الأهوار.. في «عرس بنات آوى»!

رشيد الخيّون

أقامت المعارضة العِراقية، وجلها مِن الأحزاب والجماعات الدينية، الدُّنيا ولم تقعدها مِن أجل الأهوار، وبينها مؤسسات دينيَّة، كذلك كان الإعلام الغربي والأميركي يُحشد مِن أجل إنقاذها مِن التَّجفيف، في التسعينيات، وظلت الحملة تتصاعد حتى 2003، ليعود تجفيفها بما أثبتناه بعد «عرس بنات آوى».
فسرعان ما همد الباكون عليها همود الموتى بعد 2003، وتبين أن أول رئيس وزراء «دعويّ»، وكان حزبه يهتف بإنقاذ الأهوار، لم يعرف مِن أين ينبع دجلة والفرات! ولا مَن ادعى أنَّه عالم ذرة، وكانت عنده جمعية خاصة بالأهوار بلندن، يعرف تاريخها ومساحتها. لأنَّ الجمعيات بأوروبا تحصل على دعم مالي، وفق قوانين خاصة بدعم النشاط الاجتماعيّ، فيبدو الفساد وخراب القيم جاء عالقاً بالضَّمائر!
تتعرض الأهوار اليوم إلى التجفيف الأبدي، وانقراض كائناتها، وكلّ ما يتعلق بها مِن أدب وغناء وثقافة، ولم ينبس أولئك الصَّارخون بكلمة، بعد أنّ استغلوا مكامن البردي والقصب وكواهينها (النهيرات أو الجداول) إلى نصرة جيش أجنبيّ، وهي الآن تتحمل وزر التجفيف الأخير للأهوار، بقطع الأنهار الصَّابة إليها، ولا أحد يتحدث ويشجب السُّدود العملاقة، التي يُقيمها الجار الآخر لإلغاء دجلة والفرات مِن الوجود داخل العراق، وعندها ينتهي كلَّ شيء، حسب كتاب مواطنينا الصَّابئة المندائيين المقدس، الذين بجفاف الماء بدأ العِراق يجف منهم: «كلُّ مَن عملَ باطلاً سيبقى هنا… مكبلاً بعذاب ربَّه إلى أنْ يجف الفرات مِن منبعه إلى مصبه، ويجري دجلة خارج مجراه، إلى أن تجف جميع المياه»(كتاب الكنزاربا)، وها هي اللَّحظة قد حانت.
ثبتت المعارضة، التي تسلمت شأن العِراق بغفلة مِن غفلات الزَّمن، وجمعياتها البيئية والحقوقية، فكان لكلّ حزب ومؤسسة دينيَّة منظمة «حقوق الإنسان»، ثبتت أنَّها هازئة بالعراقيين، بعد أنْ زيفت الوطنيَّة بجعل العمالة واجباً مقدساً للأجنبيّ، فلا صوت لها لجفاف الأهوار، ولا احتجاج لقتل مئات الشَّباب، بل تعدت حدود الحياء باتهامهم والتّحريض عليهم بفتاوي ظلامييها! لأنّ نصرة الأهوار اليوم، والاحتجاج ضد القتل، إدانة للولاة الأجانب، فالسَّدود سدودهم والخطط التي قُتل بها الشَّباب خططهم. فما بات يُسمع لطنابير تلك الجمعيات نغمةً، ولو بأضعف الإيمان.
مثلَ ابن بيئتها الجاحظ(ت: 255 هـ) البردي والقصب بهيبة النَّخل وعظمته، نقلاً عن أحدهم: «قصبةٌ خيرٌ مِن نخلةٍ»(كتاب البلدان). فمِن النّخلةِ الغذاء والعلف، وعمارة السَّكن، ووسائل العيش كافة، فلا يرمى من ساقها ورأسها شيئاً، كذلك القصبة ببيئتها نافعة كلُّها. منها تشيد البيوت، وحديثاً صُنع الورق، تألفها الأسماك والطُّيور، لتشكل بغاباتها بيئة مِن أندر بيئات الدُّنيا.
ويقول الجاحظ بفضلها: «وبحقٍّ أقول: لقد جَهدتُ جهدي أنْ أجمع منافعَ القصب، ومرافقه، وأجناسه، وجميع تصرفه، وما يجيء منه، فما قدرت عليه، حتَّى قطعته، وأنا معترف بالعجز مستسلم له»(المصدر نفسه).
استغلت الأهوار في مشروع سياسيّ مخاتل، سيمسح العراق مِن الوجود، انتهى إلى انقراضها الأبدي، بعد أنْ لاح الأمل بعودتها لأيام، لكن مثلما عبر العراقيون عن الأمر القصير بكناية «عرس واويَّه»، أيّ بنات آوى(الشَّالجي، موسوعة الكنايات العاميَّة البغداديَّة)، ينتهي الارتباط بعد الزَّفاف.
لشاعر مجهول وما استشهد به قاضي القضاة أبو الحَسن الماورديّ(ت: 450هـ): «وقالوا يعود الماءُ للنهر بعد ما/ خَلتْ منه آبارٌ وجَفَّتْ مَشارعُهْ/ فقلنا إلى أنْ يرجعَ الماء عائداً/ ويُنبتَ شَطّاهُ تموتُ ضفادعه»(أدب الدُّنيا والدِّين). مات كل شيء بانتهاء زفة بنات آوى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here