بمناسبة ذكرى وفاة المرجع السيد محمد حسين فضل الله قدس سره: اشارته عن سورة الفاتحة

بمناسبة ذكرى وفاة المرجع السيد محمد حسين فضل الله قدس سره: اشارته عن سورة الفاتحة

الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في كتاب تفسير القرآن الكريم للسيد محمد حسين فضل الله قدس سره في تفسير سورة الفاتحة: أنَّ البسملة “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ” (الفاتحة 1) تمثّل جزءاً من حركة التربية الإسلامية في ارتباط الإنسان باللّه في أفعاله وأقواله، الأمر الذي يجعلها بمثابة الإيحاء المتحرّك المستمر بأنّ اللّه يقف خلف كلّ وجوده وحركته، فلا بُدَّ من أن يبدأ الأمور كلّها باسمه. إنَّ اللّه بالنّاس أو بالمؤمنين لرحمن، كما يقال: إنَّ اللّه بالنّاس أو بالمؤمنين لرحيم. أمّا صفة “الرَّحِيمِ” فهي صيغة مبالغة. ومن خصائص هذه الصيغة أنها تستعمل غالباً في الغرائز واللوازم غير المنفكّة عن الذات، كالعليم والقدير والشريف والوضيع والسخي والبخيل والعليّ والدنيّ. فالفارق بين الصفتين: أنَّ الرحيم يدل على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها، والرحمن يدل على ثبوت الرحمة فقط، ومما يدلّ على أنَّ الرحمة في كلمة “رحيم” غريزةٌ وسجيّةٌ: أنَّ هذه الكلمة لم ترد في القرآن عند ذكر متعلّقها إلاّ متعدية بالباء، فقد قال تعالى: “إِنَّ اللّه بِالنّاس لَرَءُوفٌ رَّحِيم” (البقرة 143)، “وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيم” (الاحزاب 43). فكأنها عند ذكر متعلّقها انسلخت عن التعدية إلى اللزوم. وأمّا كلمة: “الْعَـالَمِينَ” في الاية المباركة “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (الفاتحة 2)، فتفتح آفاقها لتشمل مفردات الوجود كلّها في اختلافها في عناصرها الذاتية وملامحها النوعية، وحركتها الوجودية، وأوضاعها الشكلية، ومجالاتها الحركية، ومداراتها الكونية.

عن الإمام الرضا عليه السلام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: (لقد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: قال اللّه عزَّ وجلّ: قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: “بِسْمِ اللّه الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ” (الفانحة 1) ، قال اللّه جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي وحقٌّ علي أن أتمّم له أموره، وأبارك له في أحواله، فإذا قال: “الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ” (الفاتحة 2) ، قال اللّه جلّ جلاله: حمدني عبدي، وعلم أنَّ النعم التي له من عندي، وأنّ البلايا التي دفعت عنه بتطوّلي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة، وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، وإذا قال: “الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ” (الفاتحة 3) ، قال اللّه جلّ جلاله: شهد لي عبدي أني الرحمن الرحيم، أشهدكم لأوفرنّ من رحمتي حظه، ولأجزلن من عطائي نصيبه، فإذا قال: “مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ” (الفاتحة 4) ، قال اللّه تعالى: أشهدكم، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين، لأسهلنّ يوم الحساب حسابه، ولأتقبلنّ حسناته، ولأتجاوزنّ عن سيئاته، فإذا قال: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ” (الفاتحة 5) ، قال اللّه عزَّ وجلّ: صدق عبدي، إياي يعبد، أشهدكم لأثيبنّه على عبادته ثواباً يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: “وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ” (الفاتحة 5) ، قال اللّه تعالى: بي استعان عبدي وإليّ التجأ، أشهدكم لأعيننّه على أمره، ولأغيثنّه في شدائده، ولآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” (الفاتحة 6) إلى آخر السورة، قال اللّه عزَّ وجلّ: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل، قد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمل، وآمنته مما منه وجل). وفي هذا الحديث إشارة إلى الأجواء التي تمثّلها السورة في علاقة العبد بربّه، وعطف الربّ على عبده، وحركة الآيات في وعي الإنسان في ذلك كلّه أنه يعيش مع اللّه في كلّ آفاقه المنفتحة على الدنيا والآخرة، وفي كلّ مواقع حركة النّاس في خطّ الاستقامة أو في خطّ الانحراف، ليكون الرزق من اللّه، ولتكون الهداية منه، فيشعر بالنعمة المادية في حياته الجسدية، وبالنعمة المعنوية في حياته العقلية والروحية. وبذلك كانت سورة الفاتحة أمّ الكتاب، ونقطة الوعي، ومفتاح العقيدة في كلّ مواقع الإنسان في الحياة. وهذا هو الذي جعلها أساساً لكلّ صلاة، حتى جاء أنه (لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب).

قال الله تبارك وتعالى “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ” (الفاتحة 5) التوحيد في العبادة هو الواجهة للدعوة في ما تختزنه من التوحيد في العقيدة. وهذا ما حدّثنا عنه في دعوة نوح وهود وصالح عليه السلام التي اختصرتها الفقرة التالية في قوله تعالى: “اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ” (الاعراف 59). ولعلّ هذا هو التعبير الحركي الذي انطلقت فيه سورة الفاتحة من أجل تأكيد الدعوة إلى التوحيد في أسلوب الإقرار الذاتي الذي يندفع فيه الإنسان المؤمن. وقال عز من قائل “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” (الفاتحة 6) كما في مفردات الراغب للأصفهاني أمّا هداية اللّه تعالى للإنسان، فيقول: إنها على أربعة أوجه: الأول: الهداية التي عمّ بجنسها كلّ مكلّفٍ من العقل والفطنة والمعارف الضرورية التي أعمّ منها كلّ شيء بقدر ما فيه حسب احتماله كما قال: “رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى” (طه 50). الثاني: الهداية التي جعل للنّاس بدُعائه إيّاهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك، وهو المقصود بقوله تعالى: “وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا” (السجدة 24). الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: “وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى” (محمد 17)، وقوله: “وَمَن يُؤْمِن بِاللّه يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللّه” (التغابن 11)، وقوله: “إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ” (يونس 9) وقوله: “وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ” (العنكبوت 69)، “وَيَزِيدُ اللّه الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى” (مريم 76)، “فَهَدَى اللّه الَّذِينَ ءَامَنُوا” (البقرة 213)، “وَاللّه يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (البقرة 213). الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنّة المعنيّ بقوله: “سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ” (محمد 5)، “وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ” إلى قوله: “الْحَمْدُ للّه الَّذِى هَدَانَا لِهَـذَا” (الاعراف 43). الصراط هو الطريق، وهو ما يتوصل بالسير فيه إلى المقصود، وقد يكون غير حسّي، فيُقال: الاحتياط طريق النجاة، وإطاعة اللّه طريق الجنّة.

قال الله جل جلاله “صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ” (الفانحة 7) هذا هو التحديد الواقعي لهذا الصراط في النماذج التي تتحرّك فيه وتلتزمه، في ما يتمثّل فيه من النعمة الإلهية التي يفيضها اللّه على عباده، وأيّ نعمة أعظم من نعمة الهداية إلى الحقّ الذي يؤدي بهم إلى رضوان اللّه، وإلى نعيمه في جنته الخالدة. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في آية أخرى، عند الحديث عن الذين أنعم اللّه عليهم في النماذج الحيّة المتحركة في خطّ توحيد اللّه وطاعته، وذلك قوله تعالى: “وَمَن يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِم مِّنَ النبيّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيق” (النساء 69) وهذا يعني أنَّ الصراط المستقيم هو صراط هؤلاء الذين أنعم اللّه عليهم ممن رفع اللّه درجتهم في خطّ الإسلام والإيمان باللّه والسير في مواقع رضاه.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here