لمن لا يعرفونه بعد: هذا هو نوري المالكي

هذا هو رجل القانون والدولة وزعيم دولة القانون والأمين العام لـ”حزب الدعوة الإسلامي.” ظهر بهيئة هزيلة ومضحكة. ظهر بهيئة زعيم عصابة يتجول حاملاً سلاحه. تقول الصورة أيضاً: ” لو ألعب لو أخرّب الملعب”. هذا هو نوري المالكي.

قبل أيام، بالتزامن مع انتشار التسجيلات المسربة لرئيس الوزراء الأسبق وأمين عام “حزب الدعوة الإسلامي” نوري المالكي، كنت في دكانة أخي صباحاً، فسألته عما إذا سمع وتابع انتشار التسجيلات. لم يكن جواب أخي بأهمية كلام الرجل الذي كان يجالسنا. رجل في متوسط العمر ويبدو عليه الوقار والأناقة بلباس تقليدي. يسكن في منطقة عند أطراف المدينة. هذه المنطقة تسمى “قرية عگيل”، أغلبيتها تدين بالولاء لنوري المالكي. قال: “الله يْخَلَّي أبو سريوة- أي نوري المالكي، ويطول لنا بعمره ويحرسه، جان مدللنا. ينطينا رواتب خيرات الله ومخصصات خطورة وحوافز ومكافآت”. وأضاف: “هذا مدري شسمه الكاظمي، يابس وجاف ما شفنا منه شي”. وأكثر نقطة مفزعة تفوه بها: “عمّي، من الأخير، إحنا ناس مو وطنيين، نريد الي ينطينا فلوس ويشبعنا خبز ويدهن زردومنا، ما نريد الوطنيات ولا شعاراتها”.

بطاقة شخصية

نوري كامل محمد حسن أبو المحاسن المالكي، من مواليد 1950. مسقط رأسه في الهندية- قضاء طويريج التابع لمحافظة الحلة.
جده أبو المحاسن هو أحد قادة ثورة العشرين. انضم نوري المالكي إلى “حزب الدعوة الإسلامية” عام 1970. حصل على شهادة البكالوريوس من كلية أصول الدين في بغداد وشهادة الماجستير في اللغة العربية من جامعة صلاح الدين. عام 1980 أصدر الطاغية صدام حسين قراراً حظر بموجبهِ نشاط “حزب الدعوة” فأصبح أعضاؤه مهددين بالإعدام، ما حدا بالمالكي وعدد من أعضاء حزبه إلى الفرار خارج البلاد، لجأ المالكي إلى سوريا وبقي فيها حتى عام 1982 ثم انتقل إلى إيران، إلا أنه عاد إلى سوريا وبقي هناك حتى الغزو الأميركي للعراق. حصل على رئاسة الوزراء لدورتين متتاليتين 2006-2014.

عام التحولات الكبرى

منذ ترؤسه لرئاسة الوزراء، تصاعد العنف والخطف والقتل وتفشت الطائفية وخطاباتها، وظهرت التصفية على الهوية والمفخخات التي مشّطت العاصمة بغداد كما في بقية المحافظات التي كانت لها حصتها من الدم.
وعندما اشتبكت القوات العراقية مع ميليشيات جيش المهدي في خطة فرض القانون التي أطلقها نوري المالكي، لم تكن المعركة بين السلطة والخارجين عليها، بل معركة لفرض سطوة المالكي وصورته وليس فرض الأمن. اشتبك معهم لأنهم خارجون على سلطته هو لا السلطة العراقية. يتضح ذلك بشكل جلي، مع خلق شخصية قيس الخزعلي ومدّها بالمال والسلاح والغطاء القانوني. يعزز ذلك، صورة ميليشيا عصائب أهل الحق التي صنعها نوري المالكي وما تسببت به من قتل وترهيب ونهب و”شفط” لأموال البلاد. في تلك السنوات، كان من يحمل هوية انتساب لـ”عصائب أهل الحق”، يستطيع أن يلعب كيفما يشاء بالأمن والناس والدولة ومؤسساتها.
ملأ المالكي السجون بأتباع التيار الصدري بحجة مخالفتهم القانون، مع حادثة قضاء سوق الشيوخ- ذي قار، وفي الوقت نفسه أنشأ عصابته بزعامة قيس الخزعلي. اصطف الناس مع المالكي ولمعت صورته وتوسعت شعبيته، لأنه وضع حداً لجرائم ميليشيا جيش المهدي، تحت شعار: عدو عدوي صديقي. يضاف إلى ذلك، نجاحه بإنعاش الخطاب الطائفي المقيت وتعبئة الجماهير، وتطييف المؤسسات الحكومية وحشوها بعناصر تسبّح بحمد المالكي وتذعن له بالطاعة.

استكمال الكوارث والانتكاسات

جاءت حكومة نوري المالكي الثانية مستندة إلى الالتفاف على الدستور العراقي المليء بالثغرات. كانت حكومة غير شرعية، لأن “القائمة العراقية”، الحزب المكوّن من قوى متعددة سنية وشيعية وكردية بقيادة رئيس الوزراء السابق أياد علاوي حصلت آنذاك على مليونين ونصف المليون من الأصوات المنتخبة في انتخابات عام 2010، وحصدت 91 مقعداً نيابياً داخل البرلمان وهي أعلى حصة قياساً ببقية القوى. وكانت، أي القائمة العراقية، هي من ستتولى مهمات تشكيل الحكومة. لكن كان لنوري المالكي رأي أخر. تصاعد “هرمون” الطائفية مرة أخرى في تلك المرحلة الحرجة للقوى الشيعية بعد تصدر القائمة العراقية بأعلى الأصوات والمقاعد، ما جعل المالكي يتحالف داخل الائتلاف الوطني العراقي مع أنداده مثل مقتدى الصدر بزعامة كتلة الأحرار وعمار الحكيم بزعامة المجلس الأعلى الإسلامي من أجل تفويت الفرصة على القوى السنية وعدم ترك زمام أمور البلاد بيدهم، لأن شخصيته محقونة بالطائفية السمجة ولا يسمح لغيره أن يتولى قيادة البلد. إضافة إلى ذلك، لم تشبع المالكي جرائم عصابته بقيادة قيس الخزعلي، بل سعى- مع قيادات إيرانية كقاسم سليماني- إلى صناعة ميليشيات أخرى، مثل كتائب “حزب الله” و”حركة النجباء” و”كتائب الإمام علي” و”سرايا الخراساني” و”ربع الله”. المفارقة أن قيس الخزعلي وبقية قادة الميليشيات كانوا في ما مضى تحت عباءة مقتدى الصدر ومن رجالاته وأتباعه. سيطرت تلك الميليشيات بصورة تدريجية على منافذ ومناصب مفصلية وإدارات متنفذة. ثم كانت تعبئة المؤسسات بـ”الرعاع والهمج والفشلة” وصناعة بيادق تؤمّن ترسيخ صاحب النعمة والفضل عليهم. وهذا متعارف عليه: أتباع المالكي ينعمون بالخيرات والفرص والوظائف. لا يعبأون بمن يعطيهم بل بالعطاءات نفسها. وخلال 8 سنوات أنهكت مقدرات البلاد من موارد وبشر، لم تخل سنة واحدة من الاحتجاج ضد سياسات دولته. لكنه كان ماهراً بتكميم الأفواه وفض الاعتصامات بالقوة والاعتقالات والقتل وتغييب الشباب. آخر ما ختم به نوري المالكي فترة حكمه: تسليم المحافظات إلى قوات “داعش” وترك آلاف الشباب المغدورين في قاعدة “سبايكر” لقمة سائغة أمام الموت، وتهجير آلاف العائلات من مناطقهم وتجريفها، وتغييب آلاف الناس.
خلال فترة حكمه وصلت مجمل موازنة العراق العامة إلى نحو 700 مليار دولار. ومع استلام حيدر العبادي رئاسة الوزراء، لم يجد في خزينة الدولة غير الفتات وكانت حكومته حينها أمام حرب مجهولة المصير.

جمهور المالكي

من المتعارف عليه أن العشائر والكثير من القوى التابعة لها تتبع المالكي وتتغنى به. فقد دعَم المالكي العشائر ومدّها بالسلاح والمال، فتغوّلت سلطة القبيلة على الشارع العراقي والحياة الاجتماعية والسياسية والأمنية. ويضاف إلى هؤلاء جمهور “حزب الدعوة الإسلامي” الكبير والضاربة جذوره بقوة في المجتمع العراقي، لا سيما أن المالكي هو أحد قادة الحزب والمسؤول عن تنظيمات الداخل العراقي أثناء فترة وجوده في سوريا وإيران في الثمانينات، تغلغلت جماهيره في مفاصل الدولة ومؤسساتها.
لكن ولاء تلك الجماهير مشكوك فيه. وبذلك غابت وخفتت صورة المالكي بصورة تدريجية بعد سطوع قادة الفصائل الشيعية وعلى رأسهم أبو مهدي المهندس، وقائد “فيلق القدس” قاسم سليماني في فترة الحرب ضد تنظيم “داعش”.
في الأيام الأولى لانطلاق احتجاجات تشرين العراقية، خرجت مجموعة من جماهيره بعد دعواته إلى التظاهر. لم يخرج إلا العشرات فقط، فتهكّم عليهم شبان تشرين، بسبب ضعف قدرة المالكي على التحشيد، لكنه، أراد لصورته واسمه أن يعودا إلى الساحات والإعلام والتداول اليومي في الشارع العراقي، فكانت النتيجة أنه تحوّل إلى أضحوكة.

ما قبل التسريبات وما بعدها

مع مقتل أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني، انفرط عقد الميليشيات الموالية لإيران وتراجعت سطوتها، إذ غاب عنها المدبر والمفكر والمخطط الأمهر. حدثت خلافات بين قادة الميليشيات، لأن الوجه الجديد الجنرال في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني، وريث سليماني، لا يمتلك سلطة سليماني على الفصائل المسلحة. عادت صورة المالكي من جديد إلى الساحة مع غياب قاسم سليماني. تشكّل تحالف “الإطار” بضم الفصائل والقوى الشيعية بالضد من حكومة الكاظمي ومقتدى الصدر. عادت زعامة المالكي إلى السطح، لكنه لم ينجح هذه المرة بكسب عطف الشعب بدليل الانتخابات الأخيرة ونسبة الأصوات التي حصل عليها والمقاعد النيابية داخل البرلمان، قياساً بما كان عليه حاله قبل احتجاجات تشرين.
في التسجيلات المسربة للمالكي، أوضح علاقته بإيران والحرس الثوري الإيراني. وصف الحشد الشعبي وقادتهم “بأمة الجبناء” ووصف الطائفة الشيعية بـ”أراذل”. أفصح عن أهم مفرداته التي عاش بها واعتاش عليها: الحقد والضغينة من الطائفة السنية. “ما ننطيها” من أهم شعاراته التي كان يجاهر بها، ومفادها: لا يريد للآخرين مشاركته السلطة، أي بقية الطوائف: عليهم الانصياع والإذعان لما تشتهي نفسه المأزومة المتلذذة بإثارة النعرات والنزاعات وتهديد أمن الناس والسلم المجتمعي. لكن ما وراء كلامه وهن وضعف وتخبط: يريد أن يحتمي بالعشائر بعدما مدّها بالسلاح والجاهزية لندائه، ينوي تسليح مرتزقة تحميه من أي خطر يلوح بالأفق. هذا بعدما كانت الفصائل تسبّح بحمده، وبعدما كانت القوة العسكرية العراقية “الفرقة الذهبية” تسمى جيش المالكي.
في إطلالته الأخيرة، بعد التسريبات الصوتية، وبعد دخول أنصار مقتدى الصدر إلى المنطقة الخضراء في المرة الأولى قبل أيام، خرج المالكي في شوارع “الخضراء” برفقة مسلّحين حاملاً رشاشاً آلياً.
تقول الصورة: هذا هو رجل القانون والدولة وزعيم دولة القانون والأمين العام لـ”حزب الدعوة الإسلامي.” ظهر بهيئة هزيلة ومضحكة.
ظهر بهيئة زعيم عصابة يتجول حاملاً سلاحه. تقول الصورة أيضاً: ” لو ألعب لو أخرّب الملعب”.
هذا هو نوري المالكي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here