فيلم سيدة الجنة  أصل الحكاية  الحلقة الثالثة

لا انكر ان الرواية التي اعتمد عليها الشيخ ياسر الحبيب في فيلمه سيدة الجنة لها بداية وليس لي تكذيبها في هذا المقال . لكني ساحاول تتبعها عقلا ومنطقا بعد إثبات الجزء الواقع منها تاريخيا . فقد حدثت الرواية كما هو معروف بعد وفاة النبي محمد ، وبعد حصول سقيفة بني ساعدة وبيعة ابي بكر التي عبر عنها القول المشهور فلتة وقى الله المسلمون شرها ، حيث تمت مبايعته بعدد قليل من الصحابة قيل ان عددهم خمسة ، وفي اثنائها انزاحت مؤقتا السلطة المدينة الموحدة ، فالتجأ المسلمون الى تنظيماتهم السابقة للاسلام وهو تنظيم العشيرة ، فاجتمع بنو امية الى عثمان ، وزهرة الى عبد الرحمن بن عوف ، واجتمع بنو هاشم في بيت الامام علي ع ، ويعني هذا ان العدد الاكبر من المهاجرين والانصار لم يبايعوا ابا بكر في الايام الاولى ، فبادر الخليفة الاول الى خطبة شرح فيها سياسته بالحكم توسل فيها ارضاء الصحابة وعدم الظهور بمظهر المسيطر عليهم والحاكم بأمره ( لست بخيركم فان احسنت فاعينوني وان اسأت فقوموني ، اطيعوني ما اطعت الله  ) وتعهد بمشاورتهم ، وكانت العقبة الاكبر هي عقبة سعد بن عبادة الذي رفض المبايعة نهائيا وغادر المدينة على اثرها لكي لايصطدم بالسلطة الجديدة ، ولم يتوقع ابو بكر وعمر ان بني هاشم اقرباء النبي محمد سوف يحجمون عن المبايعة ، فكان سقوط السلطة على وشك الحدوث خاصة وان عرب الجزيرة الذين تعب النبي محمد والصحابة في تأليفهم قد ارتدوا ، فكان الموقف من الامام علي حرجا وينبئ بالويل ، واحتج الامام علي عليهم بعدم مشاورة بني هاشم ، وهو خطأ كبير ارتكبته السلطة الجديدة ، فاصبح الكل في حرج فلا السلطة الجديدة تستطيع مقاتلتهم والقضاء عليهم لرمزيتهم الشديدة وتاريخهم الناصع وقربهم من النبي الذي اقام السلطة الاسلامية ، وشعر الهاشميون كذلك بنفس الخطر الذي يتهدد الجميع ، فتجمعت افخاذ قريش الى شيوخهم في المسجد النبوي ،وتجمع بنو هاشم في بيت السيدة فاطمة الزهراء وعلي بن ابي طالب الواقع في الطرف الشرقي لمسجد النبي محمد ، ويتوسط حجرات الرسول ، ويمتاز هذا البيت انه لا طريق الى داخله الا من المسجد ، واتفق كافة المؤرخين بأن منزل علي لا يملك أي باب سوى الباب المفتوح من المسجد ( معرفة المدينة ص 119 محمد باقر النجفي ) ، وهذا الموقع يحدد مسرح الحدث .

كانت هذه التجمعات تنذر بانفراط السلطة لو التقت بالأنصار من مؤيدي سعد بن عبادة ، وخيمت هذه الأجواء العصيبة على التصرفات غير العادية التي رافقت بيعة أبي بكر ، وتصاعد الخلاف على طريقة الاختيار الأولى التي تختلف مع ما تعودت عليه قريش في دار الندوة ، كان الموضوع جديدا ،كما لم يذكر القرآن طريقة محددة لهذا الاختيار . ومنها كان تهديد عمر لبني هاشم بحرق البيت إن لم يخرجوا للمبايعة بعد أن بايع بنو امية وزهرة وتيم وكعب ، واستباقا للخوف العام من الردة التي شملت معظم مناطق الجزيرة العربية ، لجأ عمر الى هذا التهديد المشين الذي اعتذر عنه لفاطمة وعلي فيما بعد   .

 التهديد بالحرق

لم تظهر أية رواية مكتوبة عن عملية تهديد عمر بن الخطاب بحرق البيت في التراث الشيعي ولا السني خلال القرنين الاولين من الهجرة النبوية ، وبعد التقصي والبحث وجدت إن أول من ذكر التهديد بحرق بيت فاطمة هو مصنف أبي شيبة (159 – 235 هج)( كتاب المغازي ج 8 ص 571) وتقول الرواية مع عدم أثقالها بسلسلة السند حيث يمكن مراجعة المصدر اعلاه( كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله ص فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال : يابنت رسول الله والله ما من أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك ، وأيم الله ماذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك ، أن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت ، قال فلما خرج عمر جاءوها فقالت : تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرق عليكم البيت وايم الله ليمضين لما حلف عليه فانصرفوا راشدين ، قروا رأيكم ولا ترجعوا إلي ،فانصرفوا عنها فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر . وقد وافق هذه الرواية كل من : النويري والسيوطي وشاه ولي الله الدهلوي وابن أبي الحديد وإبن قتيبة الدينوري . ومن يقرأ هذه الرواية ويطبقها على مواصفات البيت يستغرب من الزيادات التي وردت فيها لان البيت هو بيت الامام علي وليس بيت فاطمة بمفردها . ان فحوى الرواية يقول ان تهديدا قوليا بالحرق حصل ربما من داخل المسجد .

وتطورت هذه الرواية وتغيرت عند هشام بن عمار (153 – 245 هج ) فقال ( ودخل علي والزبير بيت فاطمة بنت رسول الله فجاء عمر فقال : اخرجوا للبيعة والله لتخرجن ، أو لاحرقنه عليكم ، فخرج الزبير صلتا بالسيف ، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري من بياضه فدق به ، وبدر السيف من يده منه . وذكر الطبري( 224 – 310 هج ) نفس ماذكره هشام بن عمار .

أما البلاذري (ت 279)( انظر أنساب الاشراف ج 1 ص 586) فقد أضاف لتلك الرواية نصا يقول : ان عمر جاء ومعه فتيلة فتلقته فاطمة على الباب فقالت يابن الخطاب أتراك محرقا علي بابي قال نعم . وهو أول خبر أضاف للتهديد القولي بالحرق فعل مادي جديد وهو الفتيلة . ورواية البلاذري ذات سند منقطع من طرفيه ، والفتيلة لا توجد في جميع المخطوطات القديمة للبلاذي ، وكانت الكلمة في المخطوطة غير واضحة حيث ذكر المحقق انها ( قلثين ) وقال ان الصحيح عندي هو فتيلة ، وهو احتمال من المحقق يسقط ذلك الجزء من الاعتبار ، حسب القاعدة المعروفة عند الاحتمال يبطل الاستدلال .

ولغاية هذا الحد من الروايات كان الموضوع عبارة عن تهديد لم يصل الى مستوى الحرق الفعلي ، وخلى من عملية الاعتداء على فاطمة الزهراء وكسر ضلعها واسقاطها جنينها المحسن ، ولم يكن ذلك مقتصرا على الروايات ذات المصدر المذهبي غير الشيعي بل ان كتب الشيعة المعتمدة ككتاب المحاسن للبرقي (ت 274) وبصائر الدرجات للصفار القمي(ت 300) والكافي للكليني(ت 329) لم يذكروا عملية الاعتداء على فاطمة ، ويبدو أن كل هؤلاء لم يطلعوا على روايات الحرق والكسر واسقاط الجنين ولا على كتاب سليم بن قيس ، او بالاحرى لم يظهر هذا الكتاب في زمنهم بل كتب ولفق في زمن الشيخ الصدوق واطلع عليه الشيخ المفيد وتلامذته ، أي خلال فترة حكم الدولة البويهية لبغداد عام 334 .

وفي هذا المورد لابد من ذكر رواية قديمة ذكرها المسعودي( 283 – 346 هج) في اثبات الوصية ( فهجموا عليه وأحرقوا بابه ، واستخرجوا علي كرها وضغطوا سيدة النساء بالباب حتى أسقطت محسنا ) وهي رواية شبه متكاملة عن قصة الفيلم ، فهل تصمد هذه الرواية أمام الاختبار ؟ اقول لا ، لان كتاب (إثبات الوصية) منسوب للمسعودي ونال شهرة متأخرة ، لكن رواياته متناقضة ومتعارضة مع روايات المسعودي في مروج الذهب ، وينسب عدد من المتخصصين الكتاب لمحمد بن علي الشلمغاني(ت 323 هج )( نائب السفير الثالث للمهدي المنتظر ) نظرا لوجود 34 رواية مطابقة لرواياته الموجودة في كتاب الاوصياء والانبياء  ، ويعتبر الشيعة الشلمغاني من الغلاة ( انظر بحث السيد عبد الهادي العلوي في مجلة الخزانة عدد 7 ) وقد ظهر كتاب إثبات الوصية متزامنا مع كتاب سليم بن قيس الهلالي .أما ابن عبد البر ( 368- 463 ) في( الاستيعاب ج 3 ص 975) فقد اكتفى بتهديد عمر قائلا لأفعلن ولأفعلن بدون حرق ولا قبس من نار .

روايات الحرق الفعلي

وهي روايات ذات أصل مذهبي مختلف ذكرت بأن عمر أقبل بشيء من نار أو بقبس من نار ، لكنهم لم يذكروا احراق الباب أو البيت . حيث ذكر ابن عبد ربه الأندلسي ( 246 – 328 هج ) في( العقد الفريد ج 5 ص 13) الذي روى الخبر بصيغة : فأقبل عمر بقبس من نار ..وذكر أبو الفداء ( المختصر في اخبار البشر ج 1 ص 156) فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار فلقيته فاطمة وقالت : الي يابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا قال : نعم أو تدخلوا فيما دخل فيه الامة .

روايات الاعتداء على فاطمة الزهراء:

وهي روايات متأخرة صدرت بعد قرون ويستند معظمها إلى كتاب سليم بن قيس ، حيث

ذكر ابن أبي الحديد ( ت 656 هج ) في شرح نهج البلاغة ج16 ص 271 إن عمر ضرب فاطمة بالسوط وضرب الزبير بالسيف ، ويعود ويذكر نفس رواية ابن أبي شيبة . وجاء في ميزان الاعتدال لشمس الدين الذهبي المتوفى عام 748 أن عمر رفس فاطمة حتى اسقطت بمحسن (  ج1 ص 139 ). وذكر صلاح الدين الصفدي ( 764) إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها   ( الوافي بالوفيات ج6 ص14 )

وأورد بحار الأنوار للمجلسي ( ت  1111 هج) روايتين الأولى مصدرها دلائل الإمامة لابن رستم الطبري(المتوفى بعد 411) ( كان سبب وفاتها أن قنفذا مولى عمر لكزها بنعل السيف بأمره فأسقطت محسنا ) لا يوجد فيها حرق ولا عصر خلف الباب ولا مسمار ، ومن قام بالفعل قنفذ .(١١ص ج ٤٣ ) والثانية هي رواية سليم بن قيس الهلالي (٢٩ص ١٩٧ ج ٤٣ ) التي ساناقشها في الحلقة القادمة

 المسمار

اول رواية ذكرت المسمار الذي دخل في ضلع الزهراء هي رواية مقاتل بن عطية المتوفى عام 505 هج ، وقد وردت في كتاب مؤتمر علماء بغداد في الامامة والخلافة ، وقد ذكر بعض المطلعين على أن الكتاب منسوب إلى الكاتب وليس من تأليفه ، ومن المرجح كتابته بعد وفاة المؤلف .

إن رواية سليم بن قيس الهلالي هي أول رواية احتوت على خبر مقاومة الإمام علي للسلطة الجديدة والتحريض عليها ، وهو ما لم يعضده ويثني عليه المجلسي مثلا ، كما ذكرت الرواية حرق باب بيت فاطمة ،  وضربها بالسوط ، ولكزها بالسيف ، لكن هذه الرواية خلت من عصر فاطمة خلف الباب وإسقاط جنينها وخلت من ذكر المسمار ، وقد قام آخرون فيما بعد بإضافتها إلى القصة .

لقد اكتملت قصة كسر ضلع الزهراء التي اعتمد عليها فيلم سيدة الجنة على أيدي الخطباء و الحكائين ممن لا يطلب أحد منهم صحة الرواية متنا وسندا .

يتبع

حسين سمسم

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here