اشارات السيد محمد حسين فضل الله قدس سره عن الحج والقرآن الكريم (ح 4)

الدكتور فاضل حسن شريف

عن كتاب فقه الحج للسيد محمد حسن فضل الله قدس سره: قوله تعالى: “لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ” (البقرة 198). التفسير المعروف للآية عند الشيعة والسنّة، أنّها في مقام بيان الإذن بالتجارة في الموسم، دفعاً لما كان يظنّه المسلمون في صدر الإسلام من حرمة ذلك. ولكن في مجمع البيان: (قيل: معناه لا جناح عليكم أن تطلبوا المغفرة من ربّكم، رواه جابر عن أبي جعفر عليه السلام). لكنّه خلاف الظاهر من استعمالات هذه الصيغة في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: “فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ” (الجمعة 10). وقوله تعالى: “وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ” (الاسراء 12). مضافاً إلى عدم مناسبته لقوله: “لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ” (البقرة 198) الظاهر في دفع شيء حرجي عنهم. كما أنَّ طلب المغفرة هو المقصود الأساسي لكلّ مؤمن، وخصوصاً الحاجّ، ولا يحتاج إلى بيان جوازه له خصوصاً بمثل هذا التعبير. نعم، يقع الكلام في الزّمان الذي تجوز فيه التجارة، فقد ذهب بعضهم إلى عدم جوازها قبل الانتهاء من المناسك، واستدلّ له بما رواه العياشي في تفسيره عن عمر بن يزيد عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: “لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ” (البقرة 198) قال: يعني الرزق، إذا أحلّ الرجل من إحرامه وقضى منسكه، فليشترِ وليبع في الموسم. والرواية مرسلة؛ للفاصل الزمني ما بين العياشي وعمر بن يزيد، ولو كانت صحيحة، لأمكن أن يتمسّك بمفهوم الشرط فيها للمنع من البيع والشراء قبل قضاء النسك. وادّعى بعضهم حصول الوثوق بالرواية، وقرّب ذلك بأنَّ روايات تفسير العياشي مسندة في الأصل، ولكن النسّاخ حذفوا الأسانيد، مضافاً إلى أنّه يحتمل قوياً أن يكون العياشي قد اعتمد في خصوص هذه الرواية على كتاب عمر بن يزيد في مناسك الحجّ وفرائضه وما هو مسنونٌ في ذلك، الذي سمعه كلّه من أبي عبدالله بحسب ما ذكره النجاشي في ترجمته. وفيه: منع حصول الوثوق بها بما ذكر. وعلى كل حال، فالآية مطلقةٌ من هذه الناحية، فتكفي دليلاً على الجواز. وقوله: “فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ” (البقرة 198)، يشير إلى كون أصل الوقوف في عرفات مسلّماً، لذا لم يكن هناك حاجة إلى بيان وجوبه، خصوصاً أنَّ الآيات في سياق بيان مناسك الحجّ. وهو يدلّ على وجوب الوقوف في مزدلفة – المشعر الحرام – لأنّه كما ذكر في مجمع البيان: (لا يجوز أن يوجب الذكر فيه إلاّ وقد أوجب الكون فيه). ووجوب الذكر فيه هو ما يقتضيه ظاهر الأمر في الآية. قال في زبدة البيان: (ودلّت أيضاً على وجوب الذكر فيه، ولكن أكثر الأصحاب على استحباب الذكر).

عن كتاب فقه الحج للسيد محمد حسن فضل الله قدس سره: قوله تعالى: “ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (البقرة 199). هناك رأيان في تفسير هذه الآية: الأوّل: أنّه أمرٌ لقريش وحلفائها بالإفاضة من عرفات، حيث كانوا لا يقفون في عرفات، وإنّما يقفون في مزدلفة ويفيضون منها، ويقولون: نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه. وعلى هذا يكون المقصود بالناس فيها سائر العرب. الثاني: أنّه أمرٌ للجميع بالإفاضة من مزدلفة إلى منى يوم النحر مع سائر الناس، بحيث لا يجعل الحاج لنفسه ميزةً على الآخرين، فيسير في طريق غير طريقهم، لأنَّ الله تعالى يريد للحاج أن يكون جزءاً من هذه المسيرة الإلهية. وقيل إنَّ المقصود بالناس هنا آدم وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم من الأنبياء السابقين، والمعنى: أنَّ وقوف المشعر والإفاضة منه إلى منى شرعٌ قديم لا تغيّروه. وقد أيّد أصحاب هذا الرأي ما ذهبوا إليه بدلالة ثمَّ على التّرتيب، وبأنَّ الله سبحانه قد تحدّث عن الإفاضة من عرفات، فلا بدّ من أن تكون هذه إفاضة غير تلك، وليست هي إلاّ الإفاضة من مزدلفة، خصوصاً أنّه تعالى بعد ذلك تحدّث عن قضاء المناسك، والتي محلّها منى بعد الإفاضة من مزدلفة. وأجاب أصحاب الرأي الأول، بأنَّ ثمَّ هنا تدلُّ على التفاوت بين المرتبتين لا على الترتيب، كما في قولهم: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، للإشارة إلى التفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره، وبأنَّ هناك تقديماً وتأخيراً في الآيات ذكر في التبيان أنّه مرويٌ، وتقديره: “ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا الله إنّ الله غفور رحيم “. وهذا هو المختار والروايات تؤيّده، كما في الرواية الطويلة الحاكية لحجّ النبي صلى الله عليه واله وسلم المروية عن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله عليه السلام، وفيها: فلمّا كان يوم التروية عند زوال الشمس، أمر الناس أن يغتسلوا ويهلّوا بالحجّ… فخرج النبي صلى الله عليه واله وسلم وأصحابه مهلّين بالحجّ حتى أتوا منى، فصلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر. ثمّ غدا والناس معه، فكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمُع، ويمنعون الناس أن يفيضوا منها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقريش ترجو أن يكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون، فأنزل الله على نبيّه صلى الله عليه واله وسلم: “ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (البقرة 199) يعني: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم. ومثلها مارواه في تفسير العياشي عن أبي الصباح عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إنّ إبراهيم عليه السلام أخرج إسماعيل إلى الموقف، فأفاضا منه، ثم إنَّ الناس كانوا يفيضون منه، حتى إذا كثرت قريش قالوا: لا نفيض من حيث أفاض الناس، وكانت قريش تفيض من المزدلفة، ومنعوا الناس أن يفيضوا معهم إلاّ من عرفات، فلما بعث الله محمّداً صلى الله عليه واله وسلم، أمره أن يفيض من حيث أفاض الناس، وعنى بذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

عن كتاب فقه الحج للسيد محمد حسن فضل الله قدس سره: قوله تعالى: قوله تعالى: “فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ” (البقرة 200-202). تتحدث هذه الآيات بدايةً عن واقع كان موجوداً في الجاهلية، وهو أنَّ الناس كانوا إذا فرغوا من مناسكهم، جلسوا يتحدّثون عن مفاخر آبائهم وقضاياهم. فأراد الله سبحانه أن يبتعد بهم عن هذه العادة الجاهلية، ويركّز الروحية الإسلامية في نفوسهم. فأمرهم أولاً بأن يذكروا الله كما يذكرون آباءهم، ثمَّ تدرّج إلى أنَّه ينبغي أن يكون هذا الذكر أشدَّ، على طريقة الآية الشريفة: “وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ” (البقرة 165). وانتهى سبحانه إلى أنَّ لا بدّ للإنسان من أن يوازن في دعائه وحركته في الحياة بين تلبية حاجاته الدنيوية والسعي نحو الآخرة، لا أن تكون الدنيا هي همّه الوحيد. وقد روى العياشي في تفسيره عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفرعليه السلام في قول الله: “فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً” (البقرة 200)، قال: كان الرجل في الجاهلية يقول: كان أبي وكان أبي، فأنزلت هذه الآية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here