!‏

-كفى، كفى!!سنعالج قضية فلسطين فيما يعد. إنه ينزف ولا ننسَ أنه بشر مثلنا “إنسان!‏

-إنسان..؟ كم يضحكني هذا الوصف.‏

-الوقت لا يسمح للسخرية.. انقذ الإنسان الذي فيه..‏

-لوكان فيه بقية إنسان، لرفض الاحتلال. لرفض أن يمارس العنف ضد شعب مشرد أعزل.‏

-ليس ذنبه..‏

-وهل ذنبنا أننا نطالب بحقنا؟‏

-لا تفقد إنسانيتك. تذكر أن قوتنا في إنسانيتنا.‏

-أعرف… ولكني لا أستطيع أن أنسى أنه عدو شرس، لا يرحمنا… وما يحدث الان يثبت ما أقول..‏

-أنت طبيب، وهو مجرد جندي مأمور..‏

-بأي حق أساعد جندياً عدواً… ليقف مجدداً ويوجه سلاحه نحو شعبي؟!‏

-لو كان حل المأساة يتعلق بهذا الملقى ينزف دماً، لقلت لك ساعد على أن يموت، ولكن لا تنسَ الإنسان الذي فيه؟‏

-بأي وجه سألتقي زوجتي، بأي يدين سأرفع ابني… ماذا أقول لجيراني… ماذا أقول لمن ثكلوا عزيزاً عليهم..؟‏

-إنسانيتنا هي قوتنا، إذ فقدناها… فقدنا مبرر وجودنا، فقدنا مبرر دولتنا.‏

-وهل يصح لهم ما لا يصح لنا؟!‏

لا تأخذ القطيع بجريرة الراعي.‏

-الإنسانية الزائدة تتحول إلى هبل!‏

-نتجادل فيما بعد… أنت طبيب، وهو ملقى ينزف دماً. لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الآلام.‏

-أعرف ذلك، وأعرف أكثر أنه عدو لا يرحم يضحكه لون دمي، جراحي تزيد شراسته، وعذابي يثيره هزأ، وفلسطينيتي تثير أدنى مشاعر السادية في نفسه.‏

-الجدال الآن عقيم… تبقى حقيقة واحدة كبيرة. لن نسمح لأحد بأن يسرق منا إنسانيتنا، وأثبت ذلك الآن… أسعفه! ‏

وينتصر نداء الواجب الإنساني، في القصة، فيسعف بطلها عدوه المصاب وينقذه من الموت… ولكن ماذا يكون جزاؤه على هذا الصنيع النبيل، هل حفظه له عدوه جميلاً، راح يتحين الفرص ليرده له بمثله أو بأحسن منه، أم كان جزاؤه، مماثلاً لما لقيه مجير أم عامر الضبع) في التراث العربي؟‏

قبل الإجابة عن جملة هذه التساؤلات، لا بد من الإشارة إلى أن ثمة مسوغين أباحا، في نظر الباحث، إيراد الحوارية السابقة، بنصها الكامل، على طوله… وأول هذين المسوغين: كون تلك الحوارية وحدة عضوية متماسكة، من الناحية الفنية، بمعنى أنها، بنيوياً، تبدو غير قابلة للتجزيء أو الحذف أو الاختصار. أما المسوغ الثاني، فيتمثل بكون مضمونها زاخراً بالعديد مما يمكن أن يضيء جانباً من فحوى رسالة الانتفاضة، على أكثر من مستوى… فهي إضافة إلى قدرتها الإيحائية الرائعة على إضاءة موقف الإنسان الفلسطيني من العدو الإسرائيلي العنصري، على المستويين الوطني والقومي، تمتلك، مضمونياً، قدرة مماثلة على إضاءة الموقف الإنساني لبطل الإنتفاضة… وهو الموقف الذي يعد واحداً من أبرز خصوصيات رسالة هذه الثورة، ومن أوضح السمات المميزة لفعالياتها كافة، على نحو ما سنلمسه، مفصلاً، في الفقرة التالية من هذا الفصل…‏

وعودة إلى وصل ما انقطع… إلى الإجابة المؤجلة عن التساؤلات الآنفة… عن الجزاء الذي ناله الطبيب الفلسطيني أحمد لقاء صنيعه الإنساني بعدوه..‏

في الواقع نجح نبيل عودة في بناء المفارقة الصارخة بين إنسانية الإنسان الفلسطيني، وبين عنصرية عدوه الإسرائيلي، وكان نجاحه في بنائها بطاقة عبور قناعته التي انطلق منها، كأديب، إلى قناعة قارئه وعقله… فعن طريق هذه المفارقة، ابتعد عن المباشرة في طرح قناعته باستحالة التعايش السلمي بين العنصري والإنساني، وبابتعاده هذا، ترك لقارئه حرية محاكمة الفكرة، وحرية الحكم عليها أيضاً… وذلك حين وضع أمام باصرته حدثاً مختاراً من صميم واقع الحياة التي يحياها الفلسطيني، في جو الاحتلال الإسرائيلي، وكابوسه العنصري المستمر…‏

فعلى الرغم من كل ما لاقاه الإنسان الفلسطيني، من عنت التمييز العنصري، على يد المحتل الإسرائيلي، بل في ذروة تعرض هذا الإنسان لممارسة القمع بحقه، ولاذلال كرامته، لم يملك، حين رأى مضطهده، ملقى على الأرض ينزف دماً، إلا أن يتخلى، ولو مؤقتاً، عن كراهيته لهذا العدو، والتعامل معه كإنسان، “لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الآلام” ومن هذه الزاوية الدقيقة، في الرؤية، مدّ من كان قبل دقائق عرضة للإذلال والإهانة، مدّ يده لينقذ الإنسان الكامن في كيان عدوه…” أنقذ الإنسان الذي فيه”

وبانقاذه، أتم نبيل عودة الطرف الأول من معادلة المفارقة التي صمم بناءها باتقان…ثم جاء دور الطرف الثاني… دور رسم صورة ردّ الفعل الإسرائيلي، على نبالة الفعل افلسطيني وإنسانيته… كيما يضع القارئ أمام الحقيقة، وجهاً لوجه، دون أن يقولها له بصياغة مباشرة…‏

ففي نهاية القصة، يجمع واقع الاحتلال واستمرارية ممارساته العدوانية، بين الطبيب الفلسطيني وعدوه الذي أنقذه هذا الطبيب بالأمس القريب، في موقف مشابه.. أي أمام حاجز عسكري أقامه ذلك العدو للإيقاع بأبناء الأرض التي اغتصبها… ومن أعماقه الإنسانية الصافية، تهيأ للطبيب أحمد الذي كان يقود سيارته برفقة زوجته التي يحبها، أن الكابوي الإسرائيلي قد أمر جنوده بالسماح لسيارة الطبيب أن تعبر الحاجز دون تفتيش، كنوع من رد الجميل… وفي ذات الوقت الذي راح عقل الطبيب يحاكم هذا الرد على ضوء قناعاته الوطنية والقومية، ويرفضه ثمناً لصنيعه الإنساني السابق مع عدوه، “يرفض هذا الشكر والإعتراف بالجميل”، لأنه يتنافى مع الدافع الإنساني الذي كان وراء انقاذه لحياة عدوه، عدوه الذي “لم ينقذه لأنه ضابط، بل لأنه إنسان”، في ذات الوقت، ومن خلال الينبوع الإنساني الصافي المتدفق في أعماقه، لمح النقيض… عبر وجدانه كبرق خاطف مثير، أيقظه من سباحته في أوهام الطيبة والنقاء، ورده إلى قناعته التي كوّنها بتجربته المرة في معاناة الاحتلال، قناعته التي صاغها وعيه الوطني والقومي، في الحوارية السابقة سؤالاً حاداً، طرحه على ضميره الإنساني” وهل يتحول الذئب إلى شاه”؟‏

للوهلة الأولى، رفض ما خطر له، رفض تصديق ملامح الذئب الذي يتهيأ للإنقضاض على منقذ حياته، والتي رآها في وجه الضابط الإسرائيلي… رفضها متسائلاً بدهشة: “هل يعقل أن يكون الإعتراف بالجميل بمثل هذا الشكل الحاقد؟ عقله يعجز أن يتصور ذلك.” لكن التصرف الوحشي الحاقد سرعان ما اضطر عقل الطبيب إلى التخلي عن عجزه، والصيرورة إلى القناعة بالبرهان الحسي، عما كان عاجزاً عن تصوره… كان ذلك، حين اخترقت سمعه ” أصوات طلقات تخترق زجاج سيارته” وفي لحظة رهيبة، تنتاب الإنسان الحائر بين التصديق والتكذيب لما يظنه، في تلك اللحظة التي تفصل بين التصور والحقيقة بإدراك الواقع الملموس، التفت الطبيب، لا إرادياً إلى الوراء، مستطلعاً مصدر النار، فإذا به يرى “الضابط إياه يقف أمام الحاجز، شاهراً مسدسه ومنظره يوحي بالوحشية ” ولكي يكمل نبيل عودة إحساس قارئه بالصدمة الفاجعة، وإثارته بها، يضع إحدى تلك الرصاصات العنصرية الحاقدة، في رأس الزوجة المسكينة… “أثار انتباهه عدم رد فعل زوجته لما حدث، توسعت حدقتي عينيه وصعق لمرأى الدم المتفجر من رأس زوجته.”.

وهنا، في هذه اللحظة، تداعت كل الأوهام دفعة واحدة، في رأس الزوج المفجوع، الزوج الإنسان الذي أنقذ بالأمس حياة قاتل زوجته اليوم.. ومع تداعي الأوهام التي هيأت له بالأمس إمكانية صيرورة الذئب شاة، عبر معالجة ذئبيته بصنيع إنساني، انطلق خياله في رحلة مرهقة من التصورات التراجيدية، “فرأى طفله يركض وراء النعش ينادي بأقوى صوته “ماما”..‏

لغم ينفجر بالصغير فيرتفع عمود دخان. وحين يأخذ صوت الانفجار والدخان بالتلاشي، يبحث عن طفله فلا يجد إلا بقية رجل بحذاء طفولي ممزق.”. ‏

وهربا من هذا التصور وأمثاله، وإيماناً قوياً بضرورة منع صيرورته واقعاً، بأي ثمن، يقرر أن يدق بنفسه، أول المسامير في نعش ذلك الذئب العنصري، وأن يسدل بيديه اللتين أنقذتاه يوماً، الستار على استمرارية هزلية قتل الفلسطيني مجاناً … ففي واقع تسوده شرعة الغاب وقوانينه، لا مجال للتسامح، أو الطيبة، أو الإنسانية الزائدة مع الذئاب… لأن “الإنسانية الزائدة تتحول إلى هبل” أحياناً..‏

ومن منظر زوجته المغدورة، وحيلولة دون أن يلقى ابنهما نفس المصير يوماً، نراه “يشغل موتور السيارة، ويأخذ المقود إلى أقصى اليسار، وينطلق بالسيارة مبعثر الذهن، دمه يسح على وجهه، نحو الحاجز، والألم يكاد يمزقه من الداخل، والضابط الكابوي أمامه..” وإلى أين، ولماذا؟ عقله مشلول، عاجز عن الإجابة… الإجابة تصوغها الآن مشاعره المهتاجة، وألمه الفاجع، وترسمها على صفحة مخيلته المضطربة صوراً مرعبة… “طفله يضحك، ومع ضحكه يتدفق الدم… تعابير عقيمة تتصارع في ذهنه، زوجته لا تزال تبتسم… وكأنما تقول له هذا ما جنيته علي…” ومحاولة يائسة منه لنفي هذه الخطيئة عن نفسه، لنفي الإحساس الرهيب بأنه السبب في قتل زوجته، ولجعل القاتل العنصري يدفع ما لا يتوقع دفعه من ثمن لجريمته” يضغط بقدمه على دواسة الوقود حتى يجعلها تلامس أرضية السيارة… يديه تتسمران فوق المقود، ونظراته تتمغنط فوق صلعة الضابط .. الكابوي الذي يلوك سجائره … النظرات التي تحمل الكراهية خلقة…” ويحصل اللقاء الوحيد المعقول والمنطقي بين الضدين… بين الإنسان الفلسطيني وعدوه العنصري..‏

وبهذه النهاية التراجيدية، يكون نبيل قد وضع أمام بصيرة قارئه وعقله، الطرف الثاني من المفارقة… ودون أن يقول له ما حدث بعد انطلاق بطله بالسيارة تجاه الضابط القاتل، يتركه، وكأنما عجز عن متابعة القص، لشدة حزنه وتأثره وانفعاله، يتركه ليحكم بحرية على ما يتوهمه البعض من إمكانية تعايش الذئب الإسرائيلي العنصري مع الإنسان الفلسطيني، تعايشاً سلمياً، ليصل -أي القارئ- بنفسه إلى القناعة باستحالة تجسد هذا الوهم واقعاً.‏

بتعبير آخر، نجح نبيل عودة، من خلال عرض الموقف الإنساني لبطل قصته، ومن خلال عرض رد الفعل الإسرائيلي النقيض على هذا الموقف، ومن توظيف العرضين في سياق حدثي معقول ومتماسك، نجح في تفجير مقولة التعايش السلمي) كاحتمال ممكن، وفي دفعها إلى حدود المستحيل، مهما يكن الإطار السياسي المقترح لتطبيقها.‏

وعلى خلفية افتراض صحة القناعة باستحالتها، يمكن قراءة عنوان القصة، على مستويين: ظاهري ورمزي… على المستوى الظاهري، البسيط والمباشر، لا تتعدى دلالة العنوان الحاجز العسكري الإسرائيلي الموصوف، في القصة، شكلاً وأهدافاً… أما على المستوى الرمزي، فيصبح ذا دلالة أبعد وأعمق… إنه الحد الفاصل والثابت بين المعتدي والمعتدى عليه، بين العنصري والإنساني… وبالتالي فهو حاجز قوي بين ضدين… حاجز مادي ومعنوي في آن معاً..‏

وبالطبع، سيظل هذا الحاجز قائماً بينهما، ما دام وجود أحدهما يشكل عدواناً مادياً مستمراً على وجود الثاني، وهضماً لحقوقه المشروعة، ونكراناً ونفياً لحريته وإنسانيته… وبالتالي، فإن الحالة الوحيدة التي تسمح بزوال هذا الحاجز، هي زوال حالة العدوان أولاً… أي تحرير الأرض الفلسطينية من غاصبها… أما لقاء الضدين تحت مظلة استمرارية العدوان، فلا يمكن أن يتمظهر على شكل تعايش سلمي، وإنما على شكل صراع عنيف، وهو ما انتهى نبيل عودة إلى تأكيده في خاتمة قصته، ليؤكد من خلاله لا معقولية السلام بين الذئب العنصري والإنسان…‏

اعترض الطبيب أحمد لتفتيشه. والمؤلف يشبهه بـ كابوي أمريكي متغطرس، في اكثر من موضع عبر سياق القصة… وهو، ولا شك، تشبيه مقصود، من السهل فك الدلالة الرمزية لشيفرته…‏

، ثمة جانب آخر للشهادة، أشار إليه نبيل عودة في قصته (الحاجز) وهذا الجانب، يبرز القدرة الكبيرة لفعل الشهادة، في تغيير قيم الواقع.. كما يبرز لوناً معروفاً من ألوان إكرام الناس لذكرى شهدائهم، ومن ألوان تقديرهم لفعل أولئك الشهداء ونضالهم… يقول عودة على لسان بطل قصته الطبيب أحمد..

“.. والشهداء يكرّمون بشتى الوسائل، فأسماؤهم تطلق على الخلق الجديد، والأزقة قد تسمى بأسمائهم، ومواقع تسمى بأسمائهم، عالم كامل ولد ويولد عبر الصمود. قيم جديدة تصارع العفونة المترسبة، تصارع الضياع، تصارع من يدفع ثمناً للقيم البشرية.”.

واضح أن الربط بين إطلاق أسماء الشهداء على المواليد الجدد وعلى شوراع ومواقع، وبين التغييرات الكثيرة الهامة التي أحدثها أبطال الانتفاضة بنضالهم، إنما هو ربط دلالي يشير إلى أن إطلاق الأسماء هو جزء من محاولة تغيير رموز واقع ما قبل الانتفاضة وثوابته، برموز جديدة، وليس محاولة إكرام الشهداء فقط… فأسماء هؤلاء الشهداء قد تحولت في وعي الشعب ووجدانه إلى رموز قوية الدلالة على فترة ناصعة من فترات صموده، وعلى منظومة جديدة من القيم والمفاهيم والأفكار هي نقيض منظومة (العفونة) السابقة.

النص من كتاب ” الانتفاضة في أدب الوطن المحتل” – للناقد محمد توفيق الصواف.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here