حين سجنوا مصر كلها فى 1981

محمد سيف الدولة

[email protected]

هذه حكاية من تاريخ مصر حين واجه الناس نظاما مستبدا باطشا انتهك الدستور والقوانين، وصادر الحقوق والحريات، وقضى على العدالة وأمم الحياة السياسية وحظر المعارضة وطاردها، واعتقل من يريد منها، ونشر أجواء من الشك والتخوين والتحريض والكراهية، وحكم قبضة الامنية على كل شئ.

***

فى مثل هذه الايام منذ 41 عاما، عاشت مصر محنة اعتقالات سبتمبر الشهيرة، حين انطلقت قوات الامن وسيارات الترحيلات لتعتقل آلاف المصريين وتشحنهم الى السجون.

بررها السادات حينها بان هناك فئات مخربة تهدد الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي وسلامة الوطن مما يستوجب اتخاذ تدابير استثنائية لإنقاذ البلاد. وقال بالنص فى خطابه فى 5 سبتمبر 1981:

((منذ فترة ليست بالقصيرة حاولت بعض الفئات المخربة في مراحل متعددة إحداث فتنة طائفية بين أبناء الأمة وعملت جاهدة للقضاء علي وحدتها الوطنية، مستعملة في سبيل تحقيق أغراضها بعض الشعارات المضللة والوسائل غير المشروعة نفسية ومادية لتعويق مسيرة الشعب في طريق تنميته وازدهاره وديمقراطيته، ..

وفي الآونة الأخيرة بصفة خاصة وقعت أحداث جسيمة هددت الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، إلا أن هذه الفتنة الباغية قد استرسلت في غيها واستهانت بكل القيم والقوانين، وتنكبت عن الطريق السوي وسلكت سبيل العنف والإرهاب وسفك الدماء وتهديد الآمنين، كما أن بعض الأفراد قد استغلوا هذه الأحداث وعملوا علي تصعيدها، الأمر الذي يجب معه اتخاذ إجراءات سريعة وفورية لمواجهة هذا الخطر الذي هدد الوحدة الوطنية وسلامة الوطن..))

***

كانت القائمة الاولى للمعتقلين تضم 1536 شخصا، من الكتاب والمفكرين والسياسيين والمثقفين الذين ينتمون الى كافة التيارات الفكرية والسياسية المصرية بلا استثناء. ولأول مرة تجد القومى مع الاشتراكى مع الليبرالى مع الاسلامى، والشيخ مع القس فى زنازين واحدة أو عنابر مشتركة.

كان من ابرز المعتقلين، فتحى رضوان، عبد العزيز الشوربجى، عصمت سيف الدولة، نبيل الهلالى، حلمى مراد، فؤاد سراج الدين، فريد عبد الكريم، محمد حسنين هيكل، محمد فايق، عبد العظيم ابو العطا، محمود القاضى، عمر التلمسانى، مصطفى مشهور، الشيخ المحلاوى، الشيخ كشك، اسماعيل صبرى عبد الله، فؤاد مرسى، عبد الغفار شكر، حسين عبد الرازق، عبد المنعم ابو الفتوح، حمدين صباحى، كمال ابو عيطه، ابو الفضل الجيزاوى، لطيفة الزيات، امينة رشيد، ميلاد حنا، ابو العلا ماضى، كمال السنانيرى، عبد العظيم مناف، صلاح عيسى، عبد العظيم المغربى وآخرين.

***

وتم تكليف اجهزة التحقيق، بالتعاون مع وزارة الداخلية، بتقسيم المعتقلين لفرق وجماعات، وتفصيل وتلفيق التهمة المناسبة لكل فريق. وشهدت جلسات التحقيق مهازل نتيجة تهافت التهم والأوراق.

ولم يقتصر الأمر على الاعتقالات، بل صدرت حزم إضافية من القرارات ضد عديد من الشخصيات والمؤسسات الأخرى:

· فتم نقل بعض أعضاء هيئة التدريس والجامعات والمعاهد العليا من وظائفهم بذريعة ممارستهم أنشطة لها تأثير ضار على الرأي العام وتربية الشباب، وتهدد الوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو سلامة الوطن.

· كما تم نقل بعض الصحفيين والعاملين بالمؤسسات الصحفية القومية واتحاد الإذاعة والتليفزيون والمجلس الأعلي للثقافة إلي هيئة الاستعلامات بنفس الذرائع.

· وتم التحفظ علي أموال بعض الهيئات والمنظمات والجماعات والجمعيات بذريعة انها مارست نشاطاً أو أعمالاً هددت الوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو سلامة الوطن.

· كما تم حل بعض الجمعيات لنفس الذريعة.

· وتم الغاء التراخيص الممنوحة بإصدار بعض الصحف والمطبوعات مع التحفظ علي أموالها ومقارها.

· كم تم عزل البابا شنودة من منصبه، وتعيين لجنة خماسية من الاساقفة للقيام بالمهام البابوية، وهو القرار الذي صاحبه اعتقال عشرات من المسيحيين والزج بهم فى السجون ضمن القائمة الاولى، المذكورة عاليه، للمتحفظ عليهم كما كانوا يسمونهم وقتها.

***

وخرج رجال السادات، وصبية النظام فى البرلمان والمنابر والاعلامية والصحفية، يبايعونه كما يفعلون مع كل رئيس، بل ويزايدون عليه ويصرخون بأعلى أصواتهم ((أن اضرب بيد من حديد، فالشعب معك ووراءك))

وخرجت مانشتات الصحف الحكومية تتحدث عن المؤامرات والخونة والعملاء والفتن الطائفية وتختلق مزيد من التهم والادعاءات وتضخم وتبالغ فيها بغرض التشهير والطعن فى وطنية وشرف المعتقلين.

كانت ايام سوداء على مصر، لم يخفف من وقعها سوى ان الجميع بدون استثناء كانوا جنبا الى جنب فى السجون، فهونت وحدتهم فى الظلم، عليهم وعلى ذويهم. كانت مصر كلها مسجونة.

لقد كان هناك حالة وحدوية قريبة الشبه بحالة ميدان التحرير فى الثمانية عشر يوم الأولى من الثورة من 25 يناير الى 11 فبراير 2011، والتى أحب دائما أن أسميها ((الـ 18 البيض)).

***

كان السبب الذى اعلنه السادتيون فيما بعد تبريرا لهذه الحملة، هو انه اراد تأمين الجبهة الداخلية وحمايتها من اى معارضة او قلاقل، يمكن أن تعطى ذريعة لاسرائيل لإلغاء أو لتعطيل انسحابها المزمع من سيناء فى ابريل 1982.

أما السبب الحقيقى فهو ان القوى الوطنية المصرية كانت فى حالة مخاض ثورى فى مواجهة السادات ونظامه وكانت فى سبيلها الى تشكيل جبهة وطنية موحدة لإسقاطه، بعد ان سلم مصر للأمريكان، وتصالح مع العدو الصهيونى ووقع اتفاقيات كامب ديفيد التى قيدت السيادة المصرية فى سيناء، وأخرجت مصر من مكانتها العربية والاقليمية، وسلم ادارة الاقتصاد المصرى لصندوق النقد الدولى ونادى باريس، وفتح الباب لرأس المال الاجنبى ووكلاءه من رجال الاعمال المصريين لاستباحة ثروات مصر ومقدراتها، ناهيك عن تعميق سياسات الاستبداد بترسانة من الاجراءات والقوانين المقيدة للحريات.

ولكن للأسف الشديد، أدى اغتيال السادات فى اكتوبر 1981، والإتيان بمبارك خلفا له، الى وأد هذا الحراك الثورى الوطنى وتعطيله وتأجيله 30 سنة، لينفجر بقوة فى يناير 2011، ولكن هذه المرة بأجندة تركز على الاصلاح السياسى والحريات والمطالب الديمقراطية مع تراجع واضح للمطالب الوطنية ضد التبعية والصندوق وكامب ديفيد وأمريكا و(اسرائيل).

ولكنها رغم ذلك، لم تصمد طويلا هى الأخرى، ليكتب على مصر أن تنتظر لسنوات وربما لعقود أخرى لا يعلم مداها الا الله، الى يوم تسترد فيه الحركة السياسية المصرية مشروعها الوطنى الأصلى الذى يوحد تياراتها الفكرية والسياسية تحت اهداف الاستقلال والحرية والعدالة الاجتماعية معا.

*****

القاهرة فى 3 سبتمبر 2022

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here