الارض والناس، وهذا حال العراق

الارض والناس، وهذا حال العراق * د. رضا العطار

الناس، هؤلاء الذين تصنعهم الارض ويصنعونها، تغيرهم الارض ولا تغيرهم، يغيرونها ولا يغيرونها، هؤلاء الذين خُلقوا بهذه الاعداد الغفيرة يطلعون مع الشمس اطفالا ويافعين، صبية وصبايا، يملأون الازقة القديمة حركة ولعبا، يضربون الكرة في باحات الدور التي عفت عليها الايام، يسرعون عبرها الى مدارسهم الجديدة – هؤلاء الذين يطلعون مع الشمس نساء، يردن المياه الدافئة ويقفلن عائدات الى اكواخهن – هؤلاء الذين يخرجون مع الشمس رجالا وكهولا يحملون المساحي، يحفرون ويزرعون ويحصدون – هؤلاء الذين تطلع عليهم الشموس وهم في دأب، وتغيب عنهم، وهم في حركة – هؤلاء الناس، القديمون قدم التاريخ، العريقون عراقة دجلة والفرات والحضارات الاولى المندثرة، وهم لا يندثرون، ولا يزيدهم التاريخ الا بقاء وحضورا.

الارض، والماء، والطين، الديمومة، الخصب بعد كل فناء، انها مواضيع العراق الابدية، الارض وما تبعث من احشائها من حياة قد لا تبقى الا بعناية باريها الذي يحبها، فينحاز لها ويكثر منها – كهذه العصافير التي تملأ السماوات، الحاطة على اقصاب الاهوار، فتحمل كل قصبة في اعلاها عصفورا وكأن راسها المرفوع قد انبثق عن زهرة من ازاهير الجنة – – والمدن الصغيرة تتوالد وتنتشر وتجثم على التلال الترابية التي تحجب في بواطنها مدنا سبقتها، ليبقى (الحبل السرّي) غير منقطع مع خصوبة الدهور، حقا انها هي تاريخ العراقيين.

ترحال منعش ومثير، ليس للعين وحدها بل للحواس كلها ومحرك لمخيلة ما مضى، وما هو ماض، وما سوف ياتي – – – والترحال ليس فقط من اقصى مياه الجنوب الى اقصى جبال الشمال، وليس فقط بين تجمعات المياه التي تعكس منارات الفضاء، بين الازقة في المدن العتيقة وابوابها المرصعة بالمسامير الثقيلة، والاسواق التي تبعثرت فيها الكتب والصور، ليس فقط بين مراقد الائمة المتلألئة بزخارفها وآياتها الكريمة، الحاضنة رجالها المعممين الملفعين بعباءاتهم وعلومهم – انه ايضا ترحال بين اناس هدهم التعب والحرمان والانتظار، بقدر ما هو ترحال بين الوجوه الناضجة بقواها المذهلة : وجوه تضحك وتتأمل، مسجلة ملامح اللهو والحب والسأم والمعاناة. وجوه يبدو بعضها كأنه جاءنا عبر القرون من الجداريات الاشورية التي حفظها نمرود، ويبدو بعضها كأنه احياء لتماثيل سومرية تعود الى ما قبل التاريخ.

انه ترحال بين اصوات الضرب لمطارق الصفارين، وقهقهات المرح للصبية عبر السهول الرحاب – وهو ترحال ايضا بين المفارقات والتناقضات كأي ترحال ذكي بعينين مفتوحتين، غير انه دائما ترحال المحب حين يلتقي بالمحبوب، يرى كل شامة في وجهه حسنا، وكل عيب مدعاة للمزيد من الحب – هذه الشناشيل الخشبية المتداعية. هذه الجدران التي يكشف لبخها عن طابوقها – هؤلاء الشيوخ المدخنون على مقاعدهم الخشبية الطويلة ازاء اقواس البوابات الشامخة – – هؤلاء الكسبة بما يدفعون من عربات بدائية محملة بنوافلها، هذه الحاصدة الفتية بمنجلها التائه بين الحصيد والسماء، هؤلاء النساء الحاملات على رؤوسهن اطباق اللبن كالمنائر – انها كلها مثار العشق المتأجح ككل عشق، بين اهزوجة الفرح وشهقة البكاء.

ويتواتر التقابل بين البلى في المباني والخلفيات وبين نضارة الاطفال والصبية ازاءها بوجوههم الضاحكة وقاماتهم المستبشرة وهم يلعبون ويتصايحون ويتقافزون في الاعياد وغير الاعياد كأن الشيخوخة المحيطة بهم ستجد انبعاثا جديدا لكل ما هو يانع يتالق في حيويتهم، تفجرهم في كل اتجاه – – يؤكد ذلك دوما تراكب سطوع الشمس وحلكة الظلام التي تنثرها الشمس بسخاء على كل شئ، فالارض هنا كما الناس، كما الماء والنبات، وتزاوجها مع الطين، هبة من هبات ثنائية الضياء والعتمة، كأنما من هذه الثنائية انطلقت اغنية هذه الارض وهؤلاء الناس – اغنية تملأ حناجر الايام. اغنية من اغاني العراق القديمة، حزينة تارة، مفرحة تارة اخرى.

هؤلاء وغيرهم صورهم الفنان العراقي ناظم رمزي بعدسة كامرته، لا يعرف ذلك الا قلة قليلة من فناني العالم انه يستخدمها بهذا (الاسود والابيض) الذي هو اقوى تعبيرا واصدق عملا من كل لون – – ولعل القليلين يعرفون ان الفن الطباعي مدين بالكثير لرمزي، منذ ان انشأ مطبعة صغيرة – كان عليه ان يتغلب على بدائيتها، بذكائه وموهبته واصراره على الجودة مهما كان الثمن، وبالاخص في شكل وتصميم بعض المجلات التي اشتهرت في العراق منذ اوائل الستينيات : (العاملون في النفط) عبورا الى (افاق عربية) ووصولا الى (فنون عربية) – والاخيرة هي مجلة عربية فصلية التي لم يصدر ما يضاهيها اخراجا ورونقا. وفي اثناء ذلك تتلمذ عليه عدد من افضل المصممين الذين شكلوا عماد التصميم في الطباعة في بغداد – – – فالفنان ناظم رمزي هو من صُنع تراب العراق ومياهه وشموسه.

* مقتبس من كتاب معايشة النمرة لمؤلفه جبرا ابراهيم جبرا.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here