اشارات السيد محمد حسين فضل الله قدس سره عن سورة ابراهيم (ح 2)

الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في كتاب الاسلام ومنطق القوة للعلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله: وهناك الكثير من الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن المواقف الضّعيفة التي يشعر بها الضّعفاء بالانسحاق إزاء إرادة الكبراء، بفعل شعورهم بالضّعف تجاه قوّة أولئك، فيستسلمون لما يرسمونه من مخطّطات وأعمال وانحرافات، فيأتي القرآن الكريم ليحدّثنا في أكثر من آية، عن الحوار الدّائر بين هؤلاء وبين أولئك في يوم القيامة، ليوحي للضّعفاء ـــ قبل أنْ يواجهوا الله يوم القيامة ـــ بالتمرّد على إرادة الكبراء في الدنيا، والعمل على استثارة القوّة الذاتية التي أودعها الله فيهم، لمواجهة ضغوطهم الكبيرة والصّغيرة، لأنّ الضّعف الذي يقود إلى الانحراف، مع قدرة الإنسان على المقاومة، لا يبرّر الانحراف أمام الله، فإنّه سيحمِّل صاحبه المسؤوليّة كاملة أمام الله. قال الله تعالى: “وَبَرَزُواْ للهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ” (ابراهيم 21).

جاء في كتاب تفسير القرآن الكريم للسيد محمد حسين فضل الله قدس سره: حوار الضعفاء والمستكبرين والشيطان يوم القيامة: ان موقف المواجهة الصعب يوم القيامة، بين الضعفاء والمستكبرين من جهةٍ، والعذاب الذي يلقونه جميعاً عقاباً على ما عملوا وما أسلفوا من خطايا وذنوبٍ وجرائم، كانت تجسّد التمرد على الله وعلى رسله وشرائعه، من جهة أخرى، في حوار تتنوع طبيعته تبعاً لاختلاف مواقع أطرافه والعلاقات التي كانت سائدة بينهم، ونجد النموذج الرائع الذي يوضح لنا الفكرة بأسلوب حيّ. وبرزوا لله جميعا: “وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جميعاً” (ابراهيم 21) ظهروا لله في موقف المسؤولية الحاسم الذي لا يملكون فيه إلا النطق بالحق، بعيداً عن كل عوامل القوّة والضعف التي كانت تحكم علاقاتهم في الحياة، فهم الآن متساوون أمام الله بصفتهم الحقيقية التي توحدهم جميعاً كعبيد أمامه. “فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا” (ابراهيم 21) لقد كنا نمثل الفئة المسحوقة التي لا تملك أن تريد أو لا تريد بما تعنيه التبعية في كل شيء. إن الآية تؤكد لنا كيف واجه الجميع نتائج المسؤولية في عذاب الله، وإن اختلفوا في نوعية العذاب، وتصور لنا موقف أولئك الذين أخضعوا إرادتهم لإرادة الآخرين ولنزواتهم في حين كانوا يستطيعون تحرير أنفسهم وإرادتهم من تلك التبعية، ولكنهم خضعوا أمام مظاهر القوة ومطامع المال التي ساقتهم للسير خلف المستكبرين دون وعيٍ ولا شعور. إنهم الآن يستيقظون على ما وصلوا إليه من واقع يحاولون التخلص من بعض قسوته على الأقلّ، متوجهين إلى من كانوا يتبعونهم في كل شيء، طالبين منهم تحمل تبعاتهم في الآخرة، مقابل ما تحمّلوه من تبعاتهم في الدنيا، تماماً كما كان الحال في الدنيا، حيث كان الرئيس يقدم لأتباعه الحماية من المتاعب والمشاكل، مقابل ما يقدمونه من خدمات تصل إلى درجة المخاطرة بالحياة. وينطلق سؤالهم، بلهجةٍ متوسّلةٍ يائسةٍ، تحمل كثيراً من خيبة الأمل، وعدم الثقة بالنتيجة، كما توحي كلمة من شيء في سؤالهم “فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ” (ابراهيم 21)، أي شيء، ولو بالمقدار الذي يخفف عنا قسوته وشدّته؟ وتجسد الصورة القرآنية تهرب أولئك المستكبرين، باعتبار الموقف يائساً من كلا الطرفين، فهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، فكيف يملكون لأتباعهم الحماية، حيث لا متسع للحساب، ولا مجال للهروب، بل أمامهم الاستسلام اليائس للمصير الذي تعبر عنه هذه الكلمة القرآنية أبلغ تعبير: “قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ” (ابراهيم 21)، لأن المشكلة أننا ابتعدنا عن الله وتمرّدنا عليه، ولم نهتد بهداه، بعد أن أقام علينا الحجة وتركنا لأنفسنا، دون أن يتدخل بقوّته لفرض الهداية علينا، فضللنا وأضللناكم لأنكم جعلتم حياتكم تبعاً لحياتنا. لذا نقف هنا ـ جميعاً ـ وجهاً لوجه ـ أمام نتائج المسؤولية الصعبة، دون أن يكون هناك فرق بيننا في الموقف، لأننا مشتركون في تجميد إرادة الحق في وعينا، في ما يحكم به العقل والوجدان، والذي جاءت به الكتب وبلغه الرسل، واتبعنا شهواتنا ومطامعنا، فلا بد لنا من أن نواجه الحقيقة، بكل صعوبتها وقسوتها “سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ” (ابراهيم 21)، ومهرب من المصير الأسود الذي لا نملك إلا أن نتقبّله ونخضع له، لأننا لا نملك له تغييراً، سواء سقطنا جزعاً أو استسلمنا للصبر. وقد نفهم من جواب هؤلاء المستكبرين، نوعاً من الهروب من طبيعة المسؤولية، فهم لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن ضلال أتباعهم، لأن الهداية تكون من الله، فإذا لم يوفّرها لهم، فكيف يمكن أن يوفروها هم لغيرهم. وفي ذلك تجسيد لغاية اليأس في الموقف.

ولعل من الطريف في هذا الحوار أن الشيطان يتدخل كطرفٍ ثالث، ليبرِّىء نفسه من مسؤولية ضلال كلا الطرفين، التابعين والمتبوعين، مؤكداً الفكرة الدينية التي تقرر حرية الإرادة التي فطر الله الإنسان عليها، فليست هناك قوّةٌ قاهرةٌ ٌتشلّها بدون اختيار صاحبها، حيث يورد القرآن الكريم: “وَقَالَ الشَّيْطاَنُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ” (ابراهيم 22) وحسمت المواقف، وانطلقت إرادة الله التي تقود االكافرين والعاصين إلى النار، وتقود المؤمنين إلى الجنة، ولم يبق هناك مجال للدفاع أو للاعتذار، فقد جاء إبليس ليتخفف من بعض ثقل المسؤولية التي يحملها الناس له في عملية الإغواء والإضلال، ليجعلها على عاتق الناس الضالين: “إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ”، بالجنة للطائعين المؤمنين، وبالنار للعاصين المتمردين “وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ” (ابراهيم 22)، في ما منّيتكم به ودفعتكم إليه، مما لم يتحقق، لأن الأمر كان مجرّد خدعةٍ وتضليل، من أجل تحقيق ما أريده من إضلالكم، وقد عرّفكم الله طبيعة الدور الذي أقوم به في حياتكم، وهو دور الإغراء والخديعة والتزيين وتصوير الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق، وتشويه الصورة الجميلة، وتجميل الصورة المشوّهة، بما أملكه من وسائل وأدوات. وهذا هو كل شيء في دوري معكم، ولا أملك معه أيّة قوّةٍ إضافية تمكنني من الضغط على إرادتكم بطريقةٍ قاهرةٍ “وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي” (ابراهيم 22)، بما تتضمنه أساليب الدعوة وأجواؤها من عناصر الإغراء والإغواء “فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ” (ابراهيم 22) لأنني أتحرك في وسائلي وأهدافي من خلال الخط الواضح الذي أعلنت السير فيه أمام الله، منذ طلبت منه الانتظار إلى يوم القيامة. ولكن ماذا عن دوركم أنتم، لماذا لم تلتفتوا إلى أساليبي ووسائلي وغاياتي التي عرّفكم الله إياها، وقد أرسل إليكم الرسل ليحذروكم مني، وخلق لكم العقل الذي يستطيع أن يحاكم كل الدعوات التي أثيرها في حياتكم، وكل التهاويل والأحاسيس التي أعمل في سبيل الضغط على مشاعركم من خلالها؟ فليتحمّل كل واحد منا مسؤولية نفسه، “مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ” (ابراهيم 22) فإذا استغثتم بي من العذاب، فلن أستطيع أن أدافع عنكم “وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ” (ابراهيم 22) فلا تملكون لي شيئاً إذا استصرختكم واستغثت بكم، “إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ” (ابراهيم 22)، فأنا لا أقر ولا أعترف بجعلكم إياي شريكاً لله في العبادة، “إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (ابراهيم 22).

قال الله تبارك وتعالى “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً” (ابراهيم 24) للفكرة التي تتحرك خارج نطاق الحسّ بالنموذج المتجسِّد في دائرة المادة التي يطالها حسّ الإنسان البصريّ، ليكون ضرب المثل أسلوباً حيّاً من أساليب تمثُّل الفكرة بطريقةٍ حيّةٍ موحية، لأن الناس يتمثّلون المحسوسات أكثر مما يتمثلون المعقولات، الأمر الذي يجعل تشبيه مدلول المعقول بالمحسوس سبيلاً لتقديم المعقول إلى الذهن. وهذا ما درج القرآن على استعماله في تقديم أكثر من فكرة في أكثر من موقع، بأوضح الأساليب وأقربها إلى الوعي، بهدف إيصالها. من هنا استخدمت الآية الكلمة الطيبة بأوسع معانيها، في مداليلها الفكرية والعملية لجهة ما يتصل بالعقيدة والشريعة والأخلاق، والمنهج العملي لحركة الحياة من حول الإنسان، للتدليل على ما يريد الله للناس أن يعيشوه في أفكارهم وعلاقاتهم ومواقفهم العامة والخاصة. “كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا في السَّمَآءِ” (ابراهيم 24) بما يمثله ذلك من عمق في امتداد جذورها في الأرض بمستوى يمنحها القوّة والثبات، بحيث لا يمكن لأية ريح أن تقتلعها، مهما كانت قوتها.

تثبيت الله للمؤمنين في الدنيا والآخرة: وهذا ما ينبغي للمؤمن أن يعيشه ويتحرك فيه ويسمو إليه، لينطلق في الحياة الفكرية التي تمثل خط السير لديه، من قاعدة ثابتةٍ على أساس الحق في المضمون، والحجّة في الحق، لئلا تهتز حياته باهتزاز قناعاته عند أوّل ريحٍ تهبّ على فكره من هنا وهناك، إنه القول الثابت بالحجة الواضحة القوية التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يقف في ساحة الصراع بخطوات ثابتةٍ، لا يملك أهل الباطل أن ينحرفوا به عنها “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا” (ابراهيم 27) بحيث لا يسقطون أمام الفتنة، ولا ينهارون أمام الاضطهاد، ولا ينحرفون أمام الإغراء “وَفي الآخرةِ” في وقوفهم بثبات أمام الله، في لحظات الحساب دون أن تهزهم أو تسقطهم أهوال القيامة، لأنهم يملكون الرؤية الواضحة لكل الحق الذي اعتقدوه أو عملوا به. فهم يملكون لكل سؤالٍ جواباً، ولكل عملٍ تفسيراً، ذلك أن الإيمان الذي يتعمّق في الفكر والروح والشعور ويمتد في الحياة، يمنح صاحبه الثبات في الخطى، والقوّة في الموقف. إضلال الله الظالمين: أمّا الذين كفروا، بما يمثله الكفر من أوهامٍ وتخيلات لا تثبت أمام النقد أو التحدّي لافتقارها إلى الحجة، فإنهم يزدادون ضلالاً كلما امتدت بهم الحياة، لأنّهم ولروحية العناد التي تحكمهم، لا يريدون لضلالهم أن يتحوّل إلى هدى، فيتركهم الله لضلالهم في الدنيا، من خلال اختيارهم لذلك، ويحمّلهم مسؤوليته في الآخرة، بالنتائج السلبية التي يفرضها، وهذا هو معنى إضلال الله لهم، إذ إنه يترك لحياتهم حرية التحرك من مواقع الأهواء “وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ” (ابراهيم 27) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتمرُّد والعصيان، فاختاروا لأنفسهم الضياع في الطريق، والضلال عن الهدف السويّ والصراط المستقيم.

دعوة المؤمنين للصلاة والإنفاق: “قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ” (ابراهيم 31) الذين يريدون النجاة في الدنيا والآخرة، ويبحثون عن أفضل السبل المؤدّية إليها، “يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ” لأنها معراج روح المؤمن إلى الله، والناهية له عن الفحشاء والمنكر، والمنفتحة به على كل الآفاق الروحية التي تسمو به في رحاب الله وتحرّك فيه كل عوامل الخير في الحياة، “وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً” (ابراهيم 31) بما يمثله الإنفاق من روحية عطاء تنفتح على مشاكل البائسين والمحرومين وآلامهم بكل إيجابية المسؤولية، وتتلمّس المواقع الصعبة لتواجهها بكل ما يمكن أن يخفف من صعوبتها ويدفعها إلى طريق الحل، دون فرقٍ بين حالة الإسرار التي قد تفرضها الحاجة إلى حفظ كرامة هؤلاء البائسين الذين يريدون للناس أن يكتشفوا واقع الحاجة في حياتهم، وبين حالة الإعلان التي قد تفرضها الحاجة إلى تشجيع الآخرين على الخير، بتشكيل القدوة الحسنة لهم. وهكذا يعيش المؤمن في الإنفاق، معنى العبادة العملية من موقع التقرب إلى الله، والاتجار معه الذي لا ينتفع العباد بشيء كما ينتفعون به، “مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ” (ابراهيم 31) وهو يوم القيامة الذي يستطيع أيّ إنسان أن يكتسب فيه شيئاً لم يكتسبه من قبل، لأنه يوم مواجهة الإنسان لنتائج المسؤولية، لا يوم التحرك في خطّها، لذا لا يستطيع أن يعتمد في النجاة على أي علاقة صداقةٍ وقرابةٍ أقامها، لأنه اليوم الذي لا يغني فيه أحد عن أحد، وإن كانت خلّة المؤمنين لا تنقطع، بل تمتد إلى يوم القيامة، ولكن امتداد الخلّة شيء، والانتفاع بها يوم القيامة للنجاة من العذاب شيءٌ آخر.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here