محطُّ الرِّحال (قصة قصيرة)

محطُّ الرِّحال (قصة قصيرة)

بالقربِ من القادسية نحو ثلاثة أَميال بمنطقة عُذَيبِ الهَجَانات, التقى ركبُ الحسينِ بجندٍ تعداده أَلف فارس بإمرة الحرِّ بن يزيد الرياحي .

لمحهم الإمامُ قادمين نحوه يتصببون عرقًا من شدِّة الحَرِّ , قد تيبست شفاههم من الظمأ , أمر فتيانه أن يسقوهم فشربوا حتى رووا , جلسوا في ظلال الخيول , فأَذَّنَ الحَجَّاجُ بن مسروق الجعفي لصلاة الظهر , التفت الإمامُ إلى قائدهم سأله : أَتصلِّي بأصحابك وأُصلِّي بأصحابي ؟

أجابه الحُرُّ : بل نصلي جميعا بصلاتك .

تحاورا بعد الصلاة ,نطق الحسين : حَمَدَ الله وأثنى عليه، أَمّا بعد، أَيّها النّاس، فإنّكم إن تتقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أَهل البيت أَولى بولاية هذا الأَمر عليكم من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أَنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم.

تكلم الحُرُّ قائلا: إنّا ـ والله ـ ما ندري ما هذه الكتب الّتي تذكر!

نادى الإمام يا عقبة بن سمعان، أخرج الخُرجينِ اللذينِ فيهما كتبهم إليّ. فأخرج خُرجينِ مَملوئينِ صحفاً، فنشرها بين أَيديهم.

تلعثم الحُرُّ وحرَّك لسانه : فإنّا لسنا من هؤلاء الّذين كتبوا إليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد.

خاطبه الإمام : الموتُ أَدنى إليك مما تريد , فأمر بعد العصر أَصحابه بحمل أَمتعتهم وركوب رواحلهم, وتقدمهم في المسير مُغَيِّرا اتجاهه عن الكوفة .

نادى الحر فرسانه لقطع الطريق عليهم , صاح به الحسين : ثكلتك أمّك! ما تريد؟

ـ أما والله، لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال الّتي أنت عليها ما تركت ذكر أُمّه بالثكل أَن أَقوله كائناً من كان، ولكن ـ والله ـ ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأَحسن ما يقدر عليه.

سأله الإمام : فما تريد؟

ـ أن تصحبني إلى ابن زياد .

زجره الحسين قائلا : إذن والله لا أتبعك .

ـ إجابه الحُرُّ : إذن والله لا أدعك .

صاح به الحسين : إنَّها الحرب إذن !!

ـ لانَتْ عريكةُ الحُرِّ , تكلَّم : إنّي لم أؤمر بقتالك، وإنَّما أُمرت أَلّا أفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإذا أَبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة، ولا تردّك إلى المدينة، لتكون بيني وبينك نصفاً حتّى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أَردت أَن تكتبَ إليه، أَو إلى عبيد الله بن زياد إن شئت، فلعلّ الله إلى ذاك أن يأتي بأَمر يرزقني فيه العافية من أَن ابتلى بشيء من أَمرك.

سار الحسين في أصحابه والحُرُّ يسايره , تراءى لهم راكب يغذ السير ويطوي الرمال , لبثوا بمكانهم ينتظرون , كان رسول ابن زياد يحمل كتاباً :أَمَّا بَعْدُ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عَلَيْك رسولي، فلا تنزله إلّا بالعراء فِي غير حصن وعلى غير ماء، وَقَدْ أمرت رسولي أَن يلزمك وَلا يفارقك حَتَّى يأتيني بإنفاذك أَمري، والسلام.

أَراد الحسين استئناف سيره متجها صوب مسيل ماء , منعه الحُرُّ المُحَاصَرُ من رسول ابن زياد بنظراته كالرقيب , غَيَّرَ الحسين اتجاهه وسار بركبه والفرسان من جانبيه .

خشي الحُرُّ أَن تفلت الفرصة منه , فأَصر على نزول الركب حيث انتهت خطواته .

تقرب زهير بن القين من أذني الإمام هامساً : يا بنَ رسولِ الله، إنّ قتال هؤلاء أَهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به.

ردَّ عليه الحسين بصوت خافت : ما كنت لأبدأهم بالقتال.

تقدم زهير بمقترح آخر : سِرْ بنا إلى هذه القرية حتى تنزلها فإنَّها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أَهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم.

سأله : وأيّة قريةٍ هي؟

ـ هي العقر.

دعا الإمام : اللّهمّ، إنّي أعوذ بك من العقر، نزل وأَلقى نظرة على الفضاء الموحش حوله , فسأل : ما أسم هذا المكان ؟

ـ أسمه كربلاء .

لا أعلم هل أختفى تفاؤل الحسين وراء احساس لا يوصف ؟

صورة في ذاكرته, أَهي نبوءة الأَمس , وواقع اليوم , ومصير الغد!

يستعيد خواطر يتذكر مشهدَ يوم كان مع أَبيه أَمير المؤمنين في طريقه إلى صفين فوقف على نفس المكان قائلاً : هنا مَحَطُّ رحالهم , ومهراق دمائهم .

أَهي الحكمة الإلهية تقود حياته بين مطالعها ومغاربها مذعنه لقدرها الحكيم بتقدير العليم ؟

………………………

*للكاتب مجاهد منعثر منشد /المجموعة القصصية (ظمأ وعشق لله) , الفصل الرابع رحلة من المدينة إلى الكوفة, ص73ـ74.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here