حقن الدماء.. هل التراجع عن حافة الهاوية العراقية ما زال ممكنا؟

ليس من المبالغة القول ان هذه الساعات تعتبر الاكثر قتامة في المشهد العراقي منذ اغلاق صناديق الاقتراع العراقية في العاشر من تشرين الاول/اكتوبر الماضي، ذلك ان التأزم السياسي والاحتقان الامني، لم يبلغا مثل هذا المستوى من الخطورة والمخاوف من وقوع الصدام الداخلي الذي يتأفف منه عموم العراقيين.

وقد لا تكون التظاهرات المضادة في شارعين متواجهين، الشرارة التي يخشاها الكثيرون، لكنها بالتأكيد تؤشر الى التنافس البرلماني، الذي تحوّل الى تنافس سياسي، ثم الى توتر بين “جبهتين” على أقل تقدير، انتقل بوضوح الى احتقان في الشارع، ثم الى اتهامات متبادلة باسقاط الدولة العراقية نفسها.

أغلب الأنظار تلوح في الأفق إلى “منقذ” قادر على “تدوير الزوايا”، أو أقله منع تحويل الجمر الكامن تحت الرماد، الى نار قد تأكل الاخضر واليابس، فبالامس، دعا رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني، الخصماء إلى اربيل لاحتواء الأزمة، كما دعا رئيس تحالف الفتح هادي العامري إلى الحوار ايضاً وعدم التصعيد.

بما في ذلك المرجعية الشيعية الاعلى، التي ربما تجد نفسها واقعة بنوع من الحيرة بين معسكرين، اقله داخل “البيت الشيعي”، حيث يتجهان نحو مواجهة “كسر العظم” التي يريدها كل طرف ان تكون الاخيرة.

وبرغم ذلك، فإنه حتى افتراض المراقبين “حسن النوايا” بين المتخاصمين، بأنهما يمارسان مجازفة اللعب على حافة الهاوية، لا يبدد ترقب الشارع العراقي لما سيؤول اليه الوضع في الساعات وربما الايام المقبلة، بعدما دعت قوى “الاطار التنسيقي” الى التظاهر امام اسوار المنطقة الخضراء، فيما أنصار التيار الصدري يعتصمون داخلها في مبنى البرلمان، استجابة لنداء زعيمهم بالانتقال من “تحرير المنطقة الخضراء، الى احداث “تغيير جذري للنظام السياسي والدستور والانتخابات”.

ليس هناك في الذاكرة العراقية منذ انتخابات 2021، وحتى في السنوات الماضية، ما ينذر باحتمال وقوع صدام دموي، كالذي يلوح في الافق الان، فيما يبدو الوسطاء المحتملون، كأنهم مغيبون، من واشنطن المنكفئة اقليميا، وايران المتهمة بأنها طرف في الصراع العراقي الداخلي، وتركيا التي لا تمتلك سمة الوسيط في هذه اللحظة المتوترة معها بعد حادثة “برخ”، ولا السعودية التي كما يقول المراقبون، “يسعدها” الحد من النفوذ الايراني عراقيا واقليميا.

وانتقلت الهواجس العراقية الى مرحلة مثيرة ومقلقة، منذ ان استعصت جهود تشكيل الحكومة الجديدة التي حاول الصدر قيادتها منذ ما بعد انتخابات اكتوبر، وصولا الى لحظة استقالة النواب الصدريين من البرلمان، في 12 حزيران/يونيو الماضي، والتي كان يفترض ان تفتح كوة في جدار الانسداد السياسي، ولكن ذلك لم يحصل.

والان، اصبح العراقيون امام صورة تنافر حادة، اذ بينما اتهم الاطار التنسيقي” الصدر بمحاولة “اسقاط الدولة”، وبالتالي دعا انصاره الى النزول للشارع لحماية الدولة ومؤسساتها وقواها الامنية، فان زعيم التيار الصدري في الاتجاه المعاكس بقوله ان “الثورة العفوية التي حررت المنطقة الخضراء كمرحلة أولى لهي الفرصة الذهبية لكل من اكتوى من الشعب بنار الظلم والإرهاب والفساد والاحتلال والتبعية”، مضيفا انها “فرصة عظيمة لتغيير جذري للنظام السياسي والدستور والانتخابات التي ان زوّرت لصالح الدولة العميقة، باتت أفضل انتخابات حرة ونزيهة، وإن كانت نزيهة وأزاحت الفاسدين، باتت مزورة”.

وكانت من شرارات تفاقم الازمة ترشيح الاطار التنسيقي لمحمد شياع السوداني لمنصب رئيس الحكومة، وهو ترشيح دفع الصدريين الى اقتحام المنطقة الخضراء للمرة الثانية خلال ايام اعتراضا على ذلك، بالترافق مع نداء الصدر للموالين له بالقول أيها الشعب العراقي… كلكم على المحك… هبّوا لطلب الإصلاح في وطنكم… ادعو الجميع لمناصرة الثائرين للإصلاح بما فيهم عشائرنا الأبية وقواتنا الأمنية وأفراد الحشد الشعبي”.

والان، بات مجلس النواب معطلا بحكم الامر الواقع القائم والمتمثل باعتصام المحتجين، وهو المكان المفترض ان تتلاقى فيه القوى الممثلة للشعب، من اجل محاولة معالجة الازمة السياسية والاتفاق على حلول، تخرج العراق مما وصف بانه اطول انسداد سياسي منذ 12 سنة.

ويضاف الى الوضع الملتهب خروج انصار قوى الاطار التنسيقي الى الشارع، تحت شعار “الدفاع عن الدولة”، حيث حذر الاطار التنسيقي قائلا “نرى تصعيداً مستمراً وصل حد الدعوة إلى الانقلاب على الشعب والدولة ومؤسساتها وعلى العملية السياسية”.

وفي اشارة واضحة الى التيار الصدري، قال الاطار التنسيقي ان “الشعب العراقي وعشائره وقواه الحية لن يسمحوا بأي مساس بالثوابت الدستورية من قبل جمهور كتلة سياسية”، مضيفا ان ما يجري من جانب خصومهم الصدريين هو بمثابة “دعوة للانقلاب على الشرعية الدستورية”، ما ييعيد الى الذاكرة الانقلابات الدموية التي عاشها العراق طيلة عقود الدكتاتورية”.

وفي المقابل، فانه من الواضح بحسب المراقبين ان الصدريين ربما يسعون الى محاولة احداث تشتت في صفوف الاطار التنسيقي، وهو ما تمثل في محاولة احراج رئيس تحالف الفتح هادي العامري ومطالبته بالانسحاب من الاطار التنسيقي والتنديد بتصريحات رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي التي ظهرت في التسجيلات الصوتية المسربة مؤخرا.

ومما يدل على عمق انعدام الثقة بين الاطراف، ان موقف “وزير الصدر” صالح محمد العراقي هذا حول العامري، جاء برغم ان زعيم تحالف الفتح وجه دعوة جديدة الى التيار الصدري والاطار التنسيقي ايضا، من اجل تجنب اللجوء الى التحشيد الجماهيري الذي قد يؤدي الى خروج الوضع عن السيطرة، مشددا على اهمية “تغليب العقل وضبط النفس والتأني” واللجوء الى الحوار، وتجنب حرمة الدم في الشهر الحرام، مكررا بذلك تحذير رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قبل 3 ايام، حول الدم في “هذا الشهر المقدس والمحرم”.

لكن السؤال الذي يجول في رؤوس العراقيين في هذه اللحظات بالذات، عما اذا كان الخروج من هذا المنحدر ما زال ممكنا، ام ان الامور أفلتت من عقالها فيما يتهم “الاطاريون” الصدريين، بتنفيذ محاولة انقلاب، ويتهم الصدريون “الاطاريين” بسحق مشروع حكومة المستقلين بعد وعودهم لها بـ”الاحذية”، بتسمية محمد السوداني لرئاستها الذي وصفوه بانه “مرشح الهالكي”، في اشارة الى المالكي.

وبالاجمال، تبدو في الافق المحتمل لمسار أزمة الاحتقان الحالي عدة احتمالات، من بينها كما يقول المراقبون، التدخل الحاسم من المرجعية العليا من اجل لملمة صفوف “البيت الشيعي” بداية، ومن بينها ايضا التدخل الخارجي من جانب سفراء دول غربية كانوا في الاساس يتحركون خلف الكواليس في الاسابيع الماضية من اجل محاولة احتواء الموقف، أو الركون إلى أربيل واجراء حوار مفتوح.

وبينما تبدو حكومة الكاظمي في موقع لا يتيح لها النجاح بمسعى تصالحي يئد نار الفتنة المتطايرة بين المعسكرين، ويجد الكورد والسنة أنفسهم في مأزق عدم الرغبة في الانحياز الفج لصالح طرف على حساب الطرف الاخر، فان المتفائلين من المراقبين يراهنون ربما على مناورة اخيرة قد يقدم عليها اي من الطرفين، بشجاعة، لحقن الدماء.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here