عبد الكريم قاسم

أجمع معظم الكتّاب الذين كتبوا عن ثورة 14 تموز على أنَّ عبد الكريم قاسم كان وطنياً عفّـاً نزيهاً مخلصاً للعراق محباً لشعب العراق، ولا سيَّما الفقراءُ منهم، وكلّ من عاصر حكمَه لا ينكر ذلك. ولكنَّ هذا ليس بكافٍ، إذ أنَّ تفاعلَـه مع الأحداث يلعب دوراً في نجاح الحكم أو فشله. كان الزعيم عبد الكريم قاسم عنيداً وذا دهاء وإنْ كان محدوداً. ولما لم يكن حزبياً أو عشائرياً ولم يكن له أصدقاءُ كـثـرٌ في الجيش، وجد ضالّته في الحزب الشيوعي ووجد الأخير فيه خيرَ سند وعون. فقد كانت مصلحة مشتركة من حيث نظرتُـهما إلى الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة والعناصر القومية والبعثية وبعض الضباط (الأحرار) ذوي النزعة العدائية التقليدية للشيوعية. كان الشيوعيون مخلصين لقاسم، وكان قاسم حذراً، اِستغلَّهم بادئَ الأمر ضدَّ هجمات ناصر الإذاعية ومؤامراته المتكررة لتثبيت أقدامه، فأبلوْا بلاءً حسناً. ولما استتبَّ له الأمر، وحَـلِـيَ الحكـمُ في عينيه، قلب لهم ظهر المِـجَـنّ. والواقع أنَّ ناقوسَ الخطر أخذ يدقّ بعد تظاهرة الأول من مايس العمالية 1959، حيث حشد الشيوعيون ما قُـدِّرَ عدده بنصف مليون متظاهر جاءوا إلى بغداد من كلّ أنحاء العراق، مما دعا ممثلَ الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة المستر هنري كابوت لودج إلى القول ” إنَّ عددَ أعضاءِ الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفييتي 6 ملايين ولكنه في العراق 8 ملايين “. ( كانت نفوس العراق حينذاك ثمانية مليون نسمة ). بدأ عبد الكريم قاسم يضغط عليهم في نهاية ذلك الشهر. ولما حدثت مجزرة كركوك في 14-16 تموز، خطب قاسم في كنيسة مار يوسف في 19 تموز ناعتاً مَنْ قام بها بالبرابرة والفوضويين وشبّههم بأسوأ من هولاكو، وكان صوته مرتعشاً، ربما من الغضب أو خشية الفتنة أو الاثنين معاً، وأخذ يغمز قناة الشيوعيين، مما أعطى جُـرَعاً قويةً للجِّـهات المضادّة المعادية وشدّ أُزرَهم. ولما كانت المنظمات والإتحادات العمالية والفلاحية والطلابية بيد الشيوعيين، أخذ الزعيم عبد الكريم قاسم يحطِّـم تلك الشبكة، وبدأها بإلغاء ما سُمِّي بلجان صيانة الجمهورية، التي كانت مُنظَّماتٍ شيوعيةً متوغلةً في دوائر الدولة تراقب الموظفين، ثمَّ أكملها بانتخابات جديدة وأخذ يأتي بالجماعات المعارضة كبدائل، بشتّى الأشكال والفنون، وكان يساعده عن طيب خاطر الزعيم أحمد محمد يحيى وزير الداخلية. فهذا الأخير كان لا يُجيز جمعيةً فلاحية ( شيوعية) بحجة تافهة، مثلاً، أنْ يكون الطابع الملصق على الطلب مائلاً أو منحرفاً أو أنَّ التوقيعَ عليه تخطّى إلى الجانب الأيسر منه…إلخ، يجعل الطلب مرفوضاً! وما شابه هذا كان كثيراً. ولعلّ المهزلة الكبرى كانت في إجازة حزب داود الصائغ (الشيوعي) وتمويله بدلاً من الحزب الشيوعي الحقيقي! فبينما كان الحزب الشيوعي (الحقيقي) يحافظ على الحكومة التي ليس فيها أيّ عضو منه ولم يُعترَفْ به (رسمياً)، ويسند قاسم بكل الطرق، كان قاسم يعقد اجتماعاً مع داود الصائغ، في المستشفى الذي يرقد فيه في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 1959 ويخصّه بحديث لينشره في جريدته (المبدأ) التي أجازها قبل أيام قلائل من الإجتماع! والواقع أنَّ الحزب الشيوعي ربط مصيره بقاسم، فما يحدث لقاسم من سوء، يحدث له أيضاً. ولم تكن محكمة العقيد (شمس الدين عبد الله) العرفية التى كانت تحاكم المخلصين للزعيم والشيوعيين، وأصدرتْ أحكاماً اِعتباطية عليهم، بأقلَّ غرابةً، فوجود شاهدين ( أيّـاً كانا )، يحلفان بالقرآن الكريم، كافٍ ليضعَ المُتَّـهمَ (الشيوعيَّ) بين قضبان السّجن. و قد يكون ما ذكره الأستاذ حسن العلوي في هذا الصدد في كتابه (عبد الكريم قاسم رؤية بعد العشرين) وافياً: ” إنَّ شمس الدين ظاهرة فريدة في الحكومات والأنظمة … معارض كبير يقاضي أنصار الحكومة، ويحكم على محبّي زعيمها بالسجن.” فالزعيم عبد الكريم قاسم يعرف هذا جيداً، بل هو من خطّط له، ليُضعفَ فئة ويقـوِّيَ أخرى، وقد قال أيضاً ” القطار يسير والركاب يتخاصمون ولكنه سيواصل السير وسيصل “، ولكن مع الأسف لم يواصل القطار سيرَه ولم يصل! كان قاسم يعتقد ويريد الناس أن يعتقدوا أن الجيش هو من حرَّرهم، ولكونه قائدَ الجيش، فهو إذاً ذو مِنَّـةٍ كبيرة عليهم، ولذا وجبَ على الناس تمجيدُه واللهجُ بفضله مدى الحياة. وفي احتفال أُقيم في عام 1961 (على أغلب الإحتمال) بذكرى وثبة تشرين، وكان ثمة حشد كبير من الناس، فأخذ الزعيم يمجِّـد ثورة تموز كثيراً، ويقلل من وثبة تشرين، فقاطعه المحامي الشاعر علي جليل الوردي، وكان شيوعيا،ً مردّداً هذا البيت :
واللهِ ما تشرينُ إلاّ مِـعبَـر ٌ*** يزهو به تمّـوزُ وَهْـوَ مُظَـفَّـرُ
فأجابه الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان يُعجبه مثلُ هذا التحـدّي، بقوله: إن الشاعر صادق، فهو يعني ” وريش الخوافي قـوَّة ٌ للقـوادم ِ” – القوادم هي ريش جناح
الطائر ويكون كبيراً وقوياً، وريش الخوافي هو الريش الناعم الذي يسند الريش الكبير – . ولما صرح الأستاذ كامل الجادرحي، زعيم الحزب الوطني الدمقراطي، بأنَّ على الجيش الرجوعَ إلى الثكنات وتسليمَ مقاليدِ الأمور إلى سلطة مدنية مُنتخبة ديقراطياً من قبل الشعب، أثار القولُ حفيظَـتَه. وفي اليوم التالي خطب غامزاً قناة السياسيين القدامى متَّـهمَهم بالعجز وناعِـتَهم بـ (ساسة الصّالونات) ومتسائلاً ( أين كانوا يومَ فجَّـرنا ثورة تمّـوز؟) وكان لا يحبّ أن يرى شخصاً قويّـاً محبوباً لدى الشعب سواه . فمثلاً عندما كان العقيد فاضل عباس المهداوي، رئيس محكمة الشعب، يحاكم أحد المتهمين في تمرّد الشوّاف في الموصل (8 آذار 1959)، ذكر أحدُ الجنود الشهود العقيدَ حسن عبود، آمرَ حامية الموصل الذي قمع التمرّدَ، واصفاً إياه بالرجل الحديدي، إختلجتْ عضلات وجه المهداوي ولم يعلق، وكان من عادته التعليق. وفي اليوم التالي ذكر جندي آخر العقيدَ حسن عبود ووصفه بالرجل (الحديدي) أيضاً، وهنا صرخ المهداوي فيه بحدة، أنْ لا رجلَ (حديدي) إلاّ الزعيم عبد الكريم، فضجّت القاعة بالتصفيق والهتاف للزّعيم الأوحد!
وربما كان هذا السَّببَ أيضاً في إبعاده الزعيمَ الركن هاشم عبد الجبار (أخاه في الرضاعة) قائدَ الفرقة الخامسة التي كانت تحمي بغداد، والذي غادر العراق إلى تشيكوسلوفاكيا ومات في أحد قطارات براغ مخموراً. ولذا كان يُبعد المخلصين ولا سيَّما العقائديّين منهم ويقرِّب المصفّقين والطبّالين والانتهازيين والأعداء لإحداث ( موازنة ) يبقى بواسطتها في الحكم، ربما ليس طمعاً أو رغبةً في السلطة، ولكنّه يريد أن يُسعِدَ الفقراءَ من الشعب، فهو يحبهم ويحتاج إلى حبِّهم أيضاً، بل إنَّ حبَّهم دواء له. والحقيقة إنَّ ثورةَ 14 تموز كانت ثورةَ الفقراء أو جاءت لأجلهم. فهو لا(يثق) بأحد فحسب، بل لا يريد أيّـاً من رفاقه أو حاشيته أن يشاركه في هذا الحُـبِّ.
أما إذا لمع نجمُ أحدِ حاشيته أوكسب ثقةً وحباً، ولو محدوداً، من الشعب، فسرعان ما يهمشَّه (يجمّـده) أو يعفيه من المنصب. والواقع أنه، بسياسته غير الحكيمة هذه، أصبح في عزلة واقعياً. وقد أصاب عبد الكريم فرحان عندما تساءل في كتابه -حصاد ثورة ص 232- ” كيف يستطيع قاسم بعزلته وصراعه مع الشيوعيين، وحربه مع الأكراد، وتلاشي ولاء أجهزته أن يكسرَ شوكة الحزب (البعث-) ويذله”. لذا كانت الدائرة الواحدة مزيجاً من طوائف عدة أو أحزاب متنافرة أو آراء متناقضة، لتتخاصم وليبقى هو فوق التيار. وكذا كانت الحال في كركوك.

د. بهجت عباس

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here