دولة سومر، اقدم حضارة على وجه الارض ، زراعة

دولة سومر، اقدم حضارة على وجه الارض ، زراعة (*) د. رضا العطار

فإذا افترضنا، ان فكرة اهل مابين النهرين عن الكون كانت فكرة قديمة، قدم حضارة الرافدين نفسها، لوجب علينا ان نسأل: اذن كيف استطاعوا ان يتوصلوا الى مثل هذه الفكرة ؟ . فبالنسبة الينا يكون كلامنا وهْما ولا ريب لو شبهنا الكون بالدولة، كأن نشبه النجوم والمياه والهواء بالموظف. وهذا يؤدي بنا الى التسائل عما كان يراه العراقي القديم في المظاهر المحيطة به وبالعالم الذي يعيش فيه.

لعل القارئ الكريم يذكر من الحلقات السابقة بأن ( الدنيا لا تبدو للأنسان البدائي جمادا ام فراغا بل عارمة بالحياة ) وان البدائي ( قد يجابه اي ظاهرة من ظواهر الطبيعة في اية لحظة، لا مثل – هو – بل مثل – انت – . و ( الأنت في هذه المجابهة تكشف عن الفردية والخواص والأرادة) وقد ينجم عن التجربة المتكررة للعلاقة بين( الأنا والأنت ) نظرة شخصانية لا تناقض فيها. فتتشخص الاشياء والظواهر المحيطة بالأنسان على درجات متفاوتة. فهي حية بشكل ما، ولها ارادة خاصة، ولكل منها شخصية محددة. وحينئذ نجد امامنا ما وصفه الباحث المعروف ( اندرو لانغ ) في معرض الذم

( ذلك الخليط الذي لا تفرز عناصره، والذي تعيش فيه الناس والحيوانات والنباتات والجمادات، بما فيها النجوم، على مستوى واحد من الشخصية والبقاء الحيّ ).

ولعل الأمثلة القليلة التالية تستطيع التدليل على ان عبارة لانغ هذه تصف موقف العراقيين القدماء من ظواهر الطبيعة المحيطة بهم وصفا حسنا. ففي الوقت الذي يعتبر ملح الطعام في نظرنا حاليا، هو مادة جماد، كان في نظر العراقي القديم كائن حي، له ان يلجأ اليه اذا وقع ضحية ساحر. فهو عندئذ يخاطب الملح على الوجه التالي :

( ايها الملح ! يا من خُلقتَ من مكان نظيف، جعلك ( الآله انليل ) طعاما شهيّا، بدونك لا تمد مائدة غذاء، بدونك لا ينشق من البخور اله او ملك او امير. انا وقعت اسيرا للسحر. محموما في احابيله. ايها الملحْ ! حلْ عني العقدة ! . ارفع عني السحر . فأنني ارفع اليك تهاليل المجد والتسبيح )

كذلك الحال بالنسبة الى القمح، له قوى خاصة، يلجأ المرء اليه كأنه كائن حيّ. فإذا قدّم الأنسان شيئا من الطحين لأسترضاء احد الآلهة المغضبين، خاطب الطحين بقوله :

( سأرسلك الى الهي الساخط والهتي الساخطة، فقد امتلئ القلب من كليهما غضبا عليّ. اصلح بيني وبين الهي الساخط والهتي الساخطة ) .

وهكذا، فإن كل من الملح والقمح ليس بالمادة الجماد التي نعرفها، بل ان كليهما في نظره كائن حيْ. ذو ادوات شخصية. وهذا ينطبق على اية ظاهرة اخرى في عالم ما بين النهرين، حيث ينظر اليها العراقي القديم بروح غير تلك التي ينظر بها الى امور الحياة اليومية الاخرى، كما الحالة عليه في السحر والدين والفكر التأملي. ففي عالم كهذا خير للمرء ان يتحدث عن العلاقات بين ظواهر الطبيعة كأنها علاقات اجتماعية، وعن نظامها في اداء وظائفها كأنها نظام من الأرادات، اي كدولة.

بيد اننا حين نقول ان ظواهر الطبيعة كانت حيّة في نظر العراقي القديم، وانها كانت مشخصة، نجعل الأمور ابسط مما كانت بالفعل. فقد تغاضينا عن امر، كان العراقي القديم يشعر به. فليس من الصواب ان نقول ان كل ظاهرة هي ارادة : بل يجب ان نقول ان في كل ظاهرة ارادة وشخصية – انهما فيها – وهما كذلك وراءهما، لأن الظاهرة المحسوسة، لا تحدد لوحدها الارادة والشخصية، ولا هي كل ما فيها من ارادة وشخصية.

فمثلا : لقطعة معينة من الصوان، شخصية واضحة وارادة واضحة. فهي سمراء ثقيلة صلبة، لكنها تنصاع بضربة من اداة الصانع فتنكسر، مع ان الأداة التي كسرتها مصنوعة من مادة اقل صلابة من الصوان. ( وها انذا هنا صوانة سمراء صلبة وثقيلة وارضى بأن اكسر ). والسبب في ذلك هو انها عوقبت من قبل الأله ( نينورتا ) بسهولة الكسر.

وهكذا فإن العراقي القديم كان يحس بانه في كثير من الظواهر الفردية كقطعة الصوان يجابه ذاتا واحدة. فكأنه يشعر بوجود مركز قوى عام مشحون بشخصية معينة وان المركز نفسه شخصي. ومركز القوى الشخصي هذا يعم اثره في الظواهر الفردية ويمنح الخواص التي يبدو عليها : ( الصوان ) لكل قطعة منه.

الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

*مقتبس من كتاب الواح طينية، السومريون لصموئيل كريمر جامعة شيكاغو 1963

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here