دولة سومر، اقدم حضارة على وجه الارض !

د. رضا العطار

بغية تذكير المواطن بجلال عظمة الوطن، العراق الحبيب، وشموخ مجده الزاهر،

المتوج بدولة سومر، انشر تفاصيلها في اربعين مقالة، انشرها السبت من كل اسبوع !

ذكر الباحث توركليد جاكبسون من جامعة شيكاغو في كتابه – الديمقراطية البدائية – مايلي : ( حوالي منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، ظهرت في جنوب وادي الرافدين، ثقافة، كانت هي الأولى من نوعها في العالم، ضمن حضارة، دولة سومر، اتخذت – الديمقراطية البدائية – سبيلها في السياسة. يدير السلطة العليا فيها مجلس يشترك فيه جميع الأحرار. اما وقت الأزمات، كحالة الحرب، فكان المجلس ينتخب ملكا، يخوله مطلق الصلاحيات، ويخلعه حال انتهاء الأزمة ) .

دعونا نغادر مصر التي ما زالت أثار حضارتها العظيمة باقية في اهراماتها الضخمة، المصنوعة من الحجر الصلد، متجهين الى العراق الحديث، نحو حضارة اندثرت آثارها، واستحالت مدنها الى ركام، فالتلال الشهباء الصغيرة التي تمثل ماضي العراق تكاد لا تُذكّر المرء بأي من عظمته التليدة في غابر الأزمان.

ليس في ذلك من ضير، لأنه يتفق والذهنيتين الأساسيتين اللتين بنيت عليهما هاتان الحضارتان. فلو عاد المصري القديم الى الحياة اليوم، لسُرّ لمرأى اهرامه وهي باقية بعد. لأنه كان يعطي الأنسان ومنجزاته الملموسة معنى جوهريا يفوق ما ترضي بأعطائه معظم الحضارات. لكن اذا عاد العراقي القديم الى الحياة، لما اضطرب كثيرا لمنظر آثاره وهي حطام، لأنه كان يعرف دائما معرفة عميقة بأن :

(الأنسان ايامه معدودة، ومهما صنع فما هو إلاّ ريحُ تهب ). فمركز الوجود ومغزاه لديه بعيدان عن الأنسان ومنجزاته، بعيدان عن الأشياء الملموسة، انما تكون كامنة في قوى غير ملموسة تحكم الكون.

أما كيف توصلت الحضارتان المصرية والعراقية الى هاتين الذهنيتين المتباينتين ؟

الواحدة تثق في قوة الأنسان ومعناه الأبعد، والأخرى لا تثق ….. سؤال عسير.

ف( ذهنية ) حضارة ما، هي نتاج مناهج حياتية معقدة متداخلة تتحدى التحليل والتنقيب. ولذا فأننا سنشير الى عامل واحد يبدو انه لعب في ذلك دورا مهما، هو عامل البيئة. وقد اكدت الأحداث التاريخية على الدور الفعال الذي لعبته البيئة في تشكيل نظرة المصري القديمة الى الحياة. فقد نشأت الحضارة الفرعونية في بلد مرصوص حيث تقع القرية لصق القرية، والمنطقة محاطة بحواجز جبلية تحميها. يرتفع النيل الأمين كل سنة ليخصب التربة ويحييها من جديد. فكأن الطبيعة هنا قد وضعت هذا الوادي في حرز حريز لكي يسعد الأنسان نفسه، دونما عائق.

اما حضارة ارض الرافدين فقد نمت في بيئة مختلفة كل الأختلاف. ولئن نجد فيها الأيقاع الكوني نفسه، في تعاقب الفصول، وسير الشمس والقمر والنجوم. فاننا نجد فيها ايضا عنصرأ من القسر والعنف. فدجلة والفرات يختلفان عن النيل، اذ قد يفيضان على غير انتظام، فيحطمان سدود الأنسان ويغرقان مزارعه. وهناك رياح لاهبة تخنق المرء بغبارها، وامطار عاتية تحوّل الصلب من الأرض الى بحر من الطين، وتسلب الفلاح العراقي حرية الحركة. فهنا في العراق لا تضبط الطبيعة نفسها. انها ببطشها تتحكم في مشيئة الأنسان وتدفعه الى الشعور بعجز مقاومته و تفاهة قواه، ازاء جبروتها.

وذهنية حضارة الرافدين تعكس هذا كله، فليس هناك ما يغري الأنسان على الأعتداد بنفسه عندما يتأمل قوى الطبيعة، كالزوابع الرعدية والفيضانات السنوية. فقد علق احدهم قوله : ( لُهُب نورها الرهيبة تكسو الأرض كالثوب ) . وقال غيره يصف الأثر النفسي الذي يخلفه الفيضان :

(الفيضان الواثب لا يقوى احد على مقاومته، يهز السماء وينزل الرجفة بالأرض، ويحطم يانع الخضرة في حقول القصب، ويغرق الحصاد إبان نضجه. مياه صاعدة تؤلم العين، طوفان يطغي على الضفاف، فيحصد اضخم الأشجار، عاصفة عاتية تمزق كل شئ، بسرعتها المطيحة في فوضى عارمة).

ان الأنسان اذ يقف في وسط قوى كهذه يرى مقدار ضعفه، وقد نال منه الخوف، وادرك ان قوى عملاقية تتلاعب بمقدراته. فيفعمه القلق والتوجس. وتجربة الطبيعة التي اوجدت هذه الحالة الذهنية، قد جعلت الرافدي يبتكر لنفسه فكرة خاصة عن الكون. وفي الوقت نفسه لم يكن غافلا ابدا عما يدور حوله من ايقاعات الكون الرائعة، فقد رأى في الكون نظاما لا فوضى فيه، غير ان ذلك النظام لم يكن امينا يُطمئن اليه. لقد شعر ان في تلافيفه حشدا من الأرادات المتنازعة، تنذر بأحتمالات وقوع الفوضى.

فالقاطنون الرافديون كانوا يجابهون طغيان الطبيعة التي تتبع هواها، بقوى فردية، وبموجب هذا الانطباع، لم يكن العراقي يرى ( النظام ) الكوني كشيء معطى، بل كشيء تحقق بفعل الأرادات الكونية الكثيرة، وكلها رهيب، ولذلك جعل فهمه للكون يعبر عن نفسه في صورة الجمع والتوحيد بين الأرادات، اي في صورة الأنظمة الأجتماعية، كنظام العائلة مثلا. وبعبارة مختصرة، رأى العراقي القديم النظام الكوني في دولة سومر يتمثل في الدولة.

ونحن اذ نتقدم بهذا الرأي هنا، سنبحث اولا الفترة التي نعتقد انه نشأ فيها، ثم نتناول ما الذي كان يراه الرافديون في ظواهر العالم حولهم، لكي نوضح للقارئ الكريم كيف استطاعوا ان يطبقوا نظاما اجتماعيا كالدولة على عالم الطبيعة الذي يخالفها اساسا. وفي النهاية سنبحث هذا النظام، النظام السومري بالتفصيل ونعلق على القوى التي لعبت ابرز الادوار فيه.

* مقتبس من كتاب السومريون، الواح طينية لصموئيل كريمر مدير متحف الاثار الشرقية، شيكاغو 1963

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here