فراغ السُلطة في العراق المَفتوح على خَيارات أحلاها مُر

بعد أن أعلنت كتلة السيد مقتدى الصدر، التي فازت بالإنتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر2021، إنسحابها من البرلمان العراقي. لا يبدو أن حلاً لأزمة تشكيل الحكومة العراقية، على ضوء نتائج هذه الإنتخابات، يلوح في الأفق. فهل سيمضي العراق الى فوضى؟ أم سيدخل في نفق تجاذبات سياسية تنتهي بتشكيل حكومة وفق خياراتها، وليس وفق ما أفرزته نتائج الإنتخابات، كما هو واقع الحال منذ 2003 والى اليوم؟

رغم أن السيد مقتدى الصدر يصر على الظهور دائماً بمظهر رجل الدين الشيعي، ويُذَكِّر دائماً بإنتسابه الى عائلة دينية شيعية، وكونه وريث وإبن لمرجع كان ولا يزال له مريديه ضمن شرائح واسعة من العراقيين، إلا أن كل هذا لم يشفع له عند حلفاء الأمس، رغم فوز تياره بالإنتخابات، لمجرد أنه قرر أن يختار حلفاء اليوم من القوى السنية والكردية لكسر روتين المحاصصة الطائفية التي إعتُمِدت منذ عام 2003 للتحكم بالعملية السياسية وآليات تشكيل حكوماتها، وللتحايل على نتائج إنتخاباتها في حال جائت نتائجها على غير هوى إيران وأذرعها السياسية والمليشياوية من تيارات الإسلام السياسي الشيعي التي باتت تتحكم بمقدرات العراق، وتوجه تفكير وتقرر مصير نسبة كبيرة من سكانه. فما يحدث مع السيد الصدر اليوم، يذكرنا بما حدث مع الدكتور أياد علاوي قبل عقد من الزمن، حينما فاز وفازت قائمته الانتخابية العراقية، التي كانت تضم جميع مكونات المجتمع العراقي في إنتخابات2010، لكن إيران وأتباعها في العراق عرقلوا حينها مساعيه لتشكيل الحكومة، ثم توجهوا الى المحكمة الاتحادية الصورية للإلتفاف على النتائج والتحايل على الدستور، عبر تفسيره على مزاجهم بطريقة مكّنتهم في النهاية من تشكيل الحكومة على هَواهم وهَوى قم. وما يحدث اليوم وما حدث بالأمس يؤكد بالدليل القاطع أن إيران وأتباعها في العراق لن يسمحوا لأحد بتشكيل الحكومة، حتى وإن كان شيعياً. سواء من عائلة شيعية مَدَنية عريقة، ما دام علمانياً وطنياً لا يدور في فلك المحاصصة كعلاوي. أو من عائلة شيعية دِينية عريقة، ما دام لديه بعض الحِس الوطني ولا يدين بالولاء لإيران كالصدر. فما يهمهم هو ليس مصلحة التشيع، بل الولاء لإيران ومصالحها.

الكتلة الشيعية الموالية لإيران في البرلمان عَرقلت ثلاث محاولات للصدر وكتلته الفائزة لتشكيل الحكومة وإنتخاب رئيس للوزراء، وأعضائها على الأغلب، هم من أشار إليهم بـ”الفاسدين” في خطابه الذي ألقاه معلناً إنسحاب كتلته المكونة من73 نائباً من البرلمان. ورغم أن مناوراته خلال الأشهر الماضية وآخرها إستقالة نوابه قد كسرت جمود العملية السياسية، لكنها أيضاً وضعتها على مفترق طرق أحلاها مُر تنتهي جميعاً بأنفاق مظلمة لا ضوء في آخرها حتى الآن على الأقل، كما خلقت فراغاً سياسياً قد يسعى أتباع إيران لملأه على طريقتهم لتعزيز نفوذها في العراق أكثر، فهذا هو هدفهم في النهاية وليس تشكيل حكومات تنهض بالعراق وتوفر لشعبه التنمية والخدمات، بل تحويله الى ولاية تابعة وخط دفاع لها في صراعها مع أعدائها، وبقرة حلوب تمتص خيراته خدمة لمشروعها التوسعي الملتحف برداء الإسلام والتشيع، وتحويل شعبه الى حَطَب لصراعاتها بإسم الدفاع عن المذهب والمقدسات.

من ناحية أخرى إستخدم الصدر في خطابه مصطلح إنتخابات مستقبلية عدة مرات، مما يوحي بأنه قد يدعو الى إنتخابات جديدة، وفي حال رفضت القوى السياسية الأخرى إجراءها، قد يدعو أنصاره إلى الخروج في إحتجاجات حاشدة، قد تتطور بدورها الى حراك سياسي في الشارع يضغط على أحزاب السلطة مرة أخرى، ليفضي الى حل توافقي يؤدي الى تشكيل حكومة توافقية. ربما هذا هو أحد أهداف الصدر من الإنسحاب، بعد أن فشل في تحقيق مبتغاه تحت قبة البرلمان، وهو رمي الكرة في ملعب الشعب، وتحميله مسؤولية وضع نتائج أصواته التي أفرزتها صناديق الإقتراع موضع التنفيذ، كما جائت، لا كما تريدها إيران وأذرعها في العراق. وهذا يعني أن المظاهرات يمكن أن تعود إلى الشارع لتحوله الى عامل ضغط على البرلمان وقواه السياسية، كما حدث في الأمس القريب مع حكومة الكاظمي التي جائت نتيجة توافق على مَضَض بين الشارع والتيارات السياسية.

حتى إذا كانت هناك إنتخابات جديدة فهي لن تغير من الأمر شيئاً، لأن الصدر، ورغم القوة التي يمتلكها، لن يتمكن من منع من وصفهم بـ”الفاسدين” من الترشح للانتخابات، لأنه لا يريد إستخدامها الى أقصاها، خوفاً من أن يفقد السيطرة وينهدم المعبد على راسه ورؤوس الجميع. بالتالي سيعودون الى البرلمان كسكينة في خاصرته وخاصرة أي مسعى لتشكيل حكومة وطنية بعيداً عن موازناتهم الطائفية، كما حاول الصدر أن يفعل خلال الأشهر الماضية.

مصطفى القرة داغي

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here