دروس من تجربة فرنسا السياحية

الدكتور خالد الرشيد يكتب: دروس من تجربة فرنسا السياحية

الجميع يعي أهمية السياحة كقطاع اقتصادي هام يساهم بتحقيق عوائد اقتصادية وداعم للتنمية والذي أصبح صناعه تحتاج إلى (احترافية عالية في الادارة والتشغيل) لتحقيق هذه المكاسب الاقتصادية والاجتماعية المتوقعة ، التي يستطيع من خلالها المساهمة في النمو الاقتصادي للدول وخلق فرص عمل واستقطاب رؤوس اموال واستثمارات وجلب عملات أجنبية.

هذه الصناعة تعتبر من أهم الصناعات في العالم حيث أنها تساهم بحوالى %12من اجمالى الناتج العالمي، وتساهم بنحو 7% من حجم الإستثمارات العالمية ويمثل 10٪ من فرص العمل في العالم.

فلو أخذنا فرنسا وأسبانيا كنموذجين كونهما دولتان سياحيتان تتربعان على عرش الخارطة السياحية العالمية ، فرنسا تصدرت القائمة في عدداً للزوار الاعلى زيارة ب 89 مليون سائح متجاوزة أسبانيا التي يزورها 83.7 مليون.

ولكن أسبانيا تصدرت القائمة بحجم الايرادات المقدرة ب 92 مليار يورو بمساهمة تصل الى 12٪ من الناتج المحلي لأسبانيا ، وخلقت فرص عمل تصل الى 13٪ من سوق العمل.

حين أن إيرادات فرنسا فقط بـ57 مليار يورو وتساهم ب 8٪ من الناتج المحلي الفرنسي كما أن معدل الإنفاق لكل سائح في فرنسا يقدر ب 646 دولار لكل زيارة وهذه النسبة أقل من جميع الدول العشر الأولى سياحيا في العالم.

كما أن عدد العاملين في القطاع السياحي الفرنسي يقدر ب 2.7 مليون شخص من 67 مليون فرنسي وهذه نسبة ضئيلة حيث تمثل قرابة ال 5٪ من سوق العمل.

فهل هذه النتائج كان مخطط لها؟
أي أن فرنسا تهدف لتكون الوجهة السياحية الأولى عالمياً في عدد السياح بعيداً عن العائدات السياحية الاقتصادية؟ أم أن فرنسا يوجد لديها مشكلة في ادارة السياحة الفرنسية ولم تستطع التسويق لجميع منتجاتها بشكل جيد ولم تقديم خدمات ومنتجات سياحية تسطيع من خلالها الحصول على معدل انفاق يتوافق مع المعدل العالمي؟.

للمساهمة في دعم الاقتصاد الوطني ودعم الصناعات المحلية بمختلف انواعها وزيادة فرص العمل؟

وهل أسبانيا كانت أكثر احترافية في الجانب (التجاري) وأستطاعت تقديم منتجات وخدمات مغرية للزائر ، مما حقق الايرادات السياحية الأعلى ونسبة أكبر من فرص العمل؟.

لا شك أن هذين النموذجين الأكثر احترافية (سياحيًا) من جميع دول العالم والدليل تصدرهم للقائمة ولا يعني الانقاد الانتقاص بقدر ما يكون الاستفادة من الارقام والإحصاءات للتخطيط السليم.

فبالرغم من نجاح فرنسا في القائمة السياحية في عدد السياح إلا إنه من الواضح وجود خلل في الإستراتيجية السياحية الفرنسية والتي رغم تصدرها إلا انها لم تحقق المكاسب الاقتصادية والتنموية المتوافقة مع هذا الرقم العالمي بل أنها أقل معدل من جميع الوجهات السياحية العشر في الترتيب العالمي.

وهذا ما يؤكد بأن السياحة أصبحت صناعة هامة تحتاج إدارة خبيرة ومحترفة تعمل على التفاصيل والجزئيات البسيطة جداً وبتركيز عالي تتعامل مع كل سائح بإحترافية ابتداءً من محطة وصولة الى محطة المغادرة والاستفادة منه فيما يحقق مكاسب للطرفين تجربة ثرية للسائح ومكاسب جيدة للوجهة ( win win ) .

وبالعودة إلى فرنسا الدولة الرائدة في السياحة والتي تمتلك العديد من المقومات السياحية الهامة:

التنوع المناخي فلديها 4 أنواع من المناخ منها المناخ القاري ومناخ المحيط ومناخ البحر المتوسط ومناخ جبال الألب.

وتمتلك 37 موقع مدرج في قائمة اليونسكو للتراث العالمي.

وتتربع على عرش السياحة العالمية بإحتضانها لقرابة ال 1200 متحف تاريخي وفني.

وتمتلك أكثر من 1500 موقع سياحي ولديها المطبخ الفرنسي الذي يتزعم المطابخ الأوروبية.

والريف الفرنسي الذي يمثل نسبة 80 في المائة من مساحة فرنسا والذي يعتبر وجهة للسياح الفرنسين.

والموقع الاستراتيجي لفرنسا يميزها أيضاً كونها تتوسط القارة الأوروبية وتقع بين أكبر دولتين مصدرتين للسياح وهما ألمانيا وبريطانيا.

وعلاوة على ما ذكرناه .. فإن فرنسا أيضاً لديها من المدن السياحية العريقة الجميلة والمؤهلة لكي تكون وجهات سياحية عالمية ومستقلة وعلى رأس هذه المدن:

مدينة كان وهي من أجمل مدن الريفيرا الفرنسية والتي عرفت أيضا بمهرجانها السينمائي الدولي الشهير.

مدينة مرسيليا التي تعتبر إحدى أقدم المدن الأوروبية على الإطلاق، وثاني كبرى المدن الفرنسية وميناء فرنسا الاهم ومركزها الرئيسي على سواحل البحر المتوسط.

مدينة ستراسبورغ في المنطقة الحدودية بين فرنسا وألمانيا، التي تتميز بأهمية اوروبية خاصة لاحتوائها على مقر برلمان أوروبا، ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية، إضافة إلى العديد المؤسسات الهامة الأخرى. وهي مركز ثقافي وتاريخي وسياسي ذو شهرة ومكانة عالمية كبيرة.

مدينة “غراس”، عاصمة العطورات العالميّة، التي تحتضن مصانع ومعامل للعطور منذ القرن السادس عشر (مثل مصنع فراغونار وغاليمار).

مدينة ليون ثالث أكبر مدينة بفرنسا وتشهر المدينة باحتفالات الأنوار، التي تمتد أربعة أيام متواصلة، حيث تنتشر أضواء الشموع في المدينة وعلى النوافذ والشرفات، في واحد من أكثر المشاهد رومانسية وخصوصية في العالم.

وأيضا الكثير من المدن كمدينة بوردو و نيس وجزيرة كورسيكا الفرنسية وانسي ومدينة شامونيه.

جميعها مدن سياحية عالمية تمتلك مقومات سياحية نوعية وتستحق ان يسوق لها من خلال حملات تسويقية احترافية للتعريف بها وبما تحتوية من قيمة سياحية وثقافية بها الكثير من الاضافة النوعية للمنتج السياحي الفرنسي.

برأيي .. أن من أهم أسباب انخفاض العائدات السياحية لفرنسا ، هو أن الرسالة التسويقية السياحية الفرنسية لم تكن احترافية بشكل كافٍ بل كانت متركزة على العاصمة باريس أكثر بكثير من المدن الأخرى ومن خلال هذه الحملات تم رسم صورة ذهنية للسائح بأن (فرنسا هي باريس) والتي أوجدت ثقافة وسياسة لدى السياح بأن تكون باريس هي البوابة الرئيسية لدخول أوروبا.

وهذا ما انتجته الحملات التسويقية الفرنسية (باريس مدينة هي النور ، مدينة الحب ، مدينة الموضة) ، كما يحلو للبعض تسميتها
وكان الترويج لباريس بمثابة التسويق لفرنسا
حيث ارتبط اسم فرنسا بالمعالم العالمية الشهيرة والمتاحف الباريسية ك ( برج ايفل قوس النصر شارع الشانزليزيه متحف اللوفر يوروب ديزني … الخ ).

هذا الاهتمام والرعاية الخاصة بباريس هو ماجعلها في صدارة المدن العالمية بنحو 50 مليون زائر سنويا وساهم في ايجاد أكثر من 500 ألف فرصة عمل مباشر أو غير مباشر لسكانها الذين يصل عددهم قرابة 2.5 مليون.

ولكن المدن الاخرى لم تحضى بمثل هذا الدعم وهذه الرعاية التي لم تمكنهم من الاستفادة من ال 89 مليون زائر والذين كانوا كانوا قاب قوسين أو أدنى منهم ولكن الخطة غير المكتملة وغياب الاحترافية في إدارة القطاع حرمتهم ذلك ، حيث أن المشروع السياحي الاحترافية المتكامل هو المشروع الذي يدعم جميع المنشآت السياحية الوطنية وجميع المناطق والاقاليم لتحقيق توازن وشمولية في المكاسب السياحية.

ولكي تستفيد السياحة الفرنسية الاستفادة المثالية من ال 89 مليون سائح اعتقد من المهم عمل اكثر ورشة عمل يشارك بها جميع المعنيين من ممثلي المنشآت السياحية وممثلي الأقاليم والمدن لمراجعة الإستراتيجية السياحية واعتماد خطة واستراتيجية وطنية تراعي الشمولية والاستدامة والميزات النوعية لكل مدينة ، للاستفادة أكثر من هذه الأرقام القياسية للزوار ودعم الاقتصاد الوطني بأعلى المكاسب.

من خلال تصميم برامج سياحية داخلية متنوعة وابتكار منتجات سياحية مغرية للسائح تساهم في زيادة حجم الانفاق السياحي داخل الدولة والعمل على تطوير المنتجات المحلية لمواكبتها لرغبات السائح الحالية لإثراء تجربته السياحية.

حيث أنه من المتوقع أن يشهد القطاع السياحي العالمي تحديات مستقبلية أكثر صعوبة والتي قد تفقد فرنسا موقعها في صدارة الخارطة السياحية العالمية اذا لم تبادر في رسم سياسة سياحية جديدة تراعي المنافسة العالمية والتحديات القادمة :

التحدي الأول : النمو الكبير لوجهات سياحية عالمية جديدة ومنافسة كالصين وتايلند وغيرها وهذا ما سوف يسبب أنخفاض في عدد السياح القادمين للوجهات الكبرى.

التحدي الآخر : الانخفاض المتوقع للقوة الشرائية للسياح نتيجة التضخم والازمة الاقتصادية والنزاعات العالمية.

من خلال هذه التجربة العظيمة للسياحة الفرنسية والاسبانية نتعلم الدروس الهامة ونزداد يقينا بأن السياحة صناعة صعبة (تحتاج إلى إدارة ذات كفاءة واحترافية عالية لادارتها) بالشكل الأمثل لتعزيز مكاسبها في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

د.خالد الرشيد
الرئيس التنفيذي
لاتحاد خبراء السياحة العرب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here